■ تبرز وظيفة عالم الاجتماع حسب نوربرت إلياس (نوربرت إلياس، صياد الأساطير، ترجمة: هاني صالح، دار الحوار) انطلاقا من اقتداره على الكشف عن الأساطير التي يتم تداولها حول كيفية تعايش المجموعات البشرية. وهو الأمر الذي جعل علم الاجتماع يفرض ذاته كتخصص قائم الذات، يُعنى بالدرجة الأولى بدراسة تطور المجتمعات الكبيرة والصغيرة ودراسة هيكلتها وطرائق مهامها وأعمالها على نحو يجعله متميزا عن باقي العلوم: الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والاقتصادية والتاريخية، يقول نوربرت إلياس:
«إن العلوم ستنشأ وتتطور في بعض المجتمعات المعينة من خلال صراع مع أنظمة فكرية غير مثبتة وسابقة للعهود العلمية التي تتبناها بشكل بديهي مجموعات أخرى كثيرة. إن المجموعات التي تفكر بشكل علمي هي مبدئيا مجموعات تنتقد أو ترفض التصورات السائدة في مجتمعاتها، حتى لو كانت تستند إلى أسس سلطوية، لأنها ترى أن هذه التصورات السائدة لا تتطابق مع الحقائق التي تلحظها هذه المجموعات في دراساتها العلمية الإفرادية المنهجية، بتعبير آخر يمكن القول إن العلماء صيادو اساطير».
يركز عالم الاجتماع كل ما يملك من جهد وطاقة صوب تشييد وصوغ ملاحظات واقعية، يعوض بها مجموع الصور والتمثلات والأساطير والتصورات العقدية والتأملات الميتافيزيقية. وتقوم هذه الملاحظات على صرح نظري مدعم بسند تجريبي واقعي، «أي بنماذج من العلاقات التي يمكن اختبارها وتحقيقها وتصحيحها بالملاحظات التجريبية الواقعية». ومن ثمة يمكن القول إن المهمة الرئيسة لعالم الاجتماع تظهر انطلاقا من مدى اقتداره على صيد الأساطير، من خلال كشفه وتعريته للتصورات الأسطورية الشاملة، اعتمادا على أسس واقعية، من أجل تفادي السقوط في شراك النظريات العلمية ذات اللبوس العقائدي التي «يمكن توسيعها أو استخدامها بطريقة لا يمكن معها تبرير هذه الأنظمة بالملاحظة الواقعية المعتمدة على النظريات».
ويشدد نوربرت إلياس على فكرة رئيسة مفادها أن المقياس الذي يجب أن يستند إليه عالم الاجتماع من أجل قياس درجة جودة النتائج التي تسفر عنها أبحاثه، إن على المستوى العملي أو النظري، يتجلى في مدى انسجامها مع معطيات العلم، وفي مدى إسهامها في مساعدة المجتمع المعني بالدراسة على تحقيق تقدمه. يقول إلياس: «تقف في مركز أي نظرية معرفية اجتماعية لا تتجه نحو المطالبة بالمثاليات العلمية، وإنما تتوجه نحو الدراسة البحثية للعلوم، على أنها عمليات اجتماعية قابلة للملاحظة، طبيعة العمليات المعرفية التي تستحضر في سيرورتها، مجموعات بشرية منظمة تكون قليلة في البداية ثم تتزايد وتقوي مجال المعرفة والتفكير البشري في توافق متزايد مع مجال يتزايد شمولية من الوقائع القابلة للملاحظة». وذلك ما من شأنه أن يسعف عالم الاجتماع من تجاوز العوائق الأبستمولوجية التي بإمكانها أن تعترض علمية النتائج التي تسفر عنها أبحاثه، ومن أجل ذلك وجب على عالم الاجتماع :
*الابتعاد عن الاستبدادية الفلسفية.
الشرط الحاسم الذي يقضي بالانتقال إلى التفكير العلمي هو اقتدار الباحث على رصد «الأحداث التي عايشها قبلا بشكل عابر نسبيا كتنوع كبير من التصرفات والنوايا والأهداف للكائنات الحيوية الإفرادية».
*الابتعاد عن النسبية الاجتماعية التي تنتج عن التشرنق في دائرة ضيقة تختزل مطالب البحث في فرضياته.
ولعل الشرط الحاسم الذي يقضي بالانتقال إلى التفكير العلمي هو اقتدار الباحث على رصد «الأحداث التي عايشها قبلا بشكل عابر نسبيا كتنوع كبير من التصرفات والنوايا والأهداف للكائنات الحيوية الإفرادية».
ولا يمكن أن يتحقق هذا الشرط إلا إذا عمل عالم الاجتماع على تعويض المعرفة التي كانت لديه قبل المرحلة العلمية بالمعرفة التي حصلها بعد اكتساب المعرفة العلمية، وذلك بإحلال المفاهيم الوظيفية محل المفاهيم العملية داخل علبة أدواته البحثية. بيد أن «المعرفة المتنامية للاستقلالية الذاتية في نطاق الأشياء كترابط وظيفي من نوع خاص، هي الشرط الضروري للعمليتين الاثنتين المميزتين للمناهج العلمية، لتشكيل نظريات ذات استقلالية نسبية للعلاقات بين التفاصيل الملحوظة ولاستخدام الملاحظات التجريبية المنهجية كمحك لاختبار هذه النظريات».
إن الملاحظة المنهجية للظواهر الاجتماعية لا تسعف الباحث من إدراك الترابطات القائمة بين الأحداث، خصوصا إذا كان الباحث يعتقد أن هذه الأحداث هي نتاج نوايا ومخططات تعسفية لبعض الكائنات الحية. ومن ثمة يمكن القول إن نوربرت إلياس يطالب الباحث بالتوقف عن الاعتقاد بأن المعرفة لا بد أن يتم إنتاجها من صلب المجال الموضوعي، الذي يبتغي البحث فيه، وذلك بضرورة التركيز على النوايا والمخططات الخفية التي تحملها الكائنات الميتافيزيقية، أو أفراد البشر رفيعي المستوى، من أجل حل لغز الظواهر المدروسة. يقول إلياس: «غالبا ما يعتقد المرء أن إيجاد طريقة أو أداة معرفية بعيدا عن التطور الذي يحمله عن المجال الموضوعي الذي يريد البحث فيه، ما هو إلا نتاج لاحق عن قدرة تخيل فلسفية». ولا يمكن لعالم الاجتماع أن يحصل المعرفة العلمية بدون الانفتاح على الكون العلمي، أو التنوع العلمي الرحب، بيد أن سلوك مسعى الاحتذاء بحقل علمي ما بوصفه نموذجا وحيدا للعلمية كالفيزياء مثلا، لا يختلف عن سلوك مسعى ذلك الشعب الذي يعتقد أن سائر الشعوب مطالبة بالاحتذاء به وإلا أصبحت شعوبا خارجة عن دائرة الإنسان الحقيقي، ذلك أنه إذا «حاولنا الانفلات من قواعد اللعبة المقيدة في الأبحاث الفلسفية للعلوم، وتوجهنا للعلوم كمواضيع لدراسات نظرية تجريبية، فإننا سنكتشف سريعا أن صورة الموضوع كما تظهر خلال العمل العلمي متشابكة وظيفيا مع صورة الطريقة التي تستخدم في اكتشاف نطاق موضوعي. وهذا ما هو واضح ومفهوم، إذ ماذا يمكن أن نقول عن شخص يدعي أن العمل الحرفي في تصنيع المعادن يحتاج دائما إلى فأس، سواء كانت هذه المعالجة الحرفية تتناول الخشب أو الرخام أو الشمع، كذلك لا يمكن تجاهل البنية المجتمعية خلال العمل العلمي، كما يحدث غالبا، إذا أراد المرء أن يعرف ماهي الخصائص التي تحدد القيمة العلمية لنتائج الأبحاث».
ومن أجل ذلك تتركز المهمة الرئيسة لعالم الاجتماع في رصد النتائج التي تنتج عن التغيرات التي طرأت على العيش المشترك داخل المجتمعات، ورصد التغيرات التي طرأت على الخبرات الذاتية البشرية أثر هذه الانعكاسات. يقول إلياس:
«والمهمة الاجتماعية هي بالذات أن تضع المشترك في كل النواحي التي يشملها التحول البشري – وليس من ناحية واحدة فقط – في مركز اهتمام دراستها، ويمكن القيام بذلك على أفضل وجه ـ وربما بشكل مؤقت – إذا أعاد المرء كل المفاهيم التي تجرد من الإنسانية والتي يستخدمها في نطاق هذا التحول، إلى أفكار تعتمد على الإنسان أو تشير إليه، فالنهضة الصناعية لا تعني أخيرا إلا أن هناك عددا متناميا من الناس يلجأون إلى العمل كمستثمرين أو موظفين أو عمال، وعلمنة الملاحظة الطبيعية تعني زيادة متنامية من الناس الذين يعملون كفزيائيين وكمهندسين، أما الدمقرطة فلا تعني إلا توجه موازين القوة نحو من كانوا يدعون «الرعية» التي لا حول لها ولا طَول». هكذا يخلص إلياس إلى نموذجين أساسيين في البحث الاجتماعي: النموذج العلمي والنموذج الأيديولوجي العقيدي، وهما نموذجان ارتبطا كل الارتباط في بداية نشأتهما، وتبقى مهمة تحديد الفروق القائمة بينهما أحد أهم رهانات البحث الاجتماعي.
٭ باحث من المغرب