لا أبالغ إذا قلت إن الإبداع الشعري الذي أبدع فيه المغاربة قديما هو الملحون، وليس الشعر الفصيح. لقد ظل الشعر المغربي تقليديا على العموم، ويغلب عليه التكلف، وليس الطبع، الذي غلب على الشعر الأندلسي، لذلك لا نكاد نجد شاعرا مغربيا استطاع أن يفرض نفسه عربيا، عكس ما نجد مع الكثير من شعراء الأندلس.
شعر الملحون أرق وأعمق وأجمل، وهو يتقدم إلينا بعامية مغربية رشيقة وصافية تزدهي بمفردات عربية فصيحة، وبنعوت منتقاة بعناية فائقة، ساهم في إبداع الملحون، شعراء من حواضر فاس ومراكش ومنطقة تافيلالت، وحواضر أخرى، ينتمي بعضهم إلى الثقافة العالمة، وأغلبهم من الثقافة الشعبية، وخاضوا في موضوعات تتصل بالجد والهزل، وبالديني والدنيوي، وبالواقعي والخيالي وباليومي والرمزي. وبما أن الملحون أنتج ليغنى في المجالس و»النزاهات» فقد كان له رواة متخصصون يحفظونه ويؤدونه بأصوات رخيمة، وفي أوزان كرّس لها محمد الفاسي مجهودات كبرى لضبطها، إلى جانب عباس الجراري وباحثين آخرين اهتموا به من جوانب مختلفة.
لم يدخل شعر الملحون رحاب الجامعة، إلا من خلال بعض الرسائل والأطاريح. وفي غياب أقسام أو شعب أو مختبرات تعنى به، إلى جانب إبداعات شعبية أخرى، سيظل معرضا للإهمال، رغم ما صار يعرفه، منذ السبعينيات، مع تجربة الطيب الصديقي، وجيل جيلالة، والغيوان من اهتمام لدى بعض الأوساط الثقافية والفنية المغربية.
حظي موضوع العشق في شعر الملحون بقيمة خاصة، سواء كان صوفيا أو مرتبطا بالمرأة، مكانة متميزة. وفي قصيدتي: خلخال عويشة، ودمليج زهيرو ما يبين لنا ذلك. أبدع الجيلالي امتيرد ( 1750ـ 1840) الذي كان يلقب في مراكش بـ»فاكهة الشيوخ» وفي فاس بـ»حديقة الشيوخ» قصيدة «خلخال عويشة» بينما قدّم محمد بن أحمد المدغري المتوفى سنة 1955 قصيدة «دمليج زهيرو». بين القصيدتين قرن من الزمان تقريبا، وبينهما علاقات اتصال وانفصال، تكشف لنا علاقة التفاعل النصي بين شعراء الملحون. تلتقي القصيدتان السرديتان في المكان، وهو الحاضرة الفاسية العتيقة، وفي الموضوع: قصة عاشقين يتواعدان على لقاء قريب، وتهدي كل من العاشقتين عويشة خلخالا إلى عاشقها، بينما تقدم زهيرو دملجا عربونا على المحبة. وعلى كل من العاشقين إرجاع الهدية في موعد اللقاء، دليلا على الحفاظ على الأمانة والود. في زحمة أزقة فاس العتيقة، يضيّع كل من العاشقين الخلخال والدملج. فتبدأ الحيرة والقلق والبحث المضني. فتكون الرحلة بين الأزقة والحواري للسؤال. وتستغل الرحلة للتجول في مختلف الأماكن التاريخية لفاس القديمة، فإذا بنا أمام تسميتها بمسمياتها.
شعر الملحون إبداع حقيقي لأنه وليد الطبع والصنعة، والاتصال بالواقع في جزئياته الخاصة، لذلك نجده تعبيرا عن متخيل ورؤية للحياة المغربية في حيويتها.
تشترك القصيدتان أيضا في وصف القيمة الخاصة للخلخال والدملج. فهما تحفتان نادرتان، ولا تقدران بثمن، ويستغل الراويان المناسبة لاستعراض الأمم والشعوب المتميزة بتراثها الفني، وأن الخلخال والدملج معا لم يصنع في أي مكان من هذه الأمكنة، وأنه لا مثيل له في أي بقعة من العالم. وتكشف قيمة السوارين لليد والرجل على أن ضياعه ليس فقط خسارة لشيء ثمين ماديا، لكن بسبب قيمته الرمزية أيضا، فهو دليل على المحبة ورمز للتواصل. ونستشف من خلال الضياع التوتر الذي يعتري العاشق. لذلك فتعبه وحيرته من أجل العثور عليه تضعه في وضع خاص برع الشاعران في وصف الحالات النفسية التي عاشها العاشقان.
لكن النهاية التي تبدو من خلال العثور على الخلخال والدملج، تختلف بين القصيدتين. فالراوي ـ الشخص امتيرد (في منتصف القرن التاسع عشر) يختار الذهاب إلى الفقيه، المتمكن من علوم السحر، فيستدعي العفريت الذي يقوم بجلب الخلخال، واضعا حدا لمأساة البحث. بينما المدغري (في منتصف القرن العشرين) يواصل البحث عنه سائلا البنات، وكل من لقيه حتى دلته إحداهن على أن شابة عثرت عليه إبان مرور السلطان فعلمت أنه لعاشق. جن من الفرح، وفي يوم اللقاء بالشابة طلبت منه السهر معهن في ليلة مرح وشراب. أبى العاشق لتعلقه بعاشقته. أكبرت البنات صدقه، فسلمنه الدملج. وفي الموعد المحدد للقاء العشق بين صاحبي الدملج والخلخال، وسماع كل من زهيرو وعويشة المعاناة التي عاناه كل من العاشقين في البحث، تقر العاشقتان أن ثمنهما لا يساوي شيئا، وضياعهما ليس له أي أثر. فالمحبة والوفاء أغلى من كل دملج أو خلخال.
إن اتصال القصيدتين على مستوى بناء الحبكة وانفصالهما في حلها، يقدم لنا رؤيتين مختلفتين، فإذا كان استرجاع الخلخال من خلال عمل تدخلت فيه قوى خارقة (العفريت) يعكس تصور المجتمع للقوى الغيبية في القرن التاسع عشر، نجد عودة الدملج إلى صاحبه في زمن الحركة الوطنية يعكس روح التضامن والوفاء والمحبة التي كانت تجمع بين المغاربة عموما، والعاشقين بصورة خاصة. لكننا نتبين في نهاية قصيدة فاكهة الشيوخ أنه لم يتصل بفقيه، ولم يضع خلخالا، وأن قصيدته إنتاج خيالي الهدف منه الاستمتاع بالإبداع، وأنه «نسجتها فرجة للعُقَّال».
شعر الملحون إبداع حقيقي لأنه وليد الطبع والصنعة، والاتصال بالواقع في جزئياته الخاصة، لذلك نجده تعبيرا عن متخيل ورؤية للحياة المغربية في حيويتها.
كاتب مغربي
راءع كعادتك الاستاذ سعيد يقطين شكرا على هذه الفسحة في رياض الملحون الفن الذي يبقى داءما شباب
شكرا للكاتب سعيد يقطين على كتاباته المفيدة ومساهماته المتواترة التي تعرف بمظاهر وخصوصيات الابداع المغربي في كل أجناسه وتجلياته .