لا يحتاج مثقف ورائد في الثقافة والسياسة كطلال سلمان إلى تعريف، لكنني أحب أن أحكي عن الجوانب الإنسانية العظيمة في شخصيته، خاصة بعد أن صرت وعلى مدى خمس سنوات أنشر معظم مقالاتي في جريدة “السفير” التي كانت منارة ثقافية.
الخطوط الحمراء
في الواقع بدأت الكتابة في “السفير” في 2011 أي بداية الربيع العربي والثورة السورية إذ أصبحت مقالاتي يُرفض نشرها في جريدة “الثورة” ( كتبت لمدة عامين في جريدة الثورة، والعديد من مقالاتي تم رفضها لأنها تتجاوز الخطوط الحمر مثلاً : الحديث عن مدربات الفتوة خط أحمر لأنهن يمثلن الجيش السوري، أيضاً الحديث عن فساد الأطباء المتعاقدين مع الجيش السوري لأنهم يمثلون الجيش وهو خط أحمر) كنت أعيش في اللاذقية محاصرة كلياً بالخطوط الحمراء في الكتابة لدرجة أحسست كل شيء أحمر في سوريا ممنوعا ما عدا الورد الأحمر الذي يزين قبور الشهداء الأبطال . حين أرسلت أول مقال لجريدة “السفير” لم أتوقع أن مقالي سيُنشر خلال أيام قليلة، أعجز عن وصف الفرح الذي أحسسته، ليس فرحاً بنشر مقال لي في جريدة “السفير” بل إحساسي أن طاقة حرية فتحت لي.
أعطاني نشر مقالي كل الزخم لكتابة مقالات بكثافة، كنت أكتب عن الواقع السوري في مدينتي اللاذقية، عن كتب كثيرة قرأتها وأعجبتني، وكل مقالاتي كانت تُنشر في السفير مدفوعة الأجر.
كنت دائمة السفر إلى بيروت لأن كل أعمالي ( من روايات إلى مجموعات قصص قصيرة ) كانت تُنشر في دار الساقي والدار العربية للعلوم. والتقيت طلال سلمان في مكتبه الأنيق الذي لا تُغلق فيه شاشة التلفاز أبداً فهو يتابع دوماً الأخبار في محطات كثيرة واستقبلني بحفاوة وأبدى إعجابه بمقالاتي، وكان يُصر أن أشرب القهوة ونتحدث، هو يستضيف كل الكتاب والأصدقاء ويكرمهم ويستمع إليهم ، كان يسألني أسئلة دقيقة عن حياة الناس في سوريا، وأنا كنت أغرقه بالأسئلة، وكم اغتنيت بمعلوماته خاصة في فهم السياسة في عالمنا العربي وفي العالم. طلال سلمان تعرض مرتين لمحاولة اغتيال إحدى محاولات الاغتيال أصابت رصاصة في وجهه مما أدى لتهشم عظم الحنك وخضع لعمليات جراحية عديدة. الحمد لله نجا من محاولتي الاغتيال . وأحب أن أذكر حادثتين توضحان شخصية طلال سلمان الإنسانية :
– الحادثة الأولى : ذات يوم في 2012 كنت في بيروت، تجمدت أمام صورة كبيرة جداً للدكتور ( عبد العزيز الخير ) بمساحة الباب مكتوب تحتها: الحرية للدكتور عبد العزيز الخير، وقفت مذهولة أحدق بصورة عبد العزيز الخير الذي اختفى في مطار دمشق الدولي أثناء عودته من أحد المؤتمرات. كان اسم (الدكتور عبد العزيز الخير) خاصة السؤال: أين هو !!! يجعل فرائص السوريين ترتعد رُعباً حتى الحديث عنه كان همساً ( فللحيطان آذان ) . وكانت كدسة كُتيبات تحمل صورة الدكتور (عبد العزيز الخير) مكدسة في مكتب الاستقبال لجريدة السفير، ووجدتني آخذ العديد من الكتيبات التي تحكي عن الدكتور عبد العزيز الخير، نشأته ، وثقافته ، ومشروعه السياسي ، الأهم أن كل الكتيبات تُطالب بالحرية للدكتور عبد العزيز الخير، ورغم أن العديد من الأصدقاء نصحوني ألا أحمل تلك الكُتيبات معي إلى سوريا لكنني أدخلتها.
– الحادثة الثانية التي أحب أن أحكيها عن الصديق طلال سلمان هو أنني حكيت له عن صديقة حبيبة إلى قلبي من حلب الشهباء وهي طبيبة متزوجة، ولديها ابن وابنة في سن المراهقة وكانت تملك مخبراً في حلب الشهباء (كان مخبرها من أهم المخابر في تحليل الدم ) حين بدأ جحيم حلب الشهباء اضطرت وأسرتها أن تلجأ إلى بيروت، عانت الكثير في بيروت ، تنقلت وأسرتها في بيوت عديدة ، بيتها ومخبرها في حالة يُرثى لها في حلب، تم فصلها من نقابة أطباء حلب بعد أسبوع من مغادرتها حلب إلى بيروت ، كان طلال سلمان مستمعاً رائعاً ولمت نفسي أنني استفضت كثيراً بالحديث عن صديقتي . أشعل سيجارة وقال لي تعالي أنت وصديقتك غداً إلى مكتبي، تفاجأت لم أسأل لكنني أحسست بالامتنان، حين أخبرت صديقتي أن الأستاذ طلال سلمان أراد أن يلتقيها لم تصدق ، صفقت من الفرح، وحين زرناه في اليوم التالي استمع لصديقتي وسألها أسئلة كثيرة، وقال لها: سائقي ينتظرك الآن، أمنت لك مقابلة مع مدير قسم المخابر الطبية في لبنان، وسيعمل كل جهده ليؤمن لك عملاً. دمعت عينا صديقتي من التأثر، فلم تتخيل أن إنساناً سيتحسس لألمها ويساعدها، وقالت له مرتبكة: صدقاً لا أعرف كيف أشكرك . ضحك وقال تدعيني إلى فنجان قهوة .
حب الحياة في مواجهة الموت
صدف بعد أيام أن المطرب حمام خيري من حلب الشهباء الذي دمر بيته والإستديو الذي يملكه كان في بيروت، وزار أسرة صديقتي ( هو صديق الأسرة ) كنت عند صديقتي ، وكانت قد استأجرت بيتاً في بيروت، وخطر ببالها فكرة وسألتني: ما رأيك لو ندعو الأستاذ طلال سلمان للسهر معنا، خاصة أن حمام خيري صوته رائع ، واتصلت بالصديق طلال سلمان ولم أتوقع أنه وافق ببساطة على الحضور، وأحضر معه علب حلوى ونبيذاً ، وتحلقنا حول طاولة الطعام والكل يشعر بالفرح والفخر أن طلال سلمان يشاركنا السهرة ، وبدأ حمام خيري بالغناء ( موشحات حلبية ) ، وحلقنا في أجواء الطرب والنشوة ، وأعجب طلال سلمان كثيراً بصوت حمام خيري وطلب رقم هاتفه ، وكم كان بسيطاً وهو يتمايل طرباً على صوت حمام خيري . وبكت صديقتي وهي تتذكر حلب الشهباء . فطلب من الجميع طلال سلمان أن يستمعوا إليه للحظة وحدثنا عن الحرب الأهلية في لبنان ووحشيتها وكيف كان وأصدقاؤه يقاومون اليأس والحزن ويُصرون على حب الحياة بالسهر كل يوم والغناء والحديث، وصوت الرصاص يُلعلع ، وتمكن من إقناع صديقتي وأسرتها أن لا مفر من مقاومة الحزن بالفرح والغناء وبالحديث بسهرات رائعة كتلك السهرة فالفرح قوة ، والإنسان السعيد قوي.
بعد أيام دعاني طلال سلمان ودعا صديقتي الحلبية وأسرتها لحضور حفل طرب حلبي في مسرح المدينة، كانت سهرة رائعة.
أخيراً أحب أن أختم بتلك الحادثة الطريفة. فذات يوم دعاني الأمن السياسي لمراجعته بسبب مقال كتبته، وهم دوماً يتصلون الثانية فجراً ليبلغوا الشخص أن عليه مراجعة أحد فروع المخابرات ( يبدو أن الساعة الثانية فجراً مُقدسة لسبب نجهله) في اليوم التالي وأنا أسلم هاتفي المحمول وساعتي لموظف في غرفة ضيقة في مدخل فرع الأمن وأعبر العديد من الحواجز الإسمنتية العملاقة، ومن بعيد أرى طيف مئات السوريين ينتظرون عند مركز توزيع الخبز، وقفت مذهولة أمام شجرة رائعة، وصرت أتساءل أي جرأة تتمتع بها الشجرة لتزهر بتلك الطريقة المُتحدية في فرع مخابرات !!
عصر اليوم نفسه وأنا في اللاذقية كتبت مقالاً عن فرع الأمن في اللاذقية والشجرة أرسلت المقال لصديقي طلال سلمان السابعة مساء (هو يقصد مكتبه مساء ويبقى حتى الفجر أحياناً) . صباح اليوم التالي كان مقالي عن الشجرة وفرع المخابرات في اللاذقية منشوراً في جريدة “السفير”.
الرحمة لروح مثقف عظيم، قمة في الإنسانية والكاريزما والتحليل العميق لكل الأحداث العربية والعالمية.
كاتبة سورية