طريق السلام المسدود… وسقوط نظرياته وأوهامه القديمة

ربما لم يحتفظ التاريخ العربي بخطبة أكثر استغراقا في الوهم، مثل التي قدمها الرئيس المصري أنور السادات في الكنيست، مع أن الخطاب لم يكن ركيكا، ومع أن كاتبه حاول أن يوظف لغةً رومانسيةً وحالمةً، وأن ينثر مواطن الانفعال فيه، إلا أن التجول في ملامح أعضاء الكنيست الحاضرين في التسجيل المرئي، يظهر أنهم استقبلوه بفتور وبلادة.
الفلسطينيون من حيث المبدأ، من الصعب أن يقتنعوا بالسلام، فعيشهم في عائلات ممتدة لقرون من الزمن، يجعل الرواية واضحة، وسلب الأرض وتشريد سكانها الذين عاشوا بصورة متصلة لأجيال متعددة، بالطريقة التي حدثت في 1948، وما سبقها وتلاها، مسألة حقوقية واضحة، مهما توارت في مقولات دينية أو قومية، وهذه القضية تدركها (إسرائيل) بصورة متوطنة وواضحة، ولعلها تدرك أن الفلسطينيين الذين يريدون السلام يمثلون الأقلية، أو أن أي قناعةٍ بالسلام ستكون مؤقتة وغير مستدامة، لأن السلام الذي يطرح ويقدم ليس إلا شرعنة للوضع القائم، ويضع الفلسطينيين أنفسهم في تناقض تاريخي، فالمطروح على الطاولة هو استعادة لجزء من الأرض الفلسطينية التي احتلت سنة 1967 بينما تقوم الرمزية الفلسطينية التي تشكل الشعب الفلسطيني على أرضية نشأت لتحرير فلسطين المحتلة عام 1948.

الأسس النظرية لفكرة السلام الرومانسية أو طموحات السادات التمثيلية السابقة، أو محاولة مجموعة من الواقعيين العرب والفلسطينيين تمريرها تبدو كلها خارج التصورات الممكنة حاليا

تناقل الفلسطينيون روايات شفهية كثيرة حول مجازر العصابات الإسرائيلية في حرب 1948، في دير ياسين والطنطورة والدوايمة، وتوجد أطلال لقرى دمرت بالكامل، ولكن الشواهد المتبقية هي بعض الصور متدنية الجودة، أما ما يحدث في غزة على امتداد الأشهر الماضية، فالعالم يراه على الهواء مباشرةً، ويحتفظ بوثائقه المرئية، ويسمع أصوات ضحاياه، بما أدى إلى استعادة الرمزية الفلسطينية إلى مستويات الانتفاضة الأولى، بحيث تصبح أي فكرة للسلام مغلفة بالاستسلام، وهو للأسف ما لا يمكن أن يتحقق في الحالة الفلسطينية، فالفلسطينيون لا يمتلكون خيار الاستسلام أو آلياته من الأساس، ولا يوجد أحد يمكنه أن يوقع اتفاقية الاستسلام نيابةً عنهم كما فعل الإمبراطور في اليابان. تفتعل (إسرائيل) الأزمات وتديرها بشكل متواصل، وتطبق سياسة الهرب من الاستحقاقات بصورة متواصلة، فمن يمكنه اليوم، وفي ظل هذه الظروف المعقدة، أن يتحدث عن أولوية عودة اللاجئين، أو أن يضع ورقتهم على طاولة، وكل الجهود تمضي لحماية الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، والوقوف ضد تهجيرهم في نكبة جديدة؟ ومن يمكنه أن يتحدث عن القدس بوصفها عاصمة لدولة فلسطين، والمسجد الأقصى والمقدسات المسيحية جميعها تحت التهديد المتواصل من الجانب (الإسرائيلي)، وبالنظر إلى هذه الحقائق الراهنة، فإن السلام المتعذر (نفسيا) بعد الحرب على غزة، يصبح متعذرا عمليا بالنظر إلى الواقع ومعطياته الراهنة. ثم مع من يمكن أن يتحدث أحد عن السلام في (إسرائيل)؟ تساءل الكثيرون عن السابع من أكتوبر، وحاولوا أن يصفوا المقاومة التي حركت العمليات في ذلك اليوم بالتطرف والإرهاب، ولكنهم لم يتساءلوا عن سبب صعودها داخل حركة حماس نفسها؟ ولم يلاحظوا أنها ردة فعل مثالية على بن غفير وسموتريتش اللذين يمثلان الأبناء المخلصين لرجل مثل باروخ غولدشتاين مرتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي في فبراير 1994، وأنهم يقودون حركة الاستيطان بطريقة البلطجة لتستوعب تناقضات المجتمع في (إسرائيل) وتصنع نسخة جديدة توراتية وشرقية المزاج مقابل (إسرائيل) الغربية صاحبة القيم الأوروبية المتحضرة، التي بقيت ضمن المزاعم الواضحة للجيل الذي كان يستمع لخطاب السادات بتململ واستهانة. الأسس النظرية لفكرة السلام الرومانسية أو فهلوة السادات، وطموحاته التمثيلية السابقة، التي جعلته يتبناها، أو تلك التي حاولت مجموعة من الواقعيين العرب والفلسطينيين تمريرها في نهاية السبعينيات، تبدو كلها خارج التصورات الممكنة حاليا.
يقول إيلان بابيه، إن اسرائيل تتفسخ من الداخل، ويزعم أن ضربة السابع من أكتوبر أسهمت في تعطيل تدهورها، الذي بدا واضحا في حراك الشارع قبل الأحداث، إلا أنه يغفل العقيدة الشمشونية التي تشكل جزءا من ثقافة المستوطنين، بمعنى أن انهيار (إسرائيل) أو تفسخها بأي صورة سيستلزم بالضرورة ثمنا باهظا يدفعه الفلسطينيون من أرواحهم ودمائهم وأطرافهم. الدولة الفلسطينية ربما تكون جزءا من تهدئة وتيرة الصدام وتأجيل لحظاته التراجيدية، إلا أن ما يمكن أن ينقذ المنطقة من مصيرها (الماسياني) ومن أشباح (هرمجدون) أو حرب نهاية العالم، هو وجود حقوق عادلة للفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها، بمعنى إعادة الصياغة الشاملة لكل من مفهومي فلسطين و(إسرائيل) على أساس فكرة الحقوق والحلول الواقعية، التي تستطيع أن تستوعب تحولات العالم وتغيرات الظروف، وهي مسؤولية تتخطى الأطراف المباشرين في الصراع، وتشمل طيفا واسعا من الدول والشعوب الأخرى، وتتطلب خروجا من الوعي بالآثار المباشرة، إلى تفهم الأفاق غير المباشرة للصراع وتشعباته، وأنه صراع يحمل أفكارا تشكلت في عصور قديمة وفي أماكن متباعدة، وليس الفلسطينيون الذين خرجوا من أراضيهم، أو الذين لا يتمكنون في العيش عليها بسلام، معنيين بأن يدفعوا وحدهم ثمنها، وأن اختزال النقطة الساخنة للصراع في وجودهم أو عدم وجودهم.
يبدو السلام متعذرا، وأي حديث عنه مبتذلا في هذه اللحظة، وأن أسسه النظرية السابقة كلها عرضةُ للتفكك والهشاشة، ولكن وقف المجزرة يمكن أن يستقضي تقدما لما يشبه السلام الذي لن يكون كافيا للحيلولة دون مجزرة أخرى.
كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية