الضوء ضوء الكتابة، الدخان دخان الأيام الخوالي، الحياة مطية الأوجاع التي على أشكالها تقع الذاكرة صبورة، مطالبة بمزيد صبر، عليها أن تحتمل لدغات عقارب النوستالجيا المتربصة بها تربص المنون. مثخنة هي الذاكرة بالجروح القديمة، كما هي ضاجّةٌ بالأوقات الجميلة الماتعة كأنما هي مرطبات لشفاه جافة ومشققة.
بلاغة الاقتصاد
هذا الحنين الشاسع كسهول «دُكّالة» ـ موطن الكاتب- يترامى على الصفحات البيض ويتشكل لحماً وعظماً وروحاً، منبعثاً من جديد نصّاً سيرذاتيّاً، تخاله رواية، تخاله نصا عصيا عن التجنيس الأدبي. ثمة خيط ناظم يربط مقاطع الحكي المخترق بأنواع كتابية متداخلة، هذا الخيط حبكة، ليست بالحبكة التقليدية (بداية – عقدة – نهاية)، وإن كانت السيرة الذاتية تنصاع لهذه التراتبية السلطوية، إلا من حملة معاول الهدم المستبصر الذي لا يهدم هكذا عبثاً، إنما يهدم ليبني بناء جديدا، يهدم التراتبية ليبني حرية النص في أرجاء الذاكرة والمخيلة المحايثة لها (في مقام السيرة) مثل حارس الجمال من قبحيات التقريرية. هدم التراتبية لصناعة أشياء رائعة تحت الأنقاض.
لهذا يتشظى النص السيرذاتي مقاطع تنحاز إلى الاقتضاب؛ فالذات الساردة تحفظ «نعمة اللغة العربية»، تدري دراية العارف أن تحصيل الندرة المشعة في عالم الكتابة يمر عبر اقتصاد اللغة: الاقتضاب كنز لا تفنى دلالاته، وأيضا كثافته تفتن بما هي فتنة معاصرة تتحاشى التطويل أو الإطناب. السيرة تريد قول كل شيء وتختار أن تقوله بأقلّ كلفة، دونما استرسال. وعلى حد تعبير الأديبة والباحثة الأكاديمية العالية ماء العينين، فإن «الكاتب وهو يسترجع سيرته لا يقول كل شيء، ولا ينصاع إلى البحث في دروبها عن التفاصيل، ولكنه في الوقت نفسه لا يتعمد إخفاء أي شيء لقناعة تبدو عميقة بأن كل لحظة طيلة تلك الحياة، تستحق الاحتفاء». لقد قالت السيرة الولادة، وقالت التاريخ، والهجرات، والطفولة، واليتم، والأبوّة والعمومة. وقالت بأن ثمّة جدًّا فارع الطول كان يهدي حفيده الفواكه الجافة اللذيذة. قالت بأن الشعب خرج محتجّاً على الدولة التي جعلته يجوع، وأن العمّ سعيد جرح حيّ (وأن يكون الجرح حيّاً فهناك ألم كبير وعذاب)، كان ينضب حزناً وكمداً على رحيل الأحباء. حزن العم موغل في دماء القرابة. وقالت بأن مسعود القروي الذي ترك الحرث وأتى بالنسل والحصان، جُنّ لما مات حصانه/ سلواه في الغربة (المدينة غربة القرويين). فالتنقل بين القرى والمدن والبلدات قدر عائلي؛ من قرية النواصرة بدكالة إلى اليوسفية إلى الخميسات إلى سيد علال البحراوي إلى الخميسات من جديد. الأمكنة التي ربت العين الثالثة، عين شاعر يقترف السرد كما اقترفه في هذا المحكي السيرذاتي.
معرفة الوجع لا تقتضي الصبر عليه فقط، بل الاصطبار غاية الصبر، صبر على الصبر ذاته. عاش أيامه الأولى بعد الفقد هكذا: «يوماً على ظهر يوم، أدرج وأسقط، ألهو وأبكي، أمرض وأتعافى».
درب اليتم والآلام
السيرة هنا سير بصيغة الجمع؛ هي سيرة ذاتية بقدر ما هي سيرة غيرية – جمعيّة. السيرة الفردية لمّا تكون عاكسةً لسيرة جمعية هي امتلاء، والنص الممتلئ بثيمات وبؤر توتر تغري بالسفر في الوقائع الهاربة بين متاهات الذاكرة، التي تلح عليها شرنقة الخيال. الذاكرة فراشة بأجنحة قزحية، وكل جناح منها سيرة لوحدها.
ما إن أتمّ الصغير عامه الثالث حتى فُجع بموت أبيه في حادثة سير، ترملت الأم الشابة، ورُزئت العائلة، ليعود إلى القرية/ قرية النواصر بدكالة. حتى إن كان الأعمام والأخوال والجد يعتنون به، فالعناية الأبوية لا نظير لها. هكذا ذاق مرارة اليتم، واكتوى بنار الفقد؛ فقد الأحبة مؤلم والأشد إيلاماً فقد الأب: «عرفت معنى اليتم واصطبرت عليه». معرفة الوجع لا تقتضي الصبر عليه فقط، بل الاصطبار غاية الصبر، صبر على الصبر ذاته. عاش أيامه الأولى بعد الفقد هكذا: «يوماً على ظهر يوم، أدرج وأسقط، ألهو وأبكي، أمرض وأتعافى».
هل شركاء اليتيم يتامى بدورهم؟ يتامى إذ يحسون بمشاعر الفقدان، يحسون بالمعاناة والمكابدة التي تفترس الصغير وإخوته، وتنهش نضارة شباب الأم. هؤلاء الشركاء هم أفراد العائلة الذين خففوا عن كاهل اليتيم وطأة صقيع الفقد القارس، حملوا بعض الدفء وحاصروا ضراوة اليتم بالحنان والعطف، وإن كانوا هم أيضا ملدوغون به. لهذا اقتسم الشركاء الوراريّون إٍرث اليتم، حتى بحيرة «ورار» التي يعود لها النسب، كأنما هي بدورها اقتسمت بعض اليتم، وزالت عن الوجود. هكذا تحرر الولد من «ثقل الشعور باليتم ومن وطأة الخوف»، لأن الغياب حجّة.
ليست الصورة رمادية تماماً، إذ تخللتها إشراقات تسر القلب وتسلي: «ثم سرعان ما تفتحت عيناي على عالم أتخيله أشبه بالسحر والخرافة: مساقط الماء، مواسم الحصاد الذي لم ينقطع وما يعقبه». اللسان كما لو كان محبوسا في قوقعة، يشكو الطفل من حالة لسانه: «شكوت من العيّ ولم يطلق الله لساني إلا بعد أن دخلت الجامع، وتهجيت بحروف منزل كتابه» (الجامع باللهجة المغربية يعني الكتاب القرآني). اللغة العالمة تحرر الألسن، لغة عارفة هي كلام الله في كماله وجلاله، كيف للألسن أن لا تستقيم إذ يجري الكلام الإلهي عليها؛ هي بركة القرآن. تحرر اللسان ليتحرر الإنسان، وأول الكلام لسان وآخره أقلام. أول العهد بلغة العرب كلام نزل من السماء، للسان أن يتلمظ العربية الرائقة ذات المرادفات الكثيرة والتراكيب المدهشة والإيقاعات الساحرة، لغة إيقاعية تشنف الآذان، حتى لمن لا يفقه شيئا منها. لم يظفر اللسان وحده بحرية الحركة والانطلاق، الأنامل الصغيرة أيضا أجبرت مكرهة على «اكتشاف» الأقلام: «ولقد حملنا بين أناملنا المرتجفة أقلاما من القصب نظل نحكك بها ألواحنا الخشبية التي تتلألأ بحروف من صمغ حتى لا تكاد تبين».
شركاؤه في اليتم لم يجعلوه فريسة للفقد بالكلية، الجد الطويل القامة والجدة التي خففت عنه ألم الختان وغيرهما، ومشاركته في أعمال القرية من رعي غنم واحتطاب وجمع الروث للطهي وجلب الماء من البئر. هذه الأعمال شريكة أيضا في تبديد الوحشة، التي كادت تنال منه نيل الكواسر، والشركاء هنا ليس بمعنى اقتسام الألم، فهؤلاء أنسوه الألم إلى حد ما.
أصاب داء الهجرة القرية، تناقص أهلها مع مرور الوقت، وحتى عائلة العمّ سعيد دب فيها التناقص بعد أن صال وجال في عائلته الكبيرة: «بقي وحيدا يذرع الدار الكبيرة بعد أن انصرف عنه آل الوراري بقضهم وقضيضهم».
أضحت المدن تغوي القرويين، بيد أن العم سعيد المخلص للأرض باع أشياء وأشياء مرغما تحت ضغط الزوجة «المهذارة» وأبنائها، من الثور إلى الشاحنة، لكنه أبى بيع هكتارات من أرضه. قررت الأم الخروج من القرية والالتحاق بأختها في مدينة الخميسات، وبعد المكوث في بيت الخالة بضعة أيام دبرت لهم بيتا مجاوراً لبيتها يقيمون فيه، وسط حي شعبي صاخب بأصوات الباعة والمشاجرات النهارية والليلية، وفي هذا الشارع المزعج وقعت حادثة سير كادت تودي بحياة الصغير. وبعد المعافاة من الحادثة اشترت الأم ثياباً جديدة للولد وأخذته لمحل التصوير، ثم دخل إلى مدرسة ابن سينا التي تحف الشارع المقابل لها أشجار الأكاليبتوس. المدرسة – ويا للمفارقة – تتوسط «الخيرية» (دار الأيتام) والمستشفى. لهذا كان دوي صفير سيارات الإسعاف ونواح النساء الأمازيغيات والعربيات كذلك، يوقظ في أعماقه وأعماق أقرانه الإحساس بالموت. يوماً على ظهر يوم، تتسلل فكرة الموت إلى حجرات الدرس، وتزاحم الطلاب الصغار مقاعدهم وطاولاتهم الخشبية ومحابرهم المقعرة.
فكرة الموت لا يبدّدها في ذهن الصغير إلا حلوى البائع المراكشي الأسمر «تيبجا» ومزاحه الأبوي، كان يشيع البهجة النهارية التي تجعل صفير سيارات الموت يتلاشى، غير أن الألفة الصباحية اختفت.. اختفت العربة وصاحبها، ليندسّ خبر محزن بين الزبائن الصغار.. مات «تيبجا».
فالسيرة سيرة جيل كذلك في سيرة جيل: «لا نقرأ فقط مرحلة مهمة وتأسيسية من حياة هذا الشاعر المميز، بل نتقرى ملامح مرحلة تاريخية مهمة من مراحل المغرب الحديث، سنوات الحلم، والسنوات العجاف، وسنوات الرصاص».
سيرة جيل
وضع الكاتب عنواناً دالّاً لهذا المقطع «الخبز يا مولاي»، يلخص مطالب الشعب من ساكن القصر، الخبز الممزوج بالسياسة، لطالما كانت مدعاة للرصاص أن ينهال على رؤوس الجوعى، أذعنت الدولة لشروط صندوق النقد الدولي وسنت سياسة التقويم الهيكلي سنة 1984 التي ترفع بموجبها الدعم عن المواد الغذائية الأساسية، وفي طليعتها الخبز. هكذا مست معدة الفقراء وهم غالبية الشعب، فخرج الشباب إلى الشوارع منددين بقرار الملك، فقابلهم جند الملك بالرصاص والخطف والمعتقلات السرية والعلنية. خرج من خرج معتوها أو معطوبة بعض أطرافه في أحسن الأحوال من شدة التعذيب، وهناك من مات تحت وطأته
أو قتل برصاصة حاقدة.. ودفن المئات في مقابر جماعية سرية لم يكشف بعضها إلا منذ سنوات قليلة فقط، والباقي مطمور في بئر أسرار المخابرات. وكما أشار إلى ذلك الشاعر والمترجم المغربي نور الدين الزويتني، فالسيرة سيرة جيل كذلك في سيرة جيل: «لا نقرأ فقط مرحلة مهمة وتأسيسية من حياة هذا الشاعر المميز، بل نتقرى ملامح مرحلة تاريخية مهمة من مراحل المغرب الحديث، سنوات الحلم، والسنوات العجاف، وسنوات الرصاص».
شعراء وشعراء
القدر الجميل كان شعراً، حمل إليه «ميزان الذهب في صناعة أشعار العرب». للوهلة الأولى ظنّه كتاب طلاسم سحرية، ثم سرعان ما انغمر في خضم البحور وتفعيلات الأوزان، وأخذته القوافي إلى الروي والزحافات والعلل، لم يكن النظم وحده، بل المعجم وما استتبعه من صور واستعارات ومجاز، ثم لدغته روح الشعر، لدغة لا شفاء منها. القصيدة هبة ليست ملقاة على قارعة طريق يلتقطها أي عابر سبيل، هي تكورت مع الجنين في الرحم. إتقان علم العروض والتقفية كان سبباً في عداوات مضمرة سرعان ما طفت إلى السطح من بعض الأقران وأستاذ مادة اللغة العربية، ناهيك من النفور الذي يواجه به الشعر من لدن أعدائه، رسخه منهج التدريس السطحي الذي يوغر في الصدور كراهية القصيدة، لذا لا مفر للشعر ومُحبّه الناشئ، غير اللجوء إلى المكتبات واقتناء دواوين رباعيات الخيام بترجمة شاعر أم كلثوم أحمد رامي، و«الملاح التائه» لعلي محمود طه، أحد شعراء جماعة أبولو. كما استعار و«أغار» على دواوين «أغاني الحياة» لأبي القاسم الشابي و«ديوان إيليا أبي ماضي».
أحسن الإصغاء إلى هذه الدواوين فمنحه أجنحة طار بها في سماوات الخيال، وتأثر بالمقروء من الشعر، وبالمسموع أيضا عبر الأثير مثل «مع ناشئة الأدب» الذي كان يعده الشاعر والإذاعي الفلسطيني وجيه فهمي صلاح من الإذاعة الوطنية في الرباط. تنوعت القراءات وتتالت الاكتشافات، اكتشف الشعر الحر مع سليل دجلة بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ونزار قباني في ديوانه «أحلى القصائد» وجماعة شعر بمن فيهم أدونيس ومحمد الماغوط، وأخذته دهشة قصيدة النثر. هذا التنوع اغتنى بما قرأه من الشعر الفرنسي والغربي المترجم إلى العربية عبر مجلّات «الكرمل» و«اللوتس»: من الغنائية إلى الرمزية إلى شعر الرؤيا إلى قصيدة التفاصيل، ثم التقاط الالتماعات العابرة في اليومي كساطور (في حدتها) أو كورقة شجر (فـــــي رقتهـــا)، لم يسقط الشاعر الناشئ في حبائل «العرشيات» التي كانت تستحوذ على شعراء العمود في المغرب في حفلات عيد جلوس الملك على عرش أسلافه الموتى، من شعر المناسبات الذي يقتل نضارة القصيد ويصيرها نظماً لا روح فيه. يقول الشاعر المغربي أحمـــد بنميمون: «ما يبهر من سيرة هذا الشاعر هو مسار كفاحه، حتى تم لقاؤه بالسيد- الشعر، أو سيدتنا القصيدة التي نجح في إنقاذها مما رآها تتمرغ فيه على يد شعراء رسميين، فحلق مبتعدا بالشعر من حضيض كان يتهدده ويتهددها في آن، وانتصر للجمال لامتلائه بالقيم الرفيعة التي كانت سلوى له منذ البداية».
سؤال السيرة.. سؤال المضمر
المضمرات في السيرة لا يكفيها كتاب، المضمرات تختار أوقات ظهورها وشكله، قد تختار القصيدة كي تقول شيئا لم يظفر به السرد، مثل مقطع من قصيدة «ليس لي الليلة ما أفعله»:
«هذا دخان ٌ
يحجب الرؤية عن يومي
تسلّيْتُ مع الحوت
وعفو الخاطر استرجعتُ إيقاعاً».
الضوء ضوء الكلمات، ضوء الشعر والكتابة. الدخان دخان الأيام الخوالي. وهل يكون دخانٌ سبق السماء والأرض؟
٭ كاتب من المغرب