يمكن المغامرة بتصنيف التجارب الشعرية، على ضوء ما تتسم به من مقومات جمالية وفنية من تفاوتات، تتدخل في تحديدها خصوصية اللحظة الثقافية والحضارية المحايثة لها. وقد يكون المنطلق في تسليط الضوء على طبيعة هذه المقومات، تناولها من زاوية البعد المعرفي، الذي على أساسه يستقيم مفهوم «التجربة». مع العلم أن مساءلة المنجز الشعري، ضمن هذا المفهوم، يعتبر في حد ذاته إقرارا مسبقا بامتلاكه/المنجز لمستوى جد متقدم من النضج الجمالي والفكري. وبالتالي، فإن القول بـ»التجربة» نظريا يعنى القول بتحقق مسار شعري، مستوف لشروطه، ومؤهل لبلورة رؤية شعرية مستندة إلى قوانينها ومقوماتها، التي تكون دليل الباحث، في مقاربته لهوية وخصوصية هذا المسار. ما يدعو إلى توخي الحذر في تعاملنا مع سيل من الأقاويل، التي لا تتورع عن حشر ما تراكم من غثاثة لغوية في خانة التجربة. وهي بالمناسبة، خانة معرضة باستمرار لاختراقات عشوائية وطائشة، من قبل هذه العينة من «القوالين» التي تسلخ نهاراتها ومساءاتها، في تكديس ما تعتبره مجاميع شعرية، دون أن يحظى هذا التكديس ولو بالنزر اليسير من دلالات التجربة الحقيقية وأبعادها، مع اقتناعنا بأن ممارسة «فعل الكلام» حق متاح للجميع، في سياق ميل البشرية عامة لترجمة ما يخالجها من حالات، ومن عواطف وانفعالات ومشاعر إلى لغة تتمتع بالحد الأدنى من الطلاوة وحسن التأثير. إلا أنه ومع ذاك، يظل في نهاية المطاف، حقا مستقلا بنوعيته، ومنفصلا كلية وبصفة مطلقة، عن مجال «التجربة الشعرية» بمفهومها الفكري والإبداعي الكبير، الذي يمكن تلمسه في رموزه، وفي علاماته الفارقة، الموزعة على امتداد الأزمنة الشعرية وجغرافياتها، أي تلك التي نقف من خلالها على المحطات الأساسية، التي دأبت على إرسائها التجارب الجديرة باسمها، عبر تفاعلها العميق لنداءات الكتابة، بما هي نداءات الكينونة. وتوخيا للمزيد من التوضيح، يمكن توصيف المفهوم، على ضوء الاستراتيجية المعرفية التي يعتمدها الشاعر في تشييده لمسكنه الشعري. ما يجعل «التجربة» مؤطرة سلفا بخاصيتها التجسيمية والرمزية في آن، والتي تقتضي بلورتها حضور ثوابت معلومة، منسجمة مع الأفق الشعري المراد استشرافه، فمفهوم السكن بما يحيل عليه من دلالات رمزية، يتضمن هو أيضا، مبدأ وجود أرضية معرفية تتحقق فيها -على سبيل المجاز- فكرة تهيئة شعرية. علما بأن الحديث هنا عن السكن، لا علاقة له بالمرجعية المعمارية المتميزة بالحضور المادي والفيزيقي للمادة، ذلك أنه وبكثير من الإيجاز، معمار سكني بالمعنى اللغوي، الجمالي والروحي للكلمة.
فكما أن البناء المعماري لا ينهض إلا من خلال استيفائه لشروطه التقنية الوظيفية، التي تتيح للذات ممارسة حياتها بشكل طبيعي وتلقائي. فإن مواصفات السكن بالمفهوم الشعري، لا تكتمل إلا من خلال تملكه لإوالياته الجمالية والفنية. فالأمر هنا، يتعلق باختيار دقيق للفضاءات التعبيرية التي تطمئن إليها الروح، بتواز مع توافر الخبرة النظرية التي ستضفي على الشكل المحتمل فرادة خصوصيته. علما بأن إنجاز هذا الشكل، لا يتقيد بأجندة جمالية معلومة، كما لا يتقيد بهندسة فنية، نهائية وثابتة، بقدر ما يكون منسجما مع هويته المنفتحة على مجهولها ومحتملها.
والسؤال الشعري، الذي يتشكل بموجبه طقس التجربة، يمتلك القدرة على إلهاب قوانين العقل، عساه يغامر بتجاوز اجتراحاته التقليدية – مهما كانت متقدمة – في أفق انفتاحه على مؤانسات مغايرة، ومختلفة، تغتبط روح العقل الشعري باكتشاف مساكنها.
ضمن هذا الإطار فقط، يمكن الحديث عن التجربة، حيث «التفكير الشعري» لا يكون معطى أو متاحا، بقدر ما هو خلاصة تفاعل خلاق بين مقوماته الذاتية والموضوعية، والتي لا علاقة لها بواقع التوظيف المجاني للسيولة المعجمية، أو لأطروحة الفيض الانفعالي والعاطفي. وبالتالي، فإن الحديث عن خصوصية التجربة الشعرية، هو في الأصل، حديث عن المسارات التي يشع فيها ضوء ذلك الزمن العابر للأزمنة، والأحوال، واللغات. ولعل هذا الإشعاع المباغت يحدث في قلب مكابدة تكون عادة مصابة بدكنة العمى، بقدر ما تكون مسكونة بهاجس الكشف عن تدفق أسرارها الخفية، كي تمسي بقوة الشعري مرئية، ومندرجة في حظوة ذلك الحضور الذي تتطلع الكينونة إلى اعتلاء مدارجه. فالتجربة ضمن هذا السياق، تبدو كأنها نتاج لهب السؤال الذي لا يمتثل بالضرورة لسطوة قوانين العقل العملي، لكن وفي نفس الوقت دون أن يتنكر لها بالضرورة، أو يدخل في سجال سالب معها.
والسؤال الشعري، الذي يتشكل بموجبه طقس التجربة، يمتلك القدرة على إلهاب قوانين العقل، عساه يغامر بتجاوز اجتراحاته التقليدية – مهما كانت متقدمة – في أفق انفتاحه على مؤانسات مغايرة، ومختلفة، تغتبط روح العقل الشعري باكتشاف مساكنها. إنها اكتشاف مساكن اللامرئي المنتمية في شق كبير منها، إلى مجهول العدم، حيث يكون بوسع الكائن أن يخترق بفتنة اكتشافه القصوى، جبروت الجدار الأخير، كي يستمتع بتمديد وتوسيع أزمنة حضوره على تخوم الماوراء، بما هي تخوم اللامتناهي، حيث لا أثر لبوابة العدم المغلقة على برودة التباسه، التي تنتصب أمام «العقل العملي» باستفزازها المأساوي، حائلة بينه وبين تطلعه العبثي لتفكيك شراستها.
ثمة فقط وفي طقس التجربة ومديحها أيضا، لك أن تغتسل في أنهار الفراديس. أن تقطف ما تبقى من فواكهها المحرمة. أن تفاكه نساءها الحور، ثم أيضا، لك أن تعرج على زبانية جهنم كي تتفقد أخبارهم، على طاولة لا تغرب الكأس عن سماواتها، طبعا، لا يقف الأمر عند حدود تخييل لغوي، بقدر ما يتعلق بصولة الذهاب إلى حيث ينبغي لك أن تكون. هناك في أتون نار التجربة، كما في برد سلامها. في قلب هذه الاستحالات الكبرى، يكون للتجربة أن تحتفي بحضورها المتعدد الأبعاد، وهي محاطة بشعريات محفلها. شعرية الحرف، بما هي شعرية رؤية ما لا يرى، وشعرية استعادة المنسي. إنها فضلا عن ذلك، شعرية التفكير في ما لم يفكر فيه بعد. غير أن الأهم من هذا وذاك، هو شعرية تبين الطريق المفضي إلى أوائل الأشياء أو نهاياتها. مع الأخذ بعين الاعتبار أن مقومات هذه الترسيمة، لا يستند إلى أي يقين يشفع لها ببلوغ ما تتوخاه من غايات وأهداف، ذلك أن اليقين، هو الصوت النشاز الذي تتنكر له التجربة الشعرية بامتياز، بالنظر لاستسلامها الجمالي، إلى نداء المباغت والمفاجئ والغامض، الذي يكشف ضوء الرؤية عن مكامنه، وعن تشكلاته. وهو مكسب يقع بعيدا عن طائلة اليقين الذي تنعدم معها فرصة الانتشاء بمساءلة الغائم، عله يبوح بما يضطرم في برده من نار، خاصة وأن «الكنه» الشعري لا ينجلي لأي هاجس مسكون بصولة يقينه، بل بالضد من ذلك، هو سليل ذلك التحير، الذي به تغتني التجربة وتتنامى. تجربة الوعي بالحاجة إلى الشيء، دون معرفة ما يمكن أن يكون، وبتعبير آخر، إنه الشيء الظاهر كفقد، والغائب كموضوع. سحرية وفتنة مراودة هذا الكنه، هو جوهر التجربة الشعرية التي لا علم لهؤلاء « القوالين» بها. سحرية وفتنة في آن، لن ترقى إلى تمثلهما مجموع ما يراكمه العقل التقني، تحت قبته الإلكترونية من إنجازات افتراضية. ومهما طالته الأزمنة الحديثة من إعجاز آلي، فإن حاجة الكائن الشعري الدائمة لإغناء تجربته المتفردة والاستثنائية، ستحتفظ أبدا برمزيتها وبملحاحيتها، بوصفها امتدادا أبديا وطبيعيا، لهوسه الجامح، بالكشف عن أسرار المدارات السرية والخفية، التي يتخبط في ظلماتها أجساد الكون.
شاعر وكاتب من المغرب