ليست ظاهرة عربية وحسب، أن تعمد الطبقات الوسطى إلى تأييد السلطوية والتخلي عن المطالبة بالحقوق والحريات في مراحل التغيير المجتمعي ولحظات الحراك الشعبي. شاركت الطبقات الوسطى العربية بكثافة في انتفاضات الربيع العربي 2011، وتعاطفت في أعقابها مع الفكرة الديمقراطية التي ربطت بين الانتفاضات وبين بناء نظم سياسية واجتماعية جديدة وتحديث مؤسسات الدولة الوطنية وتداول السلطة عبر انتخابات تنافسية. ثم سرعان ما انقلب عرب الطبقات الوسطى في مصر وسوريا وليبيا واليمن، بل وفي تونس، على كل ذلك وتبنوا الانسحاب من المحاولة الديمقراطية وشجعوا الارتداد إلى حكم الفرد وتماهى بعضهم مع هيستيريا تبرير المظالم والانتهاكات الواسعة.
باختياراتها هذه، لم تختلف الطبقات الوسطى العربية عن الطبقات الوسطى في العديد من مجتمعات أمريكا اللاتينية في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين حيث كان انتقالها من المطالبة بالديمقراطية والانتخابات الحرة إلى دعم الانقلابات العسكرية وإلغاء السياسة وقمع المجتمع المدني وسطوة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية سببا رئيسيا في تأخر التحول الديمقراطي في بلدان مثل البرازيل والأرجنتين وشيلي وغيرها.
لم تختلف الطبقات الوسطى العربية في اختياراتها هذه عن الطبقات الوسطى في بعض المجتمعات الآسيوية كماليزيا وإندونيسيا، وبهما عطل التحول الديمقراطي طويلا بسبب مراوحة مواطني الطبقات الوسطى بين القليل من طلب الحقوق والحريات وسيادة القانون في فترات النمو الاقتصادي وتحسن الخدمات الأساسية والظروف المعيشية وبين الارتداد إلى البحث عن ديكتاتور منقذ وإلى هجر البرلمانات والحكومات البرلمانية والسلطات القضائية المستقلة باتجاه تأييد حكم الفرد في فترات التراجع الاقتصادي. بل أن اختيارات الطبقات الوسطى العربية تكاد تتطابق مع التفضيلات الراهنة للطبقة الوسطى في تايلاند على سبيل المثال التي دفعتها الانتصارات الانتخابية المتكررة لقوى حزبية وسياسية تمثل الطبقات الفقيرة والمهمشة والريفية إلى التخلي عن مطالبتها بالديمقراطية وتأييد تدخلات الجيش في السياسة لعزل رؤساء وزراء منتخبين وتعطيل الحياة البرلمانية وإلغاء السياسة تمكين مجالس عسكرية من السيطرة على الحكم وإعلان الأحكام العرفية.
تغيب عن الطبقات الوسطى طاقات التحمل الجماعي للتداعيات السلبية لمراحل التغيير وللحظات الحراك الشعبي على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعلى قضايا الاستقرار
ليس لاختيارات الطبقات الوسطى العربية الخصوصية التي قد نظنها وتزينها لنا وضعية الاتكفاء المستمر على أوضاعنا الداخلية المأزومة أو يقودنا إليها توقفنا عن استخلاص العبر مما حدث ويحدث في المجتمعات ذات الأوضاع المشابهة. ومن ثم يصبح السؤال الجوهري هو لماذا تمعن الطبقات الوسطى في تأييد السلطوية والبحث عن الحاكم الفرد المنقذ والتعاطف مع إلغاء الإجراءات الديمقراطية وتتبرع بإسقاط الأمل في صون الحقوق والحريات واحترام سيادة القانون من حساباتها وتتورط في الصمت على انتهاكات حقوق الإنسان؟
تتعدد الأسباب، وهجر الديمقراطية واحد. في فترات النمو الاقتصادي وتحسن الخدمات الأساسية والظروف المعيشية، تأتي الطبقات الوسطى إلى المطالبة بالديمقراطية مدفوعة بالرغبة في المشاركة في الشأن العام، وفي ممارسة الاختيار المباشر للحكام ووضعهم تحت مجهر الرقابة والمساءلة والمحاسبة. تأتي إلى المطالبة بالديمقراطية محملة بالرغبة في محاربة الفساد الذي دوما ما ترعاه السلطوية، وفي إقرار مبادئ الكرامة الإنسانية والمبادرة الفردية وتكافؤ الفرص والمساواة التي تفتح الآفاق أمام المزيد من الحيوية والمزيد من الحراك الاجتماعي المستمر للمواطنين صعودا وهبوطا. تأتي الطبقات الوسطى إلى المطالبة بالديمقراطية باحثة عن الحياة في مجتمعات ودول طبيعية.
غير أن الطبقات الوسطى لا تأتي إلى المطالبة بالديمقراطية، وهي عازمة على تحمل الكلفة المرتفعة للتخلص من السلطوية ونخبها التي أبدا لا تخلي أماكنها في الحكم أو تتخلى عن امتيازات الثروة والنفوذ بسهولة. كذلك تغيب عن الطبقات الوسطى طاقات التحمل الجماعي للتداعيات السلبية لمراحل التغيير وللحظات الحراك الشعبي على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعلى قضايا الاستقرار علما بأن مراحل التغيير ولحظات الحراك هذه هي التي عادة ما تمهد للتحول الديمقراطي أو سرعان ما تتبعه. وقد كان هذا تحديدا هو ما حدث في مصر ورتب التأييد الواسع للطبقة الوسطى المصرية للارتداد إلى حكم الفرد، بل أن تأييد حكم الفرد تواصل خلال السنوات الماضية مع عودة الاستقرار إلى البلاد.
كذلك تبتعد الطبقات الوسطى عن تأييد المحاولات الديمقراطية حين تكتشف خوفها العميق من الانتصارات الانتخابية المتوقعة أو الفعلية للقوى السياسية التي تمثل الطبقات الفقيرة والمهمشة والمحرومة، كاليسار في أمريكا اللاتينية والأحزاب الشعبوية في آسيا واليمين الديني في بلاد العرب. هنا يغادر مواطنو الطبقات الوسطى مساحات المطالبة بالديمقراطية ويسعون إلى الارتداد إلى تحالفاتهم السابقة مع النخب السلطوية وإلى البحث عن المنقذين والمخلصين من الحكام الأفراد.
كاتب من مصر
المقال يتحدث باسم الطبقة الوسطى في العالم العربي ويؤول موقفها بصورة متحيزة كما أرى، متجاهلاً الأسباب الكامنة في فشل التحول الديمقراطي؟. الطبقة الوسطى في الغرب أيدت الحكومات الشعبوية بهامش محدود، وبسبب اخفاقاتها المتوقعة في الصحة العامة والاقتصاد الكلي مؤخراً، سيعود الطلب الكامن من جديد على الديمقراطية الحقة والمؤسسية التشاركية في الغرب والشرق.
1-لا أظن أن هذا التفسير للثورة المضادة أو الانقلاب على الديمقراطية أو هجر الديمقراطية وفقا لتعبير الكاتب صحيح. إن الهجران أو الانقلاب أو الموقف المضاد ينبع من المصالح الفئوية الانتهازية التي تعيشها بعض الفئات والطوائف بسبب تاريخ طويل من الاستعباد والقمع والظلم، على الأقل فيما يتعلق بمصر. فضلا عن التآمر الخائن من قادة العسكر والشرطة والقضاء، مدعومين ماديا وإعلاميا من بعض حكومات التخلف والعمالة للغرب. لقد قام العسكر بتخريب الحركة الإدارية والاجتماعية في مصر عمدا(إحداث أزمات في الكهرباء والبنزين، والسياحة، وتحريك آلاف البلطجية والعملاء والمخربين في أرجاء الوطن) والإعداد لمظاهرات كبيرة بالاتفاق مع الكنيسة لمواجهة النظام المدني المنتخب بذرائع كاذبة،
2-وكان المال النفطي الذي تحركت به حركة “تمرد” ثمنا للتظاهر والتخريب، ويكفي أن المتآمر الذي كان يوزع الأموال لم يكن يملك غرفة يعيش فيها فبني بيتا فخما على أرض زراعية وسيارة وأشياء أخرى، ونعم الآلاف أمثاله بسيارات فاخرة وشقق تمليك وغير ذلك من مشتريات المال الحرام. والكاتب يعلم ذلك جيدا.
تحرك العسكر وليس الطبقة المتوسطة كان من أجل مصالحهم وعمولاتهم من السلاح وأرباحهم من المشروعات الاقتصادية للجيش، والتي سماها أحدهم “عرق الجبين” الذي لا يمكن التفريط فيه، ثم الميزانية المغلقة للقوات المسلحة التي يمكن أن تناقشها الديمقراطية وتتدخل في إنفاقها، وكان لا يقترب منها أحد في ظل النظام الديكتاتوري،
تتمة التعليق:
3-ومع السيطرة على الإعلام، وخاصة الإعلام المرئي عن طريق العملاء والمخبرين والانتهازيين ومعدومي الشرف ممن يسمونهم مثقفين، تم الترويج لأكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان، ثم كان الموقف الخياني لبعض النخب الدنيوية التي لا توافق على الديمقراطية إلا إذا جاءت بمن يحبون تمت الإطاحة بالديمقراطية والانقلاب عليها، ليس من قبل الطبقة المتوسطة التي تحطمت اقتصاديا ومعنويا، ولكن من فئة العساكر وأتباعهم من الانتهازيين وخصوم الديمقراطية.
4-بعض الناس يتجاهل هذه الوقائع ولكن نذكرّ بها لأن هناك من يركز على فشل الاختيار الديمقراطي بسبب ما يسمى اليمين الديني( يقصدون الإسلام) ولكن فترة العام الديمقراطي شهدت رغم التآمر والجرائم التي قام بها العساكر ومن معهم ومن أيدوهم إصلاحات لم تحدث من بعد منها: زيادة المرتبات، وتعيين العمالة المؤقتة، وزيادة محصول القمح، وإيقاف النهب في وزارة التموين وغيرها، وبداية محاصرة الفساد، ورفع رأس المصريين في الداخل والخارج لرفع سقف الحرية إلى أعلى مستوى في التاريخ، وصياغة أفضل دستور عرفته مصر، وبداية بحث عن توفير الغذاء والدواء والسلاح بأيدي المصريين، ولكن الخونة والانتهازيين والمتعصبين رفضوا ذلك وانقلبوا على الديمقراطية وتحالفوا مع الأعراب والاحتلال، وحنّوا إلى العبودية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
رأينا من تآمر على الديمقراطية في مصر وجلب العسكر عندما خسر في استحقاق الصناديق ظنا منه أن العسكر سيضعه على كرسي الحكم و إذ به يهد المعبد على الجميع. ويصبح الناس بين سجين وقتيل وطريد ومضطهد.
النخب تتحمل المسؤولية كاملة عما حدث ولا يجب عليها ان تلقي بها على الشعب بمختلف طبقاته. وإن لم تعترف بهذا وتعيد ترتيب تحالفاتها حتى مع من يخالفوها في الفكر فسنبقى نقرأ مقالات كهاته ولن يكون هناك تغيير.
على العكس، مع الأخفاقات المتتالية للتسلطية والأستبداد في المجالات الاقتصادية والتنموية والصحية والديمقراطية والهوية الوطنية والحاكمية الرشيدة ومع تفاقم الفساد والمغالاة في الأسعار والمديونية العامة والخاصة، فان الطلب على الديمقراطية هي الآن عند مستويات قياسية!.