طماطم

تحدثت في المقال السابق عن اليابان كنموذج أخلاقي مميز يؤكد عدم ارتباط الأخلاق مباشرة بالدين، حيث تعد اليابان أحد أقل المجتمعات دعماً لمظاهر التدين في الحيز العام في الزمن الحديث، وأكثرها انضباطاً أخلاقياً لحد وصفها بكوكب آخر منفصل عن هذه الكرة الأرضية وجنسها البشري. بلا شك، هناك تأثير عميق للأديان القديمة على الأيديولوجية اليابانية الحديثة، إلا أن المثير للانتباه هو أن هذه الأديان القديمة في معظمها كانت أدياناً فلسفية دنيوية تتعامل مع مفاهيم الحياة الدنيا ولا تتطرق كثيراً لا للطريق إلى ولا للمصير الذي سيكون بعد الموت.
بعض المفكرين المعاصرين لا يكتفون بالقول بعدم وجود ارتباط مباشر بين استتباب الأخلاق في مجتمع ما وتديّنه، بل يوعزون إلى أن التدين، في أحيان وارتباطاً بحالات معينة، يمكن له أن يضعف المنظومة الأخلاقية ويبتعد بالمجتمع عموماً عن ممارساتها. يرى هؤلاء المفكرون أولاً أن وجود نظام ديني به مخارج تسهيلية أو تبريرية يضعف المنظومة الأخلاقية، فعلى سبيل المثال نظام الاعتراف المسيحي يعمد إلى تقليل الشعور بالذنب والمسؤولية، مخلياً تاريخ الإنسان من «آثامه» ومبيضاً صفحته، لينطلق مع أخطائه من جديد وليعود بها مرة أخرى إلى الكنيسة معترفاً ومخلياً طرفه منها ومن تبعاتها. في الإسلام، تقدم فكرة ولادة الإنسان من جديد بعد الحج نفس الشعور بإخلاء الطرف، إلا أن المنظومة الإسلامية أكثر تعقيداً وتشدداً في تحميل الإنسان مسؤولية أعماله، في اقتراب أكبر من الأيديولوجية اليهودية عنها من المسيحية. العامل الإسلامي الأكثر تأثيراً في موضوع التبرير والتسهيل قد يتمثل في منظومة الفتاوى التي نجدها تُفَصّل أحياناً تفصيلاً دقيقاً للتواؤم والحاجات التبريرية لدى البعض، خصوصاً فيما يخص الرغبات والنزوات الرجالية. كنت قد أثرت في مقال سابق كذلك مثال فتاوى السماح بالاستيلاء على أموال «الكفار» لمن يحيا من المسلمين في الغرب، مما نشر الفكرة المجحفة وغير العادلة بانعدام أمانة وخطورة التعامل مع المسلمين الذين يحيون في أوروبا وأمريكا، فالقليل يسيء للكثير، وقطعة طماطم فاسدة واحدة كفيلة بتلويث سمعة بقية الطماطم ونشر رائحة الفساد إلى أبعد الحدود.
المنطلق الثاني لرأي المفكرين حول ارتباط التدين المجتمعي أحياناً بالبعد عن الالتزام الأخلاقي يكمن في الشعور العارم بالأمان الذي يحيط المتدين نفسه به (دون تعميم هنا أو في أي موقع آخر في المقال) حيث يتشكل هذا الشعور بالأمان من منطلقين، الأول يكمن في الثقة بالوصول للجنة مهما بلغت درجة الآثام والذنوب، فبعد تلقي العقوبة الجحيمية على هذه الآثام والذنوب وطالما توفر الإيمان بالله، سيكون مصير المؤمن الجنة ونعيمها. هذا الوعد يشكل وسادة يتكئ عليها المتدين قرير العين بوصوله للمثوبة ولو بعد حين مهما بلغت درجة الآثام، طالما أنه لم يشرك بالله. في المسيحية الرب يحبك ويحميك بذنوبك وآثامك، وفي الإسلام أنت للجنة ونعيمها طالما لم تشرك بالله أحداً. أما المنطلق الثاني فيتشكل في الشعور بالفوقية الذي يجتاح المؤمن وبالشعور الدائم بالثقة أنه طالما يتبع الأوامر الدينية ويستفيد من مخارجها الشرعية فليس عليه حرج. يتخذ المتدين من ممارساته التعبدية درعاً واقية ومصدراً للحماية، بل وللشعور بالفوقية: أنا أفضل لأنني على طريق الحق المطلق، وعليه أياً كانت ذنوبي سأجد الطريق للخلاص. هذه الأفضلية تقلل من التواضع النفسي والمعرفي وتدفع بالإنسان لثقة أعلى من المعدل الطبيعي المقبول مبررة له تعدياته وأخطاءه، ومطمئنة له أن لديه منظومة دينية له أن يتكئ عليها ويستخدم مبرراتها ويتطهر بتعبداتها، فلا خطأ لا يمكن تجاوزه ولا سقطة أخلاقية لا يمكن محوها إلا وتمحوه المنظومة الدينية، بل وتغلفه بغلاف فوقي يعليه عن بقية الناس درجة، مبررة أخطاءه، مهونة تأثيرها، ولربما يتجلى خير مثال على هذه النقطة في التاريخ الاستشكالي الأخلاقي للكنيسة الكاثوليكية وما برز خلال هذا التاريخ من معضلات أخلاقية عويصة.
طبعاً، وكما ذكرت سابقاً، لا يمكن التعميم مطلقاً في حالات الحكم على الأخلاق الإنسانية، إلا أن هناك صوراً تتحول إلى ظواهر تبيح هذه التحليلات التي تحمل شبهة التعميم. لم يرتبط الفساد في معظم الأحيان بالمجتمعات الغارقة في المحافظة والتدين؟ لماذا تتشدد المنظومة الأخلاقية في المجتمعات المحيدة للدين والمعتمدة في جل أمورها على منظومة أخلاقية دنيوية؟ لربما لغياب الشعور بالأمان، والأثر الأقوى على المجتمعات غير المعتمدة على منظومة دينية في تسيير حياتها الدنيوية، ما يجعلها في قلق دائم على مصيرها، ويربطها برباط موثق من الأخلاق والمبادئ التي بلا وجودها القوي، تعلم هذه المجتمعات، ستنهار هذه المنظومة وسيتهدد كل أفرادها. ليس لهذه المجتمعات وسائد شرعية يتكئون عليها ولا مصطبات دينية فوقية يصعدون بها علواً على الآخرين. ليس لهذه المجتمعات سوى قواعدهم الأخلاقية الدنيوية التي تحكم علاقاتهم وتنظمها، والتي بها وحدها يتطور مجتمعهم وتستقر أموره. القلق من المسؤولية والعمل الدائم والشعور بالتواضع النفسي بل والأخلاقي وحتى الديني، كلها من أهم ما يحكم النفس البشرية ويبقيها في موقعها المستحق.
ليس المقال بكل تأكيد دعوة للبعد عن المنظومة الدينية، فحتى أعتى المجتمعات علمانية لها قاعدة دينية واضحة، ولا هو لإثبات أي تناقض بين التدين والأخلاق، إنما يرمي هذا المقال للإشارة إلى أن استتباب الاثنين، التدين والأخلاق، يتطلب الاعتماد على المنظومة المدنية التي تحكمهما وتبقيهما متوازنين، تأكيداً على ضرورة تحييد الأول (الدين) في المجال العام ليتمكن الآخر (الأخلاق) من الازدهار دون مشاعر فوقية، وعودة للفكرة الأولى، دون خوف من عقوبة أو رغبة في مثوبة، بل من أجل المبدأ الخالص والخلق المستحق.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    1- لم أسمع ولم أقرأ عن فتاوى السماح بالاستيلاء على أموال «الكفار» لمن يحيا من المسلمين في الغرب، وليتنا نتعرف على واحدة منها موثقة على الأقل. لتكون قطعة طماطم فاسدة واحدة كفيلة فعلا بتلويث سمعة بقية الطماطم ونشر رائحة الفساد إلى أبعد الحدود. لا أحد يثق في الجنة أو رضا ، ونبي الأمةصلى عليه عليهوسلم تحدث كثيرا عنالخوف منغضب الله( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي) وحديثه ( لا يتألّىأحدك على الله…) معروف، وينسف فكرة الثقة بالوصول للجنة مهما بلغت درجة الآثام والذنوب، ولا تغلفه بغلاف فوقي يعلي المسلم عن بقية الناس درجة، مبررة أخطاءه، مهونة تأثيرها

    2- فكرة تحييد الدين في المجال العام لتتمكن الأخلاق من الازدهار دون مشاعر فوقية، فكرة خاطئة ولا تتفق مع تشريعات الإسلام.

  2. يقول سنتيك اليونان:

    الى السيد الكروي
    أتشوق لمعرفة تعليقك على ما تكتبه الدكتوره عن الإسلام … لم تكتب عن المسلمين

  3. يقول سوري:

    وجهة نظر حتى لو اختلف البعض فيها يجب احترامها، والتفكير بها وليس مناهضتها ودحضها، فاليوم يجب ان يكون النقاش حرا ومنفتحا في أمور الدين وخاصة في عالمنا اليوم الذي يتم فيه انبعاث حركات تطرف دينية قاتلة من كل الاديان

    1. يقول محمد السوري:

      أكيد انت تقصد المتطرفين الدينيين من الحركات الصليبية اللتي عمت أوروبا وأستراليا وامريكا والفليبين والبرازيل وانا أوافقك فهذه الحركات العنصرية المتطرفة تملك أسلحة دمار شامل اذا تم استخدامها فسوف تكون نهاية البشرية ولهذا يجب محاربتهم ومحاربة( اعوانهم) بكل الوسائل

  4. يقول محمد حاج:

    تأييدا للأخ ابن الوليد ، فإنه ليس كافيا أن يكون مسلما بدون أن يكمله بالعمل الصالح قولا وفعلا ، وأن القران الكريم كان دائما يخاطب الذين آمنوا أي من لديهم الدرجة العالية من الإيمان ، وأن ضعف الخلق مرده إلى ضعف الإيمان لدى الفرد .

  5. يقول محمد السوري:

    ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ابتدأ بهذا الحديث فقط لكي ابين ان الأخلاق في الإسلام هي أساس الدين اما الهجمة على الدين وخاصة من المتثقفين وخاصة اللذين يعيشون في المجتمعات الغربية ويحتكون يومياً بحرية ( الجنس) اللتي حرموا منها وأصبحت عندهم عقدة نفسية يرجعون اسبابها الى الدين الإسلامي اللذي حرمهم من ممارسة ( الجنس) بحرية كما يحصل بين الجنسيين في المجتمعات الغربية سيرد احد المغفلين ويقول اننا نبسط المشكلة ونحصرها في الجنس او التعري او غيره طبعاً هو يحاول الكذب على نفسه او يحاول تبرير حقده على الإسلام والمسلمين ولو كان هذا ( المتأسلم او المتأسلمة) صادقين مع أنفسهم لكان عليهم ان يطرحوا سؤالاً بسيطا. وه هل انهم اسلموا عن قناعة وتعمق في دراسة الدين الإسلامي ام انهم ( ورثوه عن أبائهم كما ورثوا دين او جينات او حتى أخلاق فاسدة المسألة كلها في هذا التهجم على الإسلام يعود الى الجنس ولهذا نرى ان التهجم الغربي يقتصر على الحجاب والبوركا والبوركيني والاختلاط ويلبسون ذالك بلباس حقوق الإنسان اللتي يدوسونها كل يوم في كل أنحاء العالم

  6. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للدكتورة ابنهال وللجميع
    لقد كتبت في المقال السابق المعنون كوكب اخر عن محو الذنوب او مغفرة الخطايا في الاديان السماوية وقلت انها السبب الرئيسي لكل الانحرافات في مجتمعاتنا من الاعلى الى الاسفل فالفساد المستشري في اجهزة دولنا ولو اخذنا العراق مثالا كون اغلب الوزراء والنواب من المتدينين بحكم انتماءهم لاحزاب دينية لعرفنا ان اخلاف غير المتدين افضل بكثير من المتدين

  7. يقول سلام عادل(المانيا):

    الاخ محمد السوري
    انت تستبق الامور وتريد عدم الاجابة بحشر الجنس بالموضوع فالاخلاق ليست حرية جنسية فقط اما عن الاخرين المتاسلمين كما تسميهم الذين ورثوا الاسلام هل هؤلاء يحق لهم اختيار دين جديد او سيتم تنفيذ حكم الردة بهم,والامر الاخر المهم هل انت شخصيا المؤمن بالاسلام عن قناعة بعد دراسة وتعمق هل درست على سبيل المثال البهائية على اعتبار انه الدين الذي جاء بعد الاسلام كما يدعون وقارنت بينه وبين الاسلام

    1. يقول محمد السوري:

      الجواب على سؤالك هو ان ترجع الى التوراة والإنجيل قبل ان يتم تحريفهم لكي يطابقوا أهواء البشر الدنيا ويحرفوها عن اصولها عندها ستكتشف في هذه الكتب ان محمد او احمد سيكون أخر الأنبياء المرسلين وبعدهم يأتي الدجالين والمنافقين والأغوار الدجال قبل ظهور المسيح المخلص في المسيحية والمهدي في الإسلام اذا لاحاجة لي للبهائية وباقي الخزعبلات اللتي انتشرت في الغرب ويلتحق فيها أفراد لايبحثون عن الدين بل يبحثون عن أشخاص يبررون لهم انحرافاتهم الشاذة عن باقي أفراد المجتمع وليس هنا مجال لشرح هذه الأمور ولكن المجازر اللتي حصلت في أمريك نتيجة انحراف هذه الجماعات تبين ان هؤلاء دجالين حذرت منهم الأديان قبل تحريفها وصياغتها لكي يتم تبرير الشواذ في الجنس البشري اما سؤالك عن قناعتي ودراستي للدين فلاحاجة لكي اكذب عليك فأن لم اصلح الى المرحلة العلمية اللتي تجعلني افهم محتوى القرأن الكريم والسبب انه كتاب رباني منزل يحتاج الى معرفة واسعة ورغم ذالك انا مقتنع بالقليل اللذي فهمته وهذا يكفي اما عن تطبيق الحد على المرتد فجوابه اننا لم نرى هذا التطبيق في عصرنا فلاحاجة للإجابة عليه

  8. يقول معاذ:

    في الإسلام أنت للجنة ونعيمها طالما لم تشرك بالله أحداً هذا كلام يخالف المنقول فضلا عن المعقول فعدم الشرك بالله يمنع عنك التخليد في النار فقط ولا يمنع عنك العقوبة ولا يضمن لك الجنة. فالآثام تتعلق بالحقوق والحقوق اثنتان حقوق لله وحقوق للعباد. فالله تعالي اولي بان يجازي عن حقوقه واما العباد فهم المجازون عنها (أي انهم من يملك حق العفو عنها) وسأضرب لك مثلا فالشهادة في سبيل الله تمحو كل الآثام المتعلقة بحقوق الله تعالي لا العباد فلا تمحو دينا او اغتصاب ارض وهذا ليس كلامي وبل كلام عديد من اهل العلم. لا اريد ان اطيل فأكون مملا

  9. يقول المغربي-المغرب.:

    للحرية مفاهيم كثيرة من الناحية الفلسفية والواقعية. …وعندما نحاول حصرها في نماذج بعينها فإننا لا نعكس في الحقيقة إلا نزوعا مركبا نحو المصادرة وتبخيس الأبعاد والنماذج الأخرى. ..اعتمادا على خلل منهجي نعتمد من خلاله على نوع من القياس الذي لاينبني على أصل ثابت أو راسخ. …فهل النموذج الغربي مثلا الذي يتيح للشخص ممارسة بعض الأشياء البدائية. ..من قبيل الحرية في التعري وممارسة الجنس المفتوح…وفي نفس الوقت يمنعه من الممارسة السلوكية الرافضة للتنميط الحيواني..حرية..؟؟؟؟ وهل مايكرسه الحكام والساسة في واقعنا الاجتماعي والسياسي. ..حرية. ..وهم مجرد بيادق ينفذون إرادة الإستعمار في كل مجالات الحياة. ..والتعليم …؟؟؟؟ وشكرا للجميع.

  10. يقول الكروي داود النرويج:

    حياك الله عزيزي سنتيك وحيا الله الجميع:
    الإسلام هو المنهج الذي وضعه الله سبحانه وتعالى للناس كي يستقيموا عليه, وتكون حياتهم مبنيةً عليه! فهل المنهج الوضعي أفضل برأيك ورأي الدكتورة؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول سنتيك اليونان:

      الى السيد الكروي
      ردك لا علاقة له بالموضوع ولا يتطرق الى ما كتبته الدكتوره ولم تعلق على أطروحاتها وأفكارها

1 2 3 4

إشترك في قائمتنا البريدية