يصل جيرالد بت، مراسل الشرق الأوسط في «هيئة البث البريطانية» المعين حديثا، إلى بيروت في بداية عام 1983 فيطمئنه بعض «العارفين بأمور المنطقة»، أن الحرب الأهلية اللبنانية قد انتهت: كان الإسرائيليون قد بدأوا بمراجعة اجتياحهم للبنان عام 1982؛ وأن القوات الغربية موجودة لفك الارتباط بين الأطراف المتنازعة، وإبعاد النظام السوري وحلفائه؛ وأن منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها قد غادروا. باختصار: لا شيء يمكن خطأ يمكن أن يحصل!
غير أن جيرالد بت وأفراد أسرته، سيجدون أنفسهم خلال أسابيع من وصولهم إلى بيروت، وسط معارك الشوارع وأنواع القصف المدفعي المحلي والأجنبي، وفي نيسان/ أبريل من عام الوصول، فجّر انتحاري سفارة أمريكا في بيروت، متسببا بمصرع 63 شخصا؛ وبعد 6 أشهر سيقوم جهادي آخر بقتل 241 من جنود المارينز الأمريكيين في القاعدة البحرية جنوب ساحل بيروت، فيما قُتل 58 جنديا فرنسيا في هجمات على ثكنتهم في المدينة. كانت تلك العمليات بدايات لتأسيس «حزب الله» اللبناني.
سينتقل بت إلى نيقوسيا (بعد أن تم إنقاذ زوجته وطفليه من المعارك الناشبة عام 1984 في بيروت)، وبعد انتقاله إلى القدس عام 1987 سيشهد مع وصوله اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حيث سيبدي أشكالا من الفهم والتعاطف مع تتابع مراحل المسألة الفلسطينية. يتوفّى بت، في 15 أيلول/سبتمبر 2023 أي قبل 22 يوما من الحرب التي اندلعت في قطاع غزة، فلم يتسن له أن يشهد هذا الحدث التاريخي الفاصل، الذي كان يمكن أن يضيفه إلى كتابه المهم «الحياة في ممر طرق: تاريخ لغزة»، ونشرت صحيفة «الغارديان» مرثية لبت كتبها تيم لويلين، (وهو مراسل صحافي سابق في الشرق الأوسط أيضا وزميل لبت)، في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2022، أي قبل سنة وأربعة أيام من اندلاع حرب غزة المستمرة فصولا حتى الآن.
أكثر الزوايا نسيانا في الشرق الأوسط!
تقاطعت مصائر بريطانيين كثر مع التاريخ العام للمنطقة، ويبدو هذا واضحا في تاريخ بت نفسه، الذي ولد في طهران، لأب كان مديرا لبنك الشرق الأوسط البريطاني، وفي عائلة عاشت في البحرين والأردن، حيث سيتذكر بت جلسة شرب شاي مع الجنرال الشهير جون غلوب باشا قائد الفيلق الأردني، الذي كان أحد تلك الشخصيات البريطانية التي تقاطعت مصائرها مع تاريخ الشرق الأوسط (وكذلك الحال مع ابنه فارس غلوب، الذي تزوج فلسطينية، وكان قريبا من فصائل المقاومة، وألّف كتابا عن العلاقة بين النازية والصهيونية).
في كتابه عن غزة، يقول بت إن تاريخ المدينة لم يثر المؤرخين، بل إن كثيرا من الفلسطينيين أنفسهم لا يعرفون تاريخها، وإنها «أكثر الزوايا نسيانا في الشرق الأوسط»، ولكنه يعتقد أن الحفر في ماضيها مهم لنعرف لماذا حازت هذه المدينة على هذا الدور الذي لعبته في التاريخ.
الآثار التي اكتشفت في غزة، وكنوزها التاريخية نهبها الأجانب، وإسرائيل، التي تحتفظ في متحفها في القدس بمواد اكتشفت في الفترة 3300 قبل الميلاد، مع بدء ظهور جماعات الصيادين والمزارعين، الذين اسسوا بنى اجتماعية على تلال المدينة، ويضم المتحف أقدم قطعة معدنية اكتشفت في المنطقة. يلفت النظر تأكيد الكتاب أن «شعب غزة» كان يؤكد باستمرار استقلاليته، وأن سيطرة المصريين الذين حكموا منطقة كنعان عليها كانت ضعيفة غالبا، وكان الحكام الفراعنة يضطرون للزحف شمالا على رأس جيوشهم، لإعادة فرض سلطتهم «وكان حكام غزة يقبلون بالسلطة الفرعونية تحت الضغط فحسب».
يتبنى الكاتب أطروحة قدوم «شعوب البحر» أو الفلستيين إلى فلسطين من كريت وقبرص وأنهم تشربوا لاحقا ثقافة الكنعانيين، أما كمال صليبي، فيرى أن شعبها كان يعتقد بوصوله إلى هذه الأرض من ساحل البحر الأحمر، أي من غرب الجزيرة العربية. كان حلف الفلستيين الخماسي مؤلفا من مدن غزة وعسقلان واشدود وعكرون وغات، وأدت محاولة المصريين هزيمة هؤلاء إلى بدء انهيار الحكم الفرعوني، وأن الفلستيين بدأوا بالصراع مع مهاجرين جدد هم العبرانيون، وتصور التوراة فترة مميزة بالمعارك والهدوء أحيانا. سيطر العبرانيون على الأعالي وواجهوا مجموعة من دول المدن التي كان لديها أفضلية ضخمة على قبائل إسرائيل فقد «تمتعوا باحتكار تصنيع الحديد»، وهو أمر ذكرته التوراة عدة مرات، على حد قول الكاتب.
مدح التوراة لغزة ووصف ملك اليهود بالطاغية
يشير الكتاب إلى أنه بعد فترتي حكم داود وسليمان طلب أهل غزة عون الفرعون المصري، ومنذ ذلك الحين لم يعد هناك تهديد من القبائل اليهودية، وأن فلسطين خضعت لقرن واحد للحكم الآشوري، ثم دخلت تحت السيطرة البابلية عام 601 ق.م، وبعدها ظهر الفرس الذين احتلوا المنطقة بمساعدة من الفينيقيين، وآذن ذلك بالنسبة لمصر، كما يقول الكاتب، «بدء ألفي عام من الحكم الأجنبي».
يتحدث الكتاب عن «الحروب السورية» التي بدأت عام 270 قبل الميلاد، بين السلوقيين والبطالمة، وانتقلت فلسطين خلالها للحكم الإغريقي الذي سمح تدهوره اللاحق لليهود بفرصة للتوسع، الأمر الذي قاومته غزة فأحرق اليهود المناطق الواصلة إليها، وتصف التوراة ملك اليهود جابيوس بالطاغية المتعطش للدماء وتعتبر أن أهل غزة هُزموا بالخديعة، بعد أن تم عزلها بالاستيلاء على رافيا (رفح) وعلى بلدة تسميها انتيدون في الشمال وقطعت المدينة عن مينائها في الغرب، واندلع قتال عنيف في شوارع المدينة، وفضل الكثير من الغزيين الانتحار على الوقوع بيد اليهود. وصلت المسيحية إلى غزة بعد حكم الرومان، وتم تبنيها رسميا في القرن الرابع للميلاد، وكانت تلك فترة إنجازات ثقافية ازدهرت فيها اللغة الآرامية (اليونانية كانت لغة الطبقات العليا)، ويتحدث حاج إيطالي عام 570 عن المدينة، معتبرا إياها محبوبة ومشهور وسكانها نبلاء يرحبون بالغرباء وفيها «يرقد أبونا المقدس هيلاريون» (وضعت اليونسكو قبل أسابيع ديره الذي ما زال موجودا على قائمتها للتراث العالمي).
من غزة هاشم إلى نكبة 48
أصبحت غزة مع حلول القرن السادس مركز علاقات مهم مع شبه الجزيرة العربية، وكانت فيها جالية عربية مستقرة لتنظيم التجارة، التي كان هاشم بن عبد مناف، أحد أجداد الرسول محمد (ص)، أحد أهم شخصياتها، وتوفي فيها، ومن هنا تعريف المدينة بـ»غزة هاشم»، وقد فتحها عمرو بن العاص وتقبل الناس الدين الجديد بسهولة، وسمح للمسيحيين واليهود بالبقاء على دينهم، وكانت المدينة مكان ولادة الإمام الشافعي مؤسس المذهب المعروف باسمه. مع دخول الصليبيين فلسطين وسيطرتهم على القدس عام 1099 شهدت المدينة مجزرة دموية لكل سكانها، فذبح المسلمون، وتم تحريق اليهود في كنسهم، وقتل المسيحيون غير المتوافقين في العقيدة مع المهاجمين، وتبعت غزة مملكة القدس التي ضمت فلسطين وساحل لبنان وجنوب سوريا، واستغرق الأمر 88 عاما وحّد خلالها نور الدين الزنكي سوريا ومصر، واستطاع صلاح الدين الأيوبي، ابن أخ أحد قادة الزنكي، الانتصار على الصليبيين في حطين عام 1187، وانتقلت غزة عدة مرات ليد الصليبيين ثم المغول فالمماليك فالعثمانيين. كان دخول الفرنسيين لمصر عام 1798 لحظة تاريخية فاصلة في تاريخ غزة والمنطقة، واحتل نابليون العريش، وانفصل عن جيشه فوجد نفسه داخل خان يونس، ولو قبض عليه الناس حينها، كما قال الكاتب، «لكانت وجهة التاريخ قد تغيّرت». استولى الامبراطور الفرنسي على غزة في 1799 ثم تراجع بعد حصار فاشل لعكا، وإصابة جيشه بالطاعون لتخضع غزة لسيطرة المصريين تحت حكم محمد علي باشا.
قصفت السفن الحربية الفرنسية غزة عام 1915، وفشل الجنرال البريطاني موراي في العام التالي باحتلالها مرتين، ليُستبدل بالجنرال أدموند اللنبي، فتمكن البريطانيون من دخول المدينة بعد أن دمر القصف تراثها المعماري والتاريخي. شاركت غزة في الإضراب العام عام 1936 وقام البريطانيون بنسف بيوت قادة العصيان (سياسة أخذتها إسرائيل وتوسعت فيها لتشمل أي مقاتل ينفذ عملية ضدها). ومع النكبة عام 1948 بدأ عهد جديد في تاريخ غزة وفلسطين.
كاتب من أسرة «القدس العربي»