عام 1979، وبعد استقالتي أو إقالتي من مجلة «شؤون فلسطينية»، أخذني الصديق والزميل العزيز بلال الحسن إلى جريدة «السفير» حيث التقيت طلال سلمان. «هنا سيكون بيتك الأدبي»، قال بلال، بعدما أنجزنا اتفاقاً بأن أتسلم رئاسة تحرير القسم الثقافي في الجريدة.
وكانت تجربة مذهلة، ميزتها التعددية والمغامرة. لا أدري كيف استطاع طلال سلمان تحمل تلك الجرعة من التجديد الأدبي والحداثة، التي حولت جريدته إلى جريدة طليعية أدبية عربية ولبنانية، من هادي العلوي إلى سعد الله ونوس إلى عباس بيضون وصنع الله إبراهيم وحسن داوود… استنبطنا صوتاً أدبياً للذين لا صوت لهم، وما لبث هذا الصوت أن اتخذ نكهته السينمائية مع مخرجين يسري نصر الله ومحمد سويد.
لا شك أن جرأتنا الأدبية كانت جزءاً من لحظة الحرب الأهلية اللبنانية. فالحرب كانت تحمل وجهاً ثقافياً مشرقاً، ما لبثت الطوائف والهزائم والتدخل العسكري السوري أن حجبه، قبل أن يأتي الاحتلال الإسرائيلي ويحوله إلى حطام.
«السفير» لم تكن جريدة ثقافية، بل أتت لتنافس بجدارة «النهار»، التي كانت تتربع على عرش الصحافة اللبنانية. كانت جريدة عروبية-ناصرية-يسارية-شيوعية- جمعت كل احتمالات الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. لذلك كانت جريدة ملتبسة، تمويل ليبي في البداية، وأقلام مصرية، وروحية نهضوية مثلها ياسين الحافظ، وجيل شاب ينبض حيوية أغلبهم قادمون من منظمة العمل الشيوعي: جوزف سماحة، حازم صاغية، جورج ناصيف…
كل شيء كان واضحاً: أجنحة سياسية مؤتلفة، تجديد صحافي ولغوي، ونبض شبابي أعاد بيروت إلى صوتها.
غير أن الغامض الوحيد في الجريدة كان رئيس تحريرها، هل هو ناصري يلعب لعبة اليسار؟ أم هو فتحاوي بلباس قومي عربي أقرب إلى الجبهة الشعبية؟ أم هو موّلف كلمات بحيث يأتلف سعدالله ونوس مع أدونيس ويتحول ناجي العلي إلى أيقونة الحرية الفلسطينية.
هل كان طلال سلمان ورئيس تحرير الجريدة بلال الحسن يعلمان أي كنز صحافي وثقافي كان تحت أيديهما؟
كانت مرحلة «السفير» في حياتي مزيجاً صاخباً من الإبداع والنضال والتوتر. فالعلاقة مع طلال سلمان لم تكن سهلة. لا أدري كيف استطاع الرجل تحمل نزقي الأدبي والسياسي. كان يدير جريدته على حافة بركان السقوط العربي، وكنا نكتب وكأننا نستطيع مقاومة السقوط بالكلمات. لم نفهم دلالات محاولة اغتياله عام 1984 التي قادته الى مهادنة النظام السوري قبل أن تجبره على الارتماء في أحضانه. تركت «السفير» عام 1981 وعدت إليها بعد اجتياح لبنان، عندما قررنا تناسي الخلافات ومقاومة زمن الاحتلال. هكذا عدت إلى «جريدتي» كي أكون مع شعبي المقاوم، قبل أن أغادرها نهائياً مع الغزو الأمريكي للعراق.
سيرة «السفير» هي سيرة صعوبة تأسيس وطن من كلمات، في مدينة تحولت إلى عنوان الدم والحرب والإبداع. فجأة، اشتعلت المدينة إبداعاً شعرياً وموسيقياً، التمع زياد الرحباني واشتعلت الأغنية السياسية مع مارسيل خليفة، انطلقت الرواية كاسرة كل الحدود، ومن بيروت صار محمود درويش شاعر العرب الأكبر. كيف اجتمع الدم والإبداع؟ كمال ناصر مصلوباً على دمه وكمال جنبلاط مصلوباً على كلماته؟
كانت «السفير» جريدة حرب وجريدة محاربة، وعندما بدأت الحرب تتعفن على أيدي ملوك الطوائف والجنون الأمريكي في العراق، بدأت «السفير» تضمر، ولم تعد قادرة على استعادة صوتها القديم على الرغم من كل محاولات التجديد الشبابية. فـ «السفير» إلى جانب «النهار»، كانتا أبجدية بيروت.
كيف تكتب حكاية مدينة بأبجدية ممحوة؟
هذه الأبجدية التي كانت تُمحى أمام عيوننا كانت نتاج خطأ تكويني في الصحافة اللبنانية، فمع نهاية مرحلة العصاميين الأفراد برزت ظاهرة التمويل مع الطفرة النفطية. والحبر والنفط لا يمتزجان مهما وجد البعض من مبررات تجعل من الحبر عبداً للنفط.
في مفترق العلاقة بين الحبر والنفط والدم سقطت بيروت وسقطت صحافتها.
ما فعله طلال سلمان حين أقفل جريدته وأطلق النار على أحرفها، هو واحد من أكثر القرارات شجاعة.
ماتت «السفير» واقفة قبل أن يبتلعها موت الفكرة العربية وتفشي الطائفية والمذهبية.
هل كان طلال سلمان يعي أنه حين أطلق النار على جريدته، كان يطلق النار على نفسه أيضاً؟ كان شجاعاً إلى درجة الخوف على موت جريدته، فقتلها في لحظة نادرة جمعت الشجاعة والخوف.
تحية لرئيس التحرير الذي تعلمنا المشاكسة على يديه.
والآن أسأل من يرثي من: «الســــــفير» ترثي صاحبها، أم طلال سلمان يرثي «سفيره» من خلف حجاب المـــوت؟