لا يستطيع الشاعر الفكاك من حساسيته المفرطة تجاه الأشياء والموجودات من حوله، وما يتفتح أمام عينيه من مآس كبيرة، وضحايا استغلال بشري عنيف. فهو لا يبني واقعاً مجاوراً وموازياً للواقع المشوه وحسب؛ إنما تجتاح مخيلته كراهية بريئة، ورغبة خفية في الانتقام من العالم الحسي والحركي، الذي يطفو على سطح من التفاهات. يقذف الشاعر إلى هذا الوجود مدفوعاً بنقص كبير، ويبقى في فلك هذه الدوامة التي تبقيه على قيد الشعر والتأمل العميق لكل ما حوله.
فالكثير من شعراء الحداثة الاستثنائيين استندوا إلى ثنائية الأضداد؛ لخلق عالمهم الخالي من المحاكمات العقلية، بعدما اتجهوا إلى شعرية التوحش، والولوج إلى جوهر الأشياء، من خلال تعريتها وافتراسها، فلم تعد الوردة رمزاً للربيع والولادة، ولا القمر وجهاً للحبيبة، بل صار إلهام الشاعر يشع ويتوهج من القبح وجماليته الساحرة، والمتوارية بعيداً عن الأحاسيس والإدراكات السطحية، وصار الشاعر يتباهى بعدميته في الشوارع والحانات، أكثر من كونه كائناً لغوياً يستوجب التصفيق له والاحتفاء به وتكريمه، وبات الحرمان والأسى مصدراً للإلهام، والنوم عند أكوام القمامة المشتعلة في ليلة باردة، أكثر دفئاً من السرير والوسائد الناعمة.
لست هنا بصدد التعريج على أسماء لامعة في التراث الشعري العربي والعالمي، لكن بصدد اصطياد هذه الجوهرة من أعماق الشاعر المختلجة بالظلام والخوف والقلق. إن محنة الاغتراب والانفصال عن الواقع، التي ترافق الشاعر في مسيرته، ليست وليدة صدمات لحظوية انفعالية في مرحلة معينة، بل هي أشبه ببكتيريا إلهية نمت وتشعبت في روح الشاعر الطفل، ورغباته النزقة، لتبلغ ذروتها بعد سنين الصبا والمراهقة. الصفعة المؤلمة التي يتلقاها الشاعر في بداية حياته، تبقى آثارها واضحة على جسد الشاعر ولغته، وتظهر بين فترة وأخرى في رموز وأقنعة، ثم تتحايل في ما بعد بطرائقها الخادعة والماكرة لتخفي رعبها الحقيقي. تنفك العقدة الإبداعية عند الفنان أو المبدع لتتناسل إلى عقد متشابكة ولا مرئية، وتعمل الصدمات والفقدانات المتكررة على تكثيف الأحاسيس بطريقة صافية جداً وعميقة، فعندما تتخلص حاستا السمع والبصر من شوائب العالم الخارجي، يتحرر الشاعر من حمولة كريهة تجثم على صدره، فينفتح له ستار اللامرئي، وتبدأ جميع الأشياء من حوله تنبض بالشعر، ليصبح صانعاً للرؤى، ومتحكماً في دفة المخيلة وهي تبحر بعيداً وراء عالمنا المادي المحسوس، أو تنهل من الصور والرموز المختبئة في الأحلام وبئر اللاوعي. لا يستطيع الشاعر اللجوء إلى الأغلبية، ويقدم مجموعة من الاشتراطات والتنازلات لثقافة القطيع؛ ليشعر بالدفء والأمان المرجويين، كأن يعمل بشكل مستمر، أو يستقر ماديا ًوعائليا أو يتبنى مذهباً سياسياً وأيديولوجياً يؤمن به طيلة حياته.
في عصر الآلة والعولمة المؤدلجة، فقد العالم مركزيته وانهارت الرموز التي كانت تحيط الشاعر بهالة مقدسة، وازداد عدد الشعراء بالملايين واختلطت الأوراق على القارئ، حتى صار الشعر منبوذا ومهجوراً حتى من الشعراء أنفسهم
لأن هذه الأشياء ستشعل في داخله جحيم الصراع بين مثاليته وتمرده من جهة، وسذاجة الواقع الذي كان يركله بقدميه من جهة أخرى، وهذا في أغلب الأحيان دفع الكثير من الشعراء إلى الانتحار، إضافة لأجواء الكآبة والإخفاقات المتتالية التي تبقى ملازمة الشاعر في يومياته وعلاقاته مع الآخرين. مع شعوره التام بالعجز والقهر في مجتمع جاهل يرزح مستمتعاً تحت سلطة القمع والكبت.
يقول نيتشه: «الكسل هو بداية الفلسفة». وربما يكون بداية لأغلب إبداعات العقل البشري، فالمبدع عندما يستسلم للراحة والكسل، فإن آلاف الأفكار والأوهام تدخل في ذهنه وتخرج، فما عليه إلا أن يعمل حدسه وبصيرته الثاقبة لتكثيف حالته الشعورية، واصطياد ما هو غريب وشاذ من هذه الأفكار. وهذا يتطلب استنزاف طاقة جسدية كبيرة، وطاقة فكرية أيضا، تجعله يشعر بسعادة خطرة، أو ألم لذيذ، وهو يتقمص هذه الأفكار، وينحتها بطين مخيلته المجنونة واللانهائية، ليقنعنا بالأشياء في عالمه وهي ترتدي ثوب اللامنطق واللامعقول؛ بأنها واقعية وحقيقية. أوليس الإبداع هو أن تقنع كل العقلاء من حولك بهذه السلسة من الجنون، وبالعالم كما أردته أنت؟
في عصر الآلة والعولمة المؤدلجة، فقد العالم مركزيته وانهارت الرموز التي كانت تحيط الشاعر بهالة مقدسة، وازداد عدد الشعراء بالملايين واختلطت الأوراق على القارئ، حتى صار الشعر منبوذا ومهجوراً حتى من الشعراء أنفسهم، الذين أتعبهم هذا الاحتراق البارد الذي تداهمهم فيه الشعرية بروح غامضة وتستولي عليهم، فاتجهوا إلى أجناس أخرى، بعدما اقتنعوا أن لا فائدة مرجوة من الكتابة، بلا مخلص عظيم، ولا فائدة من الصراخ الذي يبتلع الهاوية والصدى، فلا أثر يبقى بعدهم سوى رماد تذروه الرياح، ولا شيء حقيقي سوى العدم. أما الآخرون فقد اقتنعوا بالصمت الذي يوجبه فعل الكينونة، وصارت الكتابة بالنسبة لهم بمثابة طقوس تطهيرية من الألم ومن ثقل الحياة وأوجاعها.
في ظلام العاصفة يقف الشاعر كنبي متكئاً على عصاه، يخدش الليل بأظافر من ضوء، يمسح عن ظهره غبار الأزمنة، ومن يديه تشع الحجارة كياقوت حزين، لم تفتته أسنان الليل، ولم يبتلعه السراب. يحمله الهدير المنبثق من حزن العصور إلى غيمة في الأعالي، ينتظر الموسيقى، أو ضوء الملاك لتنتشله من المتاهة إلى الأبد.
٭ كاتب عراقي