طريق الديموقراطية الطويل

حجم الخط
0

يوما بعد يوم تكشف تطورات الأحداث في مصر أننا أمام انقلاب عسكري حقيقي، بحيث لم يعد الجيش يطيق حجم الاحتجاجات المليونية المطالبة بعودة الرئيس وشرع في إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين..
فلأول مرة يتم استهداف مدنيين عزل بإطلاق الرصاص على ظهورهم وهم يؤدون صلاة الفجر في الشارع العام..
ما يميز الانقلاب الجديد هو الغطاء السياسي والفكري الذي توفره له قوى مدنية محسوبة على الصف الديموقراطي والليبرالي، أعماها العداء الإيديولوجي لفكر الإخوان المسلمين وسقطت في فخ الجيش الراعي الأول لمصالح القوى الكبرى في المنطقة..
إنها ‘الديموقراطية العسكرية’، وهو مفهوم جديد بدأ يتبلور في الساحة الإعلامية والسياسية المصرية ويعبر عن نفسه بوضوح في كتابات العديد من المثقفين والسياسيين المؤيدين لإسقاط الرئيس مرسي والرافضين لتسمية هذه الخطوة بالانقلاب العسكري..
القوى الأساسية في مصر ومن ورائها ملايين المتظاهرين غاضبة من المؤامرة التي تعرض لها الرئيس المغدور، والبلاد تعيش على حافة فوضى عارمة تعيد التذكير بالمشهد الجزائري غداة الانقلاب على انتخابات 1991 التي فازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية بالأغلبية الساحقة..
ما يحصل في مصر هو انقلاب عسكري حقيقي لا غبار عليه، انقلاب تم بإرادة إقليمية ودولية، وجرى تنفيذه بأدوات داخلية..الجيش قام بتعطيل الدستور وأغلق القنوات الفضائية المخالفة له في الرأي، وشرع في اعتقال القيادات السياسية المؤيدة للشرعية، ووضع الرئيس المنتخب رهن الإقامة الجبرية في وزارة الدفاع، وزج برئيس الحكومة في السجن، وجاء برئيس جديد بناء على قرار عسكري، واتخذ قرارا بتشميع المقرات الرئيسية لحزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين..
وبسرعة البرق تحول الحزب الذي كان رئيسه يتولى منصب رئيس الجمهورية، إلى حزب مضطهد تتخطف أعضاؤه يد القمع وتجري متابعة قيادييه أمام القضاء المصري الموجه..
ورغم التعتيم الإعلامي الممنهج الذي تتعرض له مظاهرات الغضب التي تجتاح مناطق عديدة في مصر، فإن ثورة الاتصالات والتكنولوجيات الحديثة تمكن المراقبين من رصد ما يقع بدقة متناهية، وسط صمت رهيب لدعاة الحرية والحداثة والليبرالية التي انخرط بعضها لتبرير هذه التراجعات بدون خجل ولا حياء..
من المؤسف أن بعض القوى السياسية لم تحسن قراءة المرحلة السياسية الراهنة من منظور تاريخي، طبعا أقصد القوى السياسية الليبرالية والعلمانية واليسارية الداخلية، أما القوى الخارجية، إقليمية كانت أو دولية، فإنها تدرك جيدا ماذا يعني تأصيل الديموقراطية في العالم العربي ولذلك فإنها ستسعى لإفشالها بجميع الوسائل الممكنة لاعتبارات مرتبطة بمصالحها الاستراتيجية بالدرجة الأولى..
خلال اليومين السابقين تدفقت أزيد من 12 مليار دولار على الخزينة المصرية من طرف دول كانت بالأمس القريب تتبنى ما يشبه سياسة الحصار الاقتصادي اتجاه مصر ما بعد ثورة 25 يناير 2011.. علينا أن نفهم أن العديد من الأسر الحاكمة في دول الخليج لا تطيق لغة الديموقراطية والحرية والتعددية السياسية، كما أنها تتمسك بعداء غريب وغير مفهوم اتجاه بعض التنظيمات السياسية التي تنهل من المرجعية الإسلامية، وتؤمن بدور الدين في الحياة العامة..
إنها أنظمة سياسية تعيش على إيقاع الخوف من انتقال عدوى المطالبة بالحرية والديموقراطية والتعددية إلى بلدانها، ولذلك فإنها تخشى من قيام نموذج سياسي تحرري يصالح بين قيم الإسلام وقيم الديموقراطية، وهي تعمل اليوم بشكل مكشوف للحيلولة دون نجاح هذا النموذج..
ما يحصل في مصر هو نتيجة لمخطط تراجعي يهم المنطقة العربية بأكملها وخاصة الدول التي تفاعلت إيجابا مع الربيع العربي..وأتصور بأن ما يشهده المغرب خلال هذه الأيام من محاولات لزعزعة استقرار الحكومة والعمل على إضعاف الحزب الذي يقودها (العدالة والتنمية)، تندرج في هذا المخطط الذي جرى الإعداد له بدقة متناهية… والأيام القليلة القادمة كفيلة بتوضيح الصورة أكثر..
ولذلك فإن المهمة التاريخية الملقاة على عاتق الإسلاميين اليوم هي الصمود للدفاع عن الديموقراطية، سواء في بلدان الثورات أو في البلدان التي عرفت إصلاحات في ظل الأنظمة السياسية القائمة، المهمة الأساسية اليوم هي النضال من أجل ترسيخ قواعد التداول الديموقراطي على الحكم، وإرجاع السلطة إلى منطق الإرادة الشعبية، وحماية مكتسبات الشعوب في الحرية والكرامة ومناهضة الفساد والاستبداد، مع الحذر الشديد من الوقوع في ردود أفعال عنيفة غير محسوبة العواقب..
ليس المطلوب اليوم شخصنة القضية والمطالبة بعودة الرئيس المغدور إلى منصبه فقط، وهذا مطلب مشروع، لكن المطلوب هو استرجاع قيم الثورة الحقيقية التي جرت سرقتها، المطلوب استعادة وعي الجماهير التي جرى تضليلها بقصف إعلامي غير مسبوق..
الشعوب العربية نجحت في إسقاط عدد من رؤوس الأنظمة الدكتاتورية بواسطة النزول إلى الشارع، لكنها عجزت عن تفكيك البنى الاستبدادية المتغلغلة داخل أجهزة هذه الدول، وهي ‘عاجزة’عن إدراك خريطة مراكز النفوذ المتحكمة في الثروة والسلطة، وهي مراكز قادرة على تضليل الناس بمكرها ودهائها وخبرتها الطويلة داخل دواليب الإدارة، ولذلك فالمطلوب من القوى التي تسعى إلى التغيير والإصلاح أن تتحلى بأعلى درجات النضج والوعي لإدارة المرحلة الانتقالية الحالية وعبور المليء بالعوائق والأشواك..

‘ كاتب من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية