في أحد المشاهد من فيلم «الجزيرة» يصرخ الممثل أحمد السقا: من النهاردة مفيش حكومة.. أنا الحكومة! وكانت النتيجة أن بدأت هجمة قوات الأمن التي تمكنت من اعتقاله، والسبب لم تكن جرائمه المتعلقة بتجارة المخدرات، التي بقيت مستمرة مقابل التعاون في مطاردة المتطرفين في الصعيد، ولكن، فكرة أن يتحدى الحكومة هي لحظة الذروة في الصدام.
يُقال إن الفيلم يستند إلى أحداث حقيقية شهدتها محافظة أسيوط، والفكرة من استدعاء المشهد هي، إظهار حساسية الدولة المصرية تاريخيا، تجاه خدش تفردها وهيمنتها المطلقة في جميع الشؤون، وتزايدت أهمية ذلك، مع ثورة يوليو/تموز التي فرضت صورة معينة للمصريين، تشبه إلى حد ما صورة الزعيم ورفاقه في مجلس الثورة، لتتحول تمثلات أخرى للمجتمع المصري مثل، الصعيدي والبدوي والإسكندراني، إلى مجرد ظواهر فلكلورية تظهر في استعراضات فنية لتعبر عن التعدد الذي لم يكن يوما من السمات الأصيلة لفكر الدولة في مصر.
بقيت قبائل البدو في سيناء بعيدة عن أوساط الحكم في القاهرة، وكثيرا ما اعتُبروا ملفا أمنيا، أكثر منه محليا أو إداريا، وتعمقت حالة من سوء الفهم بين البدو والقاهرة، بعد تحرير سيناء
بقيت قبائل البدو في سيناء بعيدة عن أوساط الحكم في القاهرة، وكثيرا ما اعتُبروا ملفا أمنيا، أكثر منه محليا أو إداريا، وتعمقت حالة من سوء الفهم بين البدو والقاهرة، بعد تحرير سيناء، حيث بقيت الأجهزة الأمنية في حالة تشكك وارتياب حول علاقات، ربما نسجت مع الجانب الإسرائيلي أثناء سنوات الاحتلال، وتحول ذلك إلى تطبيق عملي لمقولة الحسنة تخص، والسيئة تعم بطريقة أثرت سلبا على حياة السيناويين لفترة طويلة من الزمن. بين هذه الاعتبارات المتشابكة تظهر شخصية إبراهيم العرجاني، رجل الأعمال ورئيس اتحاد القبائل العربية في مصر، لتطرح أسئلة تتجاوز شخصيته وتجربته لتتعلق ببنية مصر بشكل كامل، والتحولات التي تشهدها في هذه المرحلة. تاريخ شخصي متشابك يحمله العرجاني، وتقلبات درامية كثيرة من مطارد أمنيا، إلى متعاون مع الجيش في الحرب على الجماعات التكفيرية، والوصول إلى مرتبة متقدمة وحظوة واسعة لدى القاهرة الرسمية، التي تسامحت مع حصوله على مواكب يستعرض فيها العرجاني سطوته في سيناء، وإصداره بيانات تتقاطع مع مسائل تختص بالدولة وأدوارها وخياراتها، وبذلك يتخطى العرجاني حساسية الدولة، تجاه أي مزاحمة مهما كانت ضئيلة من أي شخص كان، من أي جهة، أو منطقة، أو خلفية، فالدولة المصرية مهيمنة بالكامل، وهيبتها داخل حدودها الإقليمية بقيت تاريخيا، موضوعا غير قابل للمساس. ويتخطى العرجاني أيضا حاجزا هائلا بقي ماثلا أمام السيناويين في أوساط القاهرة، التي تحتفي به وتقدمه بوصفه شريكا في حربها على الإرهاب، وتصعد به إلى مواقع متقدمة اجتماعيا، فيصبح راعيا للنادي الأهلي الأكثر شعبية في مصر، ليتحول الرجل إلى مركز جدل متواصل داخل مصر وخارجها، حيث يتناوله العديد من المعارضين المصريين بالنقد، ومنهم الناشط السيناوي مسعد أبو فجر، الذي اعتقل مع العرجاني في سنة 2008، ويلفت الانتباه إلى أن الدولة في مصر تقدم العرجاني بوصفه (موديلا) لأهل سيناء.
الحديث عن العرجاني كثير وشائك، والأقاويل متعددة ومتداخلة، ويصعب بناء صورة موضوعية متكاملة أو منتجة، فالوضع غريب ومربك، ولكن توصيف أبو فجر للعرجاني بأنه الموديل (النموذج) الذي تقدمه الدولة لسيناء يمكن أن يلخص أمورا كثيرة، فالدولة تمتلك رؤية ما في سيناء، وهي لا تقوم بها بصورة مباشرة ولكن من خلال توكيل العرجاني، الذي لديه هامش محدد لأداء دوره، وبحساسيته وذكائه، وهو رجل لا يبدو مفتقدا للذكاء والفطنة، يدير العرجاني وجوده داخل الهامش بأفضل صورة ممكنة. تستحضر القاهرة سيناء من خلال العرجاني وبواسطته، والسؤال المهم هو التصور الذي تحمله القاهرة تجاه سيناء، هل هو استراتيجي بعيد المدى يترابط مع المشاريع المستقبلية في المنطقة والتحول إلى صناعة الترانزيت في عصر ما بعد النفط؟ أم أنه دور تكتيكي يرتبط بمصالح القاهرة في علاقتها مع (إسرائيل) واستمرار تأثيرها على العديد من الأوراق المرتبطة بقطاع غزة؟ التصور الأول تنفيه مشاريع النقل بالقطارات التي تربط معظم المدن المصرية الرئيسية، ويمتد أحد مساراتها من العين السخنة على البحر الأحمر إلى الساحل الشمالي على المتوسط، ومع ذلك تستثني شبه جزيرة سيناء، وهو ما تنبهت له أصوات معارضة، لتدلل على عدم حضور تنمية سيناء في أولويات القاهرة، والتصور الثاني لا يستلزمه أن يتم تصعيد العرجاني بهذه الصورة المتسارعة والمبالغ في تفاصيلها، فمصر تمتلك أوراقا مؤثرة بحكم الضرورة. بطبيعة الحال، النفي ليس كاملا للتصورين، فالانعطافات دائمًا ممكنة.
لا يمكن أن تختزل ظاهرة العرجاني في الشخص نفسه، فهو العرجاني السيناوي في جميع الأحوال، وهو التكلفة الأقل للقاهرة في مشروع أوسع كثيرا، ويبدو أن تدارس العرجاني على المستوى الأمني، أنتج ثقةً متناهية لدى الأمن المصري أن الرجل لن يقف يوما ليقول: أنا الحكومة! فأوراقه أصبحت كثيرة داخل القاهرة، وكثير من شؤونه بات معقدا لدرجة لا يمكن لأكثر الرجال ذكاء أن يديرها بمفرده.
حرب غزة ستحمل ارتدادات كثيرة يتجاوز جغرافيا القطاع المحدودة، وأحداث السابع من أكتوبر، وما حملته من مفاجأة للعالم ستنتج مفاجآت كثيرة، فلا شيء أصبح مستبعدا، أو غير متوقع، وسيناء التي تشكل مدخل القطاع إلى العالم من المناطق المرشحة لأن تشهد تحولات كبرى، وفي هذه الوضعية، فالتشاغل بسؤال العرجاني ربما يغيّب السؤال الأكثر أهمية حول سيناء نفسها، وربما شرق المتوسط بأسره.
كاتب أردني