تستطيع أيضاً أن تضغط النسيان في أقراص صغيرة، تبتلع واحدا كلّما أصابتكَ الذكرى بالغثيان. ذلك الغثيان الذي تكلّم عليه سارتر. لم يكن الحلّ الذي أوجده ناجعاً جداً. صدّقْني، هذه الأقراص أنفع لك بكثير. لن يكون عليك أن تتذكّر حياتك، ولا أن تضطر إلى الهروب من الاشمئزاز الذي يمكن أن يصاحب ذلك. تبتلع قرصاً واحداً في اليوم، أو قرصَيْن حسب الحاجة، حوالي ساعة قبل الطعام، أو ساعتين بعده، حتى تحصل على أقوى مفعول ممكن. أقراص النسيان تعمل بشكل جيد في معدة خاوية. لكن لا بدّ من تحذيركَ هنا. إيّاك الإدمانَ. احذرْ من أن تبتلع أقراصاً أكثر من الجرعة التي أوصيك بها. عندئذ ستصبح مدمن نسيانٍ محترفاً، وتصيبك أعراض انسحاب فظيعة إذا فُقدتْ الأقراص من السوق، ولم يعد في استطاعتك الحصول عليها وتناولها. ففي أحيان كثيرة، ولأسباب لها علاقة بالمواصلات والطقس ومزاج الباعة، يصبح الحصول على النسيان وتعبئته في الأقراص صعباً، لا بل مستحيلاً. يحدث هذا بخاصة في فصل الشتاء، عندما يغطّي الثلج الطرقات، ويسود المدينة صقيع شمالي قارس. ستضطر عندئذ إلى البقاء في غرفتك الصغيرة المملوءة بكتب تحاول أن تنسى محتواها بطبيعة الحال. سيكون المكوث في هذه الأيام الباردة الطويلة، من دون أقراصك مؤلماً للغاية، ستجلدكَ الذكريات من دون رحمة. لا تضع نفسك في هذا الموقف، وكنْ معتدلاً في استهلاك ما أصِفه لك.
إذا لم ترِدْ أن تقع تحت رحمة الآخرين، وتقلّبات الطقس، يمكنك تدبّر أمر النسيان وحيداً. تستطيع أن تخيط نسيانك معطفاً، تلبسه كلّما أصابتك قشعريرة الذاكرة. نعم، معطف! القشعريرة التي أتحدثُ عنها، ستأتيك إذا مشيتَ عارياً على شاطئ رمليّ مهجور، تحفّ به بيوتٌ مررتَ بها؛ أو إذا فتحت كومبيوترك، وتفرّجت على صور النساء اللواتي مررْن على حياتك، ورحلن عنك إلى أحضان رجال آخرين؛ إذا مررتَ على رسائل قديمة لأصدقاء أحببتهم قبل أن تطعنك خيانتهم. ستصلك تلك النسمة الجارحة التي كنت تخافها، مع أنّك تتباهى دائماً كذباً ومكابرة أنك تستطيع ملاقاة الأعاصير.
سيلزمك معطف النسيان هذا. كبّل أزراره جيداً، كما كانت تفعل أمّك عندما كنتَ ما زلت تحتفظ ببعض النقاء، وتأكد أن جيوبه فارغة تماماً من فتات المناديل القديمة التي قد تكون نسيتها. واذهب بعد ذلك إلى قبو العالم وكهوفه من دون فزع من خفافيش التاريخ ورطوبة الأحلام. ستمشي منتفخاً بذاكرتك المعطوبة، فخوراً بنسيانك. عليك أن تنام بالمعطف إذا أردتَ أن يكون نومك هنيئاً، وأن لا تخلع المعطف أكثر من خمس دقائق وقت الاستحمام، الحدّ الأقصى من الوقت قبل أن تبدأ الذكريات بقرع رأسك. عليك أن تلبسه في كل الفصول. في المطارات، وردهات الانتظار الطويل؛ في الطائرات التي ستحملك بعيداً، وأنت تشرد خلف نوافذها الصغيرة؛ خلف زجاج القطارات، وأنت ترى العالم يهرول ككلب مذعور. لم أقل إنّ لبس المعطف سيكون سهلاً، ولكنه قد يكون أفضل من الجلوس على مقعد في حديقة عامة، بثياب صيفية ترشح بعَرَق الذكريات.
في النهاية، دعني أقول لك المآل الذي لا أتمنّاه لك. الطريق التي أحذَر منها دائماً. ولكن قد لا يبقى لك حلّ آخر سواها، إذا لم تنفع كلّ الطرق السابقة التي ذكرتُها، لتتعلّم النسيان. حلّ دموي أخير، راديكالي وإيديولوجي، وأنتَ من أكثر العارفين بمضار الإيديولوجيا، وأهوالها الفظيعة. ولكن كما قلتُ لكَ، أحياناً لا بدّ من حلول جذرية.
هل رأيتَ قبلاً أجساداً تمشي وفوقها رؤوس بعيون فارغة، لا يظهر خلفها سوى غلاف سميك من العتمة. أنا رأيتُهم في منعطفات كثيرة. لم أدرِ في البداية ما هو السرّ. حتى أخبرني أحدهم. فهو كان من الذين سلكوا هذه الطريق بعدما حاصرته الذكريات ليلاً نهاراً. كان الأرق قد صفعَه لشهور طويلة، حتى باتتْ الهالات السود تتقدّم وجهه الساهم كدائرتَين من البؤس. أسرّ إليّ كيف فعلوها. كيف اغتالوا ذاكرتهم.
قال إنّ الأمر يجب أن يحدث في آخر الليل. قرب منتصفه. عليك أن تشرب بضعة كؤوس من الكحول حتى يتخفّف الألم قليلاً. ثم تجلس أمام طاولة وطيئة، وقبالتك مرآة متّسخة. وببطـء تحفّ رأسَك من جانبيْه بيدَيْك، وتضغط وتضغط حتى ترى ذاكرتك بدأت تخرج من قمة رأسك كرأس جنين وليد. ستسمع صرختها الأولى. صرخة الرعب وهي تقابل العالم للمرّة الأولى خارج رأسك. لا تخفْ. استمر في الضغط حتى يفرغ رأسك، وترى ذاكرتك أمام عينيكَ بلحمها الغضّ الوردي. ضعها برفق على الطاولة. سيهولك منظرُها وهي مستلقية هكذا أمامك. سترى كل شيء. ماضيك كلّه الممتد كخطّ لا ترى أوّله سيحدّق بك. التفاصيل الكثيرة التي نسيتَها، والأناس الذين عبرتهَم؛ أخطاؤك التي تريد نسيانها، والكلمات التي تمنّيتَ دائماً لو لم تلفظها؛ طفولتك المنسيّة وشبابك المرصّع بالحماقات. كلّها، ستراها أمامك على الطاولة، تحدّق في وجهك بعينَين خائفتَين. لا تجزعْ، ولا تتراجع. هذه اللحظة ستكون الأصعب. استلّ سكينك التي كنتَ قد وضعتَها جانباً، وعالجها بطعنات ثلاث.
ستسمع صرخة ذاكرتك المطعونة. زفيرها الأخير. وبعدها سيسود صمتٌ جميل. صمتٌ رهيب كنتَ تبحث عنه دائماً.
لملمْ الجثة وادفنها بعيداً عن بيتك. لا تقلق، لن يوقفكَ أحدٌ. الجميع سيفهم. ستنام في تلك الليلة فارغًا من كلّ شيء. وستصبح مثل الذين كنتَ تحسدهم، ذوي العيون المـُطفَأة. راضياً، راغباً في أن يكون لك أطفالٌ وحياة هادئة.
وستعلو وجهكَ ابتسامةٌ غريبة.
‘ كاتب سوري/امريكا
المقال رائع…ومعبر…..