رواية «طريق النهايات/ رحلة الحنظل السوري من كولونيا إلى جنين» هي العمل الأول للشاب علي وحيد، الذي يدرسُ في جامعةِ كولن، ويعملُ في الوقت ذاته، ولعلّ تعرفي إليه جاءَ أولاً من الدأبِ الذي يتحلّى بهِ، وثقتهُ بنفسهِ، ولم أتعرفهُ كاتباً إلا من خلال ملصقات وملاحظات ألصقها في كلّ أرجاءِ مسكنهِ الصغير، لأعرفَ أنّها مسوداتُ روايةٍ، وتبدأ رحلتي في نصحهِ أنا الذي لم أستطع تقديم النصح لنفسي في كتابةِ رواية.
علي وحيد في عملهِ الصادر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وعلى مساحة مئتين وخمس وثمانين صفحة من القطع الكبير، يتعرّض للنمطيات التي ننشغل بها جميعاً، وبسوياتنا المتعددة والمختلفة من اللجوء والشتات وعلاقتنا بالغرب، الذي صرنا نشغل حيزاً من جغرافيته وثقافته، وصار مفهوم الاندماج أمراً واقعاً ومدعاةً للاختلاف حوله، سواء من بابِ الاتفاق معه أو تهويل نتائجه على الهويات والثقافات، إلى المقارناتِ تلكَ المنهجية وتستندُ إلى ما يعززها ويشرعنها، إلى تلكَ السطحية والاعتباطية وغالباً هذه يصنعها آخرون يجرونها من أماكن بعيدة عن منطقتهم ومنطقهم، دفاعاً عن منطقتهم ومنطقهم حسبهم طبعاً، إلى الثيمة الأساس بانشغالِ العربي/الإسلامي بقضية فلسطين، القضية بوصفها متجذرة في الوعي، أو القضية التي ضخمتها شعارات الأحزابِ القومية أو الإسلاموية خدمةً للسلطة، أو امتثالاً لعمل مخابراتي تقوده دول لها مصالحها في ترك الشرق الأوسط بؤرة توتر، إلى إسرائيل الكيان، وإسرائيل بين الصهيونية واليهودية، والتفريق بين الاثنين، التفريق الذي يأخذ باليهودية ديناً ولا مشكلة لغير المتطرفين معه، والإسرائيلية بوصفها حركة غاصبة عنصرية تؤسس لدولة يهودية قومية.
في «طريق النهايات» لا تأتي تلك المقارنات جافة، فالراوي اتّخذ من قصة حبّ بينَ السوري اللاجئ علي الحنظل والفلسطينية ولاء من جنين كخطٍ درامي تشويقي، حمّلهُ منحى العادات والتقاليد مدخلا آخر لقراءةِ رؤيته لها، وهذه القصة بما تحملُ من فانتازيا تبدأ بطلبٍ تعجيزي كشرط للزواج، بأنْ يطلب يدها من أهلها في جنين، لتبدأ الرحلة الأسطورية وغير المصدّقة لفرط فانتازيتها، وما يحفّ بها من مخاطر ومغامرات، تعري الداخل الإسرائيلي وهشاشته الأمنية، في ما لو قرأنا العمل ودخلنا قلب الخطة التي رسمها علي الحنظل بطل الرواية، ومع هذا اللامصدّق تأتي اللغة ومجريات أحداث تلتصق بالواقع وثيقاً، تجعلُ ذلك الغرائبي مخفّفاً ويمكن الأخذ بهِ في مراوحتهِ بين التخيّل والواقع.
لقد أدخلني علي وحيد في رحلته وذلك من خلالِ (كلمتي)التي ارتأى أن يضعها على الغلاف الأخير: «تأتي روايةُ علي الحنظل كمحاولةٍ جريئةٍ في قولِ قصةٍ غريبةٍ من ألفها إلى يائها، قصةٍ تبدو من أسمائها وأماكنها واقعيةً وممكنةً، غير أنها تبدو مغامرة أقربُ إلى المقامرةِ من حيث سياقاتِ الأحداثِ الثانويةِ في الرحلةِ الغرائبيةِ، ليتكلّلَ الحدثُ الرئيس/ المحور والنهايات بتشكيلِ الصدمةِ وبالتالي الفجائعية ومخالفةِ السائدِ المنتهي عادةً بالنجاةِ وانتصارِ الأبطال.
لا يعتمدُ الراوي علي وحيد الذي منحَ اسمهُ الأول لبطله، على لغةٍ مكثّفةٍ ومخاتلةٍ وإنّما يكتبُ بوضوحٍ تامٍ، لا يلغّز جملته ولا فكرتهُ، كما لو أنّه يريدها حكاية خالصة تحملُ آراءهُ وطريقتهُ في الحياه وعلاقتهُ بالكثيرِ من المفاهيمِ التي يحاولُ تفكيكَها على طريقتهِ الخاصةِ.
الروايةُ مُحمّلةٌ إلى جانب تشويقها وقصتها، التي تتصاعد بشكل درامي من حدثٍ عائمٍ إلى حدثٍ مركّز بالتنظير، سواءً في الحديثِ عن اللجوءِ أو علاقاتِ الحبّ في المجتمعين الشرقي والغربي إلى العلاقةِ مع اليهودِ كدين وعزلهم عن إسرائيليتهم كحركةٍ سياسيةٍ، إلى قضيةِ تشكّل الإرهاب مخابراتياً، وهو ما سيلمسهُ المتلقي من النهايةِ المفجعةِ.
علي وحيد في رحلةِ علي حنظل يساهمُ ولو بالأقلّ الممكنِ في جدلٍ دائمٍ عن علاقتنا بالكثيرِ من المقولاتِ النمطيةِ تجاه قضايا، تشكلُ بمجملها خطابنا اليومي».
بقي أن أقول إنّ الراوي هنا لم يكن راوياً وحسب، بل باحثاً ومعرّفاً خاصة بما يتصل بالمتحف الإسرائيلي في كولونيا الألمانية، وكذلك في التعريف ببعض القضايا التي تشغلهُ، ويمكن لمقتني الرواية أن يلحظوا ذلك من خلال الثبت بالمصادر والمراجع التي رافقت رحلتهُ في الكتابة. وهنا إذا أكتبُ عن «طريق النهايات/ رحلة الحنظل السوري من كولونيا إلى جنين» لا أظنني كتبتُ نقداً بمقدار العرض لها والدعوة فهي تجربة شابة تستحقُ النظر فيها، والأيام دولٌ إمّا تعزّز التجربة أو تلفظها خارجاً.
شاعر وناقد سوري