عاصمة بلا شهوة

حجم الخط
0

نزل ثلج ثقيل هذا الاسبوع على واشنطن فأصبح البيت الابيض أشد بياضا وكذلك ايضا تل الكابتول والتماثيل الحجرية الجليلة لجورج واشنطن وتوماس جيفرسون وابراهام لنكولن. وكانت الحركة مشلولة، وأكدت الشوارع المثلجة على ضفتي نهر بيتوماك الجمال المنضبط والقوة المقيدة لعاصمة العالم الغربي، أكدتها أكثر. الى أين تتجه امريكا؟ انها لا تتجه الى أي مكان، بقدر كبير؛ فهي منطوية على نفسها تلعق جراحها دون أن تتخذ قرارات حاسمة تتعلق بمستقبلها.
لا أحد يعلم بوضوح ما هو الوضع الاقتصادي الصحيح: أهو انتعاش تدريجي أم ايهام بانتعاش. ولا يتضح لأحد ما هو الوضع الاستراتيجي على وجه الحقيقة فايران وسوريا وروسيا والصين ايضا تبدو الآن غامضة. وليس من الواضح لأحد ما الذي يخبئه المستقبل السياسي هل أضرت فضيحة الجسر لكريس كريستي، وهل توشك أن تعود هيلاري كلينتون الى البيت الابيض؟ إن الشتاء جميل بالنسبة لواشنطن وهو يلائم مزاجها الحالي. فكل شيء هنا منضبط مقيد دون وضوح ودون رؤية ودون شهوة.
في أول ربيع من حرب العراق قمت بجولة شاملة عميقة في مدينة تختلف غاية الاختلاف إذ كانت واشنطن تهب الى المعركة في حماسة. كانت اشجار الكرز مزهرة وفي كل ركن من اركان الشوارع كانت تقرع طبول الازرق والابيض والاحمر. وكان يسير في أروقة الادارة أشباه تشرتشل صغار آمنوا بحرب كبيرة. بل سُمعت وسائل الاعلام الليبرالية والحزب الديمقراطي كما لم يُسمعا منذ الايام البهيجة لجون كنيدي ولندون جونسون.
لن أنسى أبدا حديثا لاذعا أجريته مع محافظ جديد لامع رفيع المستوى كان من حكام المدينة آنذاك. وسألته ألا يخشى أن تكون هذه الحرب التي بدأت الآن حرب فيتنام ثانية. وقلت له إن ما حدث لاسرائيل في بيروت وغزة قد يحدث للولايات المتحدة في بغداد. فنظر المحافظ إلي كما يُنظر الى ضيف قروي لا يفهم شيئا من السلوك في المدينة الكبيرة. وأجاب: ليست امريكا هي اسرائيل، وليست امريكا هي امريكا فيتنام. فعندها ما يكفي من القوة لتبديل النظام في العراق والمتابعة الى ايران ايضا ولتغير صورة الشرق الاوسط. إن الرئيس بوش شخص ذو مباديء وذو شخصية سيحدث ثورة ديمقراطية في العالم العربي وينشيء نظاما دوليا جديدا تقوده الولايات المتحدة الجديدة.
أزهرت اشجار الكرز عشر مرات منذ ذلك الحين، وذوت ازهار الكرز عشر مرات، وغطيت المدينة بالثلج الابيض. إن القوة العظمى أفنت كل مواردها النفسية وكثيرا من مواردها الاقتصادية في وحل العراق وافغانستان. وفقدت ثقتها المعروفة بنفسها في حربين بلا فائدة وفي ازمة اقتصادية طويلة. بحيث أصبحت واشنطن الآن عاصمة ما بعد الصدمة، فهي لم تعد تؤمن بافكار عظيمة ولا بصراعات كبيرة ولم تعد تثق بنفسها. وهي تبغض كل امر تنبعث منه رائحة التبجح بالقوة وكل امر يثير ذكرى رامبو. وإن الكابوس الأفظع هو كابوس وجود جنود على الارض. فالعاصمة الامريكية تحترس غاية الاحتراس ألا تكرر ذلك وألا تعود اليه ولهذا فان صورة سلوكها الحالي في العالم هي صورة سلوك من يقود سيارته في الثلج ببطء وحذر ودون انعطاف حاد ودون انطلاق سريع بلا كوابح الى غاية مأمولة.
تحب اسرائيل امريكا، واسرائيل متعلقة بامريكا، لكن اسرائيل لا تفهم امريكا دائما. كانت القدس توهم نفسها فترة طويلة بأن واشنطن هي واشنطن جمهورية لكنها ليست كذلك. وقد افترضت القدس زمنا طويلا أن واشنطن موضوعة في جيبها لكنها ليست كذلك. إن وضع الوعي الامريكي الجديد وهو السياقة الحذرة في الثلج يوجب على اسرائيل أن تستعد لحالات ازمات يصبح فيها الفرق في الوعي العميق بينها وبين حليفتها خطيرا.

هآرتس 23/1/2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية