الدستور التونسي الجديد، الذي أقرته لجنة الدستور التأسيسية في تونس في نهاية كانون الثاني، هو النتيجة الملموسة الاولى للثورة التي اندلعت في تونس قبل ثلاث سنوات. هذه الثورة، التي اطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي من الحكم ووضعت حدا لحكم مطلق فاسد، كانت الاولى في سلسلة الثورات في الشرق الاوسط وشمالي افريقيا والتي حظيت بلقب ‘الربيع العربي’. الدستور الجديد هو وثيقة ‘من انتاج محلي’، يعكس اجماعا وطنيا واسعا بين جهات سياسية متنوعة. وقد جرى تبنيه بعد مسيرة طويلة، رافقته أزمات واعمال عنف سياسي ليست من شيم تونس. وتعكس عملية صياغة الدستور، رغم المصاعب التي كادت تدفعه الى الانهيار، التزاما حقيقيا لتحقيق اجماع سياسي واسع من جانب محافل سياسية ذات مواقف واراء متضاربة. وفي اساس المسيرة تقبع الرغبة في بناء نظام دستوري جديد، يقوم على اساس سلطة القانون. وقد بعث تبني الدستور الرضى في تونس الى جانب الخوف من انهيار النظام السياسي الجديد عقب ضغوط سياسية داخلية. وفي العالم الغربي سجل ارتياح واسع في ضوء الدستور، ولا سيما على خلفية الواقع البشع السائد في دول اخرى والتي شهدت تقلبات سياسية في السنوات الاخيرة، مثل ليبيا، اليمن ومصر. وينبع النجاح التونسي من عدة مبادى يتميز بها التاريخ والمجتمع التونسيين، مثل السعي الدائم للحفاظ على الاستقرار السياسي، وبقدر أقل كنتيجة لعوامل ترتبط بـ ‘الربيع العربي’. وعناصر النجاح التونسي في هذا السياق هي وليدة بحث مدروس بين جماعات مختلفة تقف على رأس الساحة السياسية في تونس في السنوات الاخيرة الى جانب ظروف خاصة في مركزها الازمة السياسية الداخلية التي شجعت جماعات متخاصمة على بلورة حلول وسط والوصول الى اجماع وطني واسع. ورغم النجاح في صياغة الدستور، يمكن الاشارة الى الصدوع المحتملة بين الاسلاميين وخصومهم ومشاكل في الدستور المقر، من شأنها ان تهدد قيام ساحة سياسية مستقرة. وتفترض هذه التهديدات من اصدقاء تونس في العالم التجند لمساعدتها بشكل مسؤول ومتوازن من أجل ضمان استمرار عملية قيام ساحة سياسية ديمقراطية في الدولة. لقد برزت الحاجة الى تبني دستور جديد في تونس فور الاطاحة بالرئيس بن علي. فبعد عشرات السنين من حكم الطغيان الذي مس بمبادىء هامة مثل فصل السلطات، استقلال الجهاز القضائي والحفاظ على حقوق الانسان، سعى معظم اللاعبين السياسيين المركزيين في تونس الى قامة اطار رسمي جديد. وسيشكل هذا الاطار، كما أملوا، رافعة لضمان الديمقراطية وحقوق الانسان في الدولة، ويفتح افقا سياسيا جديدا لتونس. وقد تقررت الانتخابات للجمعية الدستورية، التي ستصيغ الدستور الجديد في اطار البحث بين الاحزاب المختلفة، لتشرين الاول 2012، بعد نحو تسعة اشهر من الثورة. وقد فازت في هذه الانتخابات حركة النهضة الاسلامية بالقيادة الروحية للشيخ راشد الغنوشي، بانجاز كبير، لاكثر من 40 في المئة من المقاعد، وان لم يكن باغلبية ساحقة. واجبر هذا الواقع السياسي النهضة، وليس بحماسة كبيرة، الى اقامة ائتلاف مع احزاب غير اسلامية، حزب المؤتمر الجمهوري حزب يساري بقيادة منصف مرزوقي وحزب التوكل حزب وسط يمثل الطبقة الوسطى. وفي نظرة الى الوراء ساهم هذا الواقع في نجاح الجهود لصياغة الدستور وذلك لان النهضة اضطر الى التكيف مع الواقع السياسي الديمقراطي الذي يستوجب الحلول الوسط والتوافقات مع الخصوم، وهو الامر الحيوي في نمط الحياة السياسية وذو أهمية حاسمة في صياغة الدستور الذي يقوم على أساس اجماع وطني واسع. وبالنسبة للنهضة، الذي لم يشارك ابدا في الحياة السياسية ولا حتى بشكل غير رسمي (خلافا للاخوان المسلمين في مصر، الذين يؤدون دورا في الساحة السياسية منذ عشرات السنين)، فقد كان هذا تحديا كبيرا. لقد كان السؤال المركزي في خلفية مداولات الجمعية المنتخبة حول الدستور هو كم سيكون النهضة، الذي عرض مواقف معتدلة في مجالات عديدة، مستعدا لان يبدي المرونة بدلا من محاولة فرض مبادئه على المجتمع باسره؟ فالاغراء لعمل ذلك، بالنسبة لنشطاء الحركة، كان كبيرا على خلفية العطف الجماهيري الواسع الذي تمتعت به الحركة. ورغم ذلك، ففي المداولات التي جرت في بداية 2012 اتخذ حزب النهضة نهجا معتدلا في المسائل الدينية. وأعلن قادته في هذا السياق بان من ناحيتهم لم تكن حاجة الى التشديد على الشريعة الاسلامية كاساس للتشريع. كما ادعوا بانه حزبهم تطلع منذ البداية الى أن يكون محفلا سياسيا دينيا معتدلا. ووقف قادة النهضة عند الحاجة الى الحفاظ والى تعزيز مكانة النساء في تونس اللواتي يتمتعن بمساواة استثنائية قياسا لدولة عربية، منذ عهد حبيب بورقيبة. وقد رفض خصوم النهضة من خارج الحركة هذه المواقف. وادعوا بان هذه المواقف لا تعكس الاراء الحقيقية للحركة وحذروا من التطلعات بعيدة المدى للنهضة. وفي المسائل المتعلقة باقامة الساحة السياسية الجديدة، بالمقابل، أعرب النهضة عن مواقف اكثر حزما. هكذا مثلا في النقاش حول السلطات المختلفة طالب النهضة بضمان توزيع صلاحيات السلطة التنفيذية بين الجهات المختلفة. وادعى قادته بان هذا التوزيع حيوي من اجل ضمان الا تتدهور تونس مرة اخرى الى حكم دكتاتوري. وعارض خصومهم السياسيون طلب تعزيز قوة البرلمان وسعوا بدلا من ذلك الى تعزيز صلاحيات الرئيس. وكانت في خلفية الخلاف اعتبارات سياسية باردة من جانب النهضة، الذي تمتع بتأييد جماهيري واسع كان يمكن ترجمته الى قوة سياسية برلمانية هامة. واحتدم الجدال وتوتر. وقد برز الامر بشكل خاص حين كان الحديث يدور عن مجتمع مثل المجتمع التونسي الذي يفتقد الى تقاليد العنف السياسي. وتوقفت المداولات على الدستور في بداية 2013 بعد مقتل شكري بلعيد، الزعيم السياسي المعارض للنهضة. واثار الاغتيال هزة كبيرة في تونس، التي لم تعتد على العنف السياسي. والى ذلك اطلقت اصوات متصاعدة ضد النهضة، ولا سيما على خلفية الازمة الاقتصادية في الدولة والتآكل في الثقة العامة بالسلطة. واستؤنفت المداولات على الدستور بعد زمن ما، وحتى ربيع 2013 تبلورت مسودة دستور ضمنت قوة سياسية للحكومة المسؤولة امام البرلمان ولكنها حافظت ايضا على حق الفيتو لرئيس الدولة. اغتيال سياسي آخر لواحد من المعارضين البارزين للنهضة، محمد البراهمي، في 25 تموز، سرق مرة اخرى الاوراق وهدد بحمل تونس الى شفا ازمة سياسية غير مسبوقة. وبادرت المعارضة الى مظاهرات كبرى عبرت عن عدم الارتياح الجماهيري المتعاظم ضد الحكومة بقيادة النهضة. وطالب المتظاهرون باستقالة الحكومة وبابعاد النهضة عن السياسة. وخلافا لمصر، التي ادى فيها الجيش بشكل تاريخي دورا رائدا في الحياة السياسية، لم يبدِ الجيش في تونس ابدا رغبة في التدخل في الحياة السياسية ولم يكن هناك خوف من ان يفعل ذلك الان. ومع ذلك، يبدو ان الاحداث في مصر والتي ادت الى عزل محمد مرسي والابعاد الرسمي للاخوان المسلمين عن الحياة السياسية في صيف 2013 فعلت فعلها وبعثت القلق في اوساط قادة النهضة من مصير مشابه للتنحي عن الحكم. وأدى هذا القلق، الى جانب تقاليد سياسية قوية تتمثل بالسعي الى الاجماع السياسي الى استئناف الحوار الوطني على صيغة الدستور، باشرافا محافل خارجية مثل الاتحادات المهنية عظيمة النفوذ في تونس. وضغط الجمهور هو ايضا للوصول الى حل وسط وبلورة دستور، انطلاقا من الرغبة لاقامة حكم مستقر في أسرع وقت ممكن يكون بوسعه مواجهة الازمة الاقتصادية الشديدة في تونس والتدهور في احساس الامن الشخصي لدى العديد من المواطنين. ولكن مجرد نجاح الحوار يخلق تقاليد لانتقال الحكم بالطرق السلمية، وهو الامر الذي ينقص جدا في الدول العربية. في صياغة الدستور المقر لا توجد مزايا اسلامية بارزة. وهو لا يبحث في فكرة اقامة جهاز قانوني اسلامي ويشدد على الحاجة الى الفصل التام بين السلطات القضائية، التشريعية والتنفيذية. ويمنح الاطار السياسي للرئيس صلاحيات حصرية في مجالات الامن القومي، السياسة الخارجية وكذا حق الفيتو على قرارات الحكومة، بينما يكون لرئيس الوزراء الصلاحية الحصرية في المجالات الداخلية. هذا حل وسط فيه طاقة كامنة لخصومة شديدة بين الرئيس ورئيس الوزراء، من شأنها ان تخرب على فرص اقامة ساحة سياسية مستقرة في تونس. والعامل الاهم لضمان سلامة الساحة السياسية الجديدة في الدولة هو اقامة محكمة دستورية جديدة، تشرف على السلطات وتؤدي دورا نشطا في حل المشاكل المختلفة المتوقع حدوثها على خلفية الخصومات المحتملة بين الرئيس ورئيس الوزراء. في هذه الحالة يدور الحديث عن مؤسسة جديدة تنضم الى الجهاز القضائي القائم، وتحتاج بلا شك الى دعم ومرافقة من اجل تثبيت مكانتها. وفي هذا يمكن أن تساعد دول عربية معنية بنجاح تونس لاقامة ديمقراطية تقوم على حكم القانون. وفضلا عن ذلك، يضمن الدستور الحقوق والحريات العديدة للمواطن ويتضمن ايضا صياغات مثيرة للانطباع جدا في جملة من المواضيع مثل ضمان مكانة النساء والحفاظ على جودة البيئة. ومثل صياغات دستورية عديدة فان هذه وثيقة مثيرة للانطباع. في كل ما يتعلق بمسألة مكانة الاسلام في الدولة، والتي تثقل جدا على دول اخرى في المنطقة، يبدو ان تونس نجحت في أن تنقل هذا النقاش من المستوى الايديولوجي الى المستوى السياسي العادي وابعاده عن ساحة العنف والاضطراب السياسي. وتواجد تيارات اسلامية متطرفة اكثر على نحو متزايد في الساحة العامة التونسية مثل السلفيين الذين يعارضون المواقف المعتدلة (نسبيا) للنهضة كفيل بان يهدد لاحقا هذا الانجاز. السؤال المركزي الذي يطرح في تونس اليوم هو ماذا بعد؟ المرحلة التالية في جدول الاعمال السياسي هي اجراء انتخابات للبرلمان وللرئاسة كما تحددها الدستور. حتى الان، الرغبة في ضمان الاجماع الواسع والاستقرار السياسي ساهمت في نجاح المساعي لصياغة الدستور، الى جانب الظروف السياسية والضغط الجماهيري الذي ضغط باتجاه الوصول الى حلول وسط. والامل الان، الذي تشارك فيه اغلبية المحافل السياسية هو ان تواصل هذه الرغبة املاء التطورات السياسية في المستقبل ايضا.