بيروت-“القدس العربي”: لم ينل كتاب “زمن زياد” إعجاب من تشكلت صفحاته بقلم وريشة دقيقين بحثا في أثره المنتشر محليا وعربيا، فقد ضجر في منتصفه. وصف وشعور من الفنان زياد الرحباني حيال الكتاب لم يحولا دون صدور طبعة خامسة منه في غضون سنتين وبضعة أشهر، فهو يجد إقبالا فاجأ كاتبه طلال شتوي الذي عاش سنوات خصبة من حياته في الكتابة الصحافية رئيسا أو سكرتيرا للتحرير حتى قبل تخرجه من كلية الإعلام والتوثيق. هجر المهنة إلى غير رجعة ويتابع الكتابة في الأدب، والرواية والشعر.
معه هذا الحوار عن كتابه “زمن زياد”:
*هل هو “زمن زياد” أم زمن عربي لأحلام مكسورة أو مؤجلة؟
** اعتبرته زمن حنين وحنان، وهو في الواقع زمن خيبات وإنكسارات لجيل عربي كامل. وليس صدفة أن تكون بيروت هي المسرح الذي وقعت فيه كل هذه الخيبات والإنكسارات. ولكن، وعبر شخصيات الكتاب وعبر الرمز الذي اخترته وهو زياد الرحباني ليصل بين البشر والأمكنة والأزمنة والأحداث، أستطيع القول إنه أيضا زمن الأمل والنهوض، وزمن المقاومة. كل شخص في هذا الكتاب قاوم على طريقته، ونهض من إنكساره، وكل مكان قاوم كي يبقى، وإن لم يستطع هذا المكان من البقاء حجرا، فقد بقي ذكرى وحكايات. إنه كتاب يوثق حنانا لتلك الأيام الجميلة والتي شاء القدر أن أكون شريكا وشاهد عيان في جزء كبير منها.
*هل دفعتك بيروت التي جئتها لدراسة الإعلام للانتماء إلى هذا الزمن أم كانت لديك قناعاتك المسبقة؟
**جئت لبيروت للدراسة والعمل، وفعليا انتميت إليها. وقبل هذا الإنتماء كنت في عمر المراهقة مقيما في مسقط رأسي ومدينتي طرابلس، وكنت أحمل كثيرا من الأسئلة التي جعلتني أقترب من شتى الأفكار والمعتقدات وربما كل الأحزاب الموجودة على مساحة الوطن. اقتربت من كل هذه الأحزاب والتنظيمات على تناقضاتها. وكثيرون اعتبروني قريبا منهم أو مناصرا، أو مشروع رفيق. لكنني فعليا كنت ما زلت أتشكل. سلمت نفسي لبيروت وهي التي شكلتني. في اليوم الأول الذي نمت فيه في الطريق الجديدة، وتحديدا في شارع الاطفائية في بناية الغاردينيا على بعد أمتار من الفاكهاني، أدركت أنني بدأت أتعرف على بيروت الحقيقية، بيروت ذات الوجه الفلسطيني والعربي.
*الجيل الذي عايش مرحلة إشعاع الأخوين رحباني لامهما لدى اندلاع الحرب الأهلية لأنهما سوّقا في فنهما وطنا لم يكن حقيقة. فهل سيبقى زمن زياد بمنأى عن اللوم؟
**المفارقة أن زياد الرحباني نفسه انطلق في إنتاجه الإبداعي وكأنه ليس على علاقة جيدة مع إنتاج الأخوين من حيث المضمون الفكري، ومن حيث لبنان الحلم. وأكثر ما يعبر عن تمرد زياد على وطن الأخوين شبه المستحيل مسرحية “شي فاشل”. إن أردنا الدخول في افتراض يتعلق بإنتاج زياد وكيف ستستقبله الأجيال المقبلة علينا أن نختار إما أن تكون هذه الأجيال قد استقرت في بؤرة اليأس الكامل، وبالتالي ستلوم زياد، كما لام هو الأخوين رحباني، أو ستنجح هذه الأجيال في تكوين مشهدية جديدة لوطن عقلاني أكثر، وربما عصري أكثر، ويمكن التعايش معه أكثر. ودعيني هنا أقول أنني أجنح إلى التفاؤل، فأنا أرى لبنان الحالي وقد انهار فعليا، وهذا أمر مبشر، فبعد الانهيار ستكون الولادة الجديدة.
*هل من أثر ملموس لجيل زمن زياد على الصعيدين السياسي والاجتماعي؟
** نحكي تحديدا عن جيل الحروب الأهلية اللبنانية البشعة، وزمن الثورة الفلسطينية بمشهدها البيروتي وأوجها مع منظمة التحرير الفلسطينية، وزمن تباشير التخلي العربي عن القضية التي كان يتم التعبير عنه بشكل خفي، وصار اليوم فاجرا ومعلنا. هذا الجيل عاش كل ما أقوله، وكل هذه الأفكار والخيبات وفهمها، وأستطيع القول انه جيل مقاوم بامتياز. لا بل أعتقد أن ولادة المقاومة اللبنانية ضد العدو الإسرائيلي أتت من رحم هذا الجيل.
*وهل لي أن أفهم أنه جيل غير محبط وغير عاجز وأنه يحتاج لمزيد من النضوج لتحقيق ذاته؟
**لا بد أن أقول إن زياد نفسه من ضمن هذا الجيل، وبالتالي هم جميعا لا يزالون مؤمنين مجاهرين بخطابهم المسمى خشبيا، في حين أنه الخطاب الذهبي. وهم أنتجوا في كافة ميادين حياتهم والدروب التي قادتهم إليها فنونا وموسيقى، وأشعارا وكتبا وأفكارا وروايات، وحتى تأثيرات على المحيطين بهم تحمل شعلة الأمل، وتحمي فكرة لبنان الوطن الذي نستحق أن نصنعه، ولبنان اللاطائفي، وفكرة الأرض التي يجب أن نسترجعها وبالقوة، وليس خنوعا أو إذعانا وهي فلسطين.
*رويت زمن زياد بلسان عشرة أشخاص مختلفين ومتنوعين. هل كانت اللقاءات معهم بالمقدار عينه للقاءات مع زياد؟
** اقتصرت علاقتي بزياد على لقاءات عابرة قليلة، إضافة إلى لقاء واحد طويل تحضيرا لحوار تلفزيوني بثه تلفزيون “المستقبل”. وبعده توقفت العلاقة الشخصية مع زياد بشكل نهائي، فقط بيننا بعض التحيات المتبادلة عبر أصدقاء مشتركين.
*وما هو تعليقه على كتاب “زمن زياد”؟
** عندما سئل إن كان قد قرأ الكتاب ردّ أنه بدأ في القراءة ووصل إلى ثلثه أو نصفه وشعر بالضجر. وحين أرادت الصحافية السائلة الاستفهام عن دواعي الضجر، فسّر بأنه لم يعد يفهم ما الذي يربطه بهؤلاء الأشخاص وما الذي يربطه بهذا الكتاب.
*وهل شكل الكتاب أحجية لزياد في رأيك؟
** يبدو كذلك لأنه وصفه بهذا الشكل. كما وأشار زياد خلال حواره هذا أن كثيرين من الذين يعرفهم أحبوا الكتاب كثيرا، وأن الكاتب ربما يعرف تماما ما الذي يفعله. وهذا لم يمنعه من قول رأيه الصريح بأنه لم يحب الكتاب.
*ولماذا لم يحبه الضجر غير مبرر؟
** على ما أذكر قال حرفيا أن الكتاب فيه تأليه وتكريس لشخصه، وهو لا يحب هذا النمط من التعاطي معه. كما أشار إلى أن نجاح الكتاب يتعلق بالـ”ماركت”. وهي الكلمة التي استعملها. ورغم أنني أفهم زياد وأقبل برأيه، لكنني أعترض على وصفه للكتاب بأن يؤلهه. فبعد مراجعة دقيقة قمت بها للكتاب وجدته أنسنة لزياد، وأنا أدرك ما أقوله. خصوصا أن كتابي لا يحمل ما يروج عن زياد منذ ربع قرن تقريبا بأنه نبي هذا العصر، وبأنه حبيب الشعب، وبأنه ملك الساحة على بياض وصولا إلى القول الشعب يريد زياد الرحباني. هي تعبيرات لطيفة من جمهور زياد ولست ضدها، لكنها لا تنتمي إلى نسيج كتابي الذي أضاء على وجه حقيقي لزياد وهو وجهه الإنساني، وعلاقته كإنسان بالأحداث التي تأثر وأثر بها. في كل الأحوال هو حر في طريقة تقبله للكتاب، ولا غضاضة في أن أطلب منه عبر هذا اللقاء أن يعيد قراءته ليتأكد مما أقوله.
*وما رأيك بـ”كوليكتيف” الحزب الذي أطلقه زياد الرحباني؟
** لا تعليق.
*في كتابك بحثت عن آخرين تربطهم تقاطعات وحكايات مع زياد بين بيروت، الشام، حلب وفلسطين. هل امتداد زياد عربي واسع جدا؟
**وأضيف القاهرة، فإحدى شخصيات الكتاب صيدلاني مصري. ولا أخفيك أنني تواصلت مع فنان تشكيلي تونسي، ومع مخرج عُماني من مدينة صلالة لكي أضمهما إلى الكتاب. سبل التواصل دون لقاء مباشر كانت صعبة بيننا. لو أتيح لي إضافتهما إلى الكتاب لأكتشف كثيرون أن زياد موجود في بلاد المغرب العربي وفي الخليج العربي أيضا.
*لماذا تركت الجزء الثاني من الكتاب لجيل آخر؟ هل لطارق أن ينفذه أم لك أعادة النظر في موقفك؟ أم أن “كوليكتيف” قطعت نهائيا الفكرة؟
** العبارة الأخيرة من الكتاب ستبقى نفسها ولن تتغير. أنا متأكد أن جزءا ثانيا من هذا الكتاب سيصدر يوما ما. وبما أنه يحتاج لزمن معين كي يصدر فقد أوكلت المهمة للجيل الجديد. الاختيار الافتراضي لطارق هو اختيار لجيل سيأتي بعدي. فطارق ابن مدينة النبطية، وكما قال فإن زياد هو معلمه وملهمه.
*في نهايات 2018 عقد الحزب الشيوعي ندوة حوارية حول كتاب “زمن زياد” هل تبنى الحزب الكتاب أم طلال شتوي من الحزب؟
** أنا قريب من الحزب الشيوعي ولم أنتم إليه. من الطبيعي أن لا أكون قريبا من أي حزب طائفي. وبالتالي أنا قريب من كل التنظيمات والتوجهات المناهضة للطائفية، وتحمل أفكارا نهضوية. عقدت الندوة في المركز الرئيسي للحزب، أعتز بها، وخلالها التقيت عشرات الشيوعيين المؤمنين بالقضية وبمبادئ الحزب. تحدثنا على مدى ثلاث ساعات وكانت لهم آراء متنوعة حول الكتاب. عاتبوني لأنني لم أوضح هوية زياد الشيوعية. وأوضحت بأن تلك الهوية ليست في حاجة لإيضاح حزبي.
*عندما طُبع “زمن زياد” هل تخيلت أنه سينتشر بهذا الاتساع وصولا إلى طبعة خامسة قبل أيام؟
**توقعت نجاحه على مستوى الجمهور، إنما لم يخطر في بالي مطلقا أن الطبعة الأولى ستنفذ من الأسواق قبل يوم التوقيع، لتستدرك دار “الفارابي” الأمر بطبعة ثانية سريعة بهدف انجاز التوقيع في معرض الكتاب العربي في بيروت. وبعد ما كتبه كثيرون كما سمير عطالله، في “النهار” والدكتورة يمنى العيد، في “القدس العربي” والدكتورة ليلى الخطيب توما، وفيصل الترك في “الأخبار” وأحمد السح، في “الوطن” السورية، مصطفى حمزة في “الأخبار” المصرية وغيرهم الكثير من الكتابات التي اعتبرت زمن زياد كما سماه أحدهم “تحفة من تحف البيوغرافيا”. ووصف بأنه جديد في تقنيات الكتابة. رقيق وأخاذ. يشبه الدليل الذي يقودنا إلى الذكريات الجميلة في ذلك الزمن العصيب. بعد تلك الأوصاف بدأت أفهم لماذا تتوالى الطبعات. أعتقد أن “زمن زياد” سيبقى كتابا رائجا لسنوات طويلة.
*وماذا بعد “زمن زياد”؟
** كما سبق القول طويت الصفحة وصدرت لي رواية “لا أحد يصل إلى هنا”. لو عملت وفق رغبة الجمهور لكان لي بعد الاستقبال الرائع لكتاب “بعدك على بالي” جزء ثان وهو يحتمل عشرة أجزاء، وطويت الصفحة واعتبرت الكتاب قد اكتمل وحقق نجاحا جميلا، وعليَ الذهاب إلى مكان آخر فقدمت تجربتي الشعرية في كتابين هما “هذا الأزرق أنا” و”كان يكفي أن نكون معا”. ذهبت إلى “زمن زياد” ولم يمنعني نجاحه الساحق من الذهاب إلى رواية بلغة جديدة وبادعاء أنني أطرح أسلوبا روائيا جديدا على المستوى الروائي عموما وليس العربي فقط. فقد وصفت الروائية بأنها مكتوبة بلغة سينمائية جديدة. وأنا الآن بصدد كتاب فيه مبحث وأماكن جديدة.
*هل ترى أنك ابتعدت بالتدريج عن لغة الصحافة؟
** كسرت نهج الصحافة الكتابي عبر الرواية وذلك لمزاج خاص بي. نهج دخوله ليس سهلا، ومن يتمكن منه سوف يكتشف طرقاته. في “بعدك على بالي وزمن زياد” كنت مع نهجي في الكتابة والذي سأكمل به. الوصول إلى الناس يهمني جدا برغبة الوصول إلى أوسع شريحة من البشر. ومن يعتقد بأن الوصول إلى الناس هو الهبوط فهو يبرر لنفسه عدم وصوله.
*عشت مع الصحافة عصرها الذهبي فهل صارت بعيدة مع بدء مشروع الكتابة الخاص؟
**صحيح. هو بعد عن الصحافة والإعلام بكافة أشكاله وهو سابق لإصدار أي من كتبي. أتفرغ حاليا للكتابة ولا رغبة لي في أي عمل إعلامي من أي نوع.
*كيف ترى الإعلام في حاضره؟
** عشت الفترة الفاصلة ما بين الرعيل الأول وبين المستجدات والمتغيرات التي تطرأ على العمل الصحافي، وهي لم تكن مرحلة جميلة. خلالها كنا نقاوم ونحاول الصمود بصحافتنا التي لها معاييرها الجدية والمستمدة من تاريخ طويل لبناني ومصري تحديدا في المهنة. حين بدأت تلك المعايير تنهار كنت محظوظا بأني ابتعدت عنها. والانهيار لف كافة ميادين الإعلام. الإعلام الموجود حاليا لا يشبهني وأنا لا أتسلى به كمتلق فكيف يمكن أن أكون أحد العاملين فيه؟ هو إعلام غزير ولا ينتج سوى الفراغ.