عالم اللامعقول

حجم الخط
0

نكاد لا نتأقلم مع فاجعة، حتى ننساها بفاجعة أشد وقعاً على النفس وأقسى، كأننا نعيش في كابوس مرعب لا نستفيق منه حتى نقع في كابوس آخر أشد ضيقا ووطأة على الصدر. نتصور كأننا نعيش في عالم سريالي عصي على الفهم. وكلما انزلقنا درجة على سلم الحضيض نقول ليس من المعقول أن ننزلق أكثر فقد وصلنا إلى القاع، وهل هناك أخفض درجة من القاع، ونكتشف أننا لم نلامس القاع بعد وأن إمكانية الانزلاق للوصول إلى القعر المفجع حيث العودة للصعود من جديد تبدو بعيدة المنال وضرباً من خيال.
ضمن هذا الواقع السريالي نعيش يومنا بتوجس، بترقب، بانتظار الآتي، الغد الذي لن يكون مشرقا، لم نعد ننظر إلى مستقبل بعيد تكمن فيه آمال الازدهار، وتنعم فيه أجيالنا المقبلة بالرخاء، والحرية، في بلاد تحترم مواطنيها وتهيىء لهم سبل العيش الكريم، وتؤمن لهم كل الخدمات، ويشعر فيها كل فرد بأنه جزء من مجتمع متكامل متآزر يخطو خطوات جريئة نحو مستقبل أفضل. لقد بات أمسنا أفضل من يومنا، ويومنا أفضل من غدنا. نتساءل يا ترى، هل نحن أقل ذكاء وفطنة من شعوب أخرى تقدمت علينا مسافات ضوئية مع أننا انتزعنا استقلالنا في فترات متزامنة ليست بعيدة، وبلادنا تختزن ثروات تنوء بالعصبة، وقادرة على فرش أراضينا بالزهو والورود والخيرات، وترسم ابتسامات على شفاه أطفالنا.. نتساءل هل يعقل أن يقوم حاكم جائر بقتل نصف مليون إنسان، ويهجر ستة ملايين آخرين، ويدمر أكثر من نصف المدن في البلاد، ويجلب كل مرتزقة العالم ليدخلوا غزاة، ويعيثوا فيها فساداً، ويدنسوا الأرض الطاهرة، ولا أحد من أخ أو غريب يحرك ساكناً، بل يوصدون الأبواب خوفا، ويسترقون السمع على فض بكارة المغتصبات..، هل يعقل أن يدخل رجل مسالم قنصلية بلاده للحصول على مستند إداري، فلا يخرج منها إلى مقطع الأوصال في أكياس بلاستيكية لمجرد أنه كتب في صحيفة أجنبية حول الأوضاع في بلاده، هل يعقل أن أول رئيس عربي منتخب ديمقراطيا منذ عهد خوفو باني الهرم الأكبر يموت في قفص الاتهام بعد سنوات عدة من السجن بتهم ليست بالضرورة لها أساس من الصحة. وفي رمزية موجعة تاريخ يوم وفاته يصادف تاريخ فوزه كرئيس، هل هذه الرمزية تعني أن الأمل في الحرية والديمقراطية في عالمنا مات مع موته.
نتساءل هل من المعقول أن يقف زعماء العرب صفاً متدافعين لحضور ملتقى المنامة لتمرير صفقة وصفت بصفقة القرن لوأد ما تبقى من قضية العرب الأولى: فلسطين، ويحرمون ملايين الفلسطينيين من حق العودة، ويتخلون عن القدس عروس عروبتهم، ويتلصصون من خصاص الأبواب الموصدة، هنا أيضا ليسترقوا السمع على فض بكارتها.. هل يعقل أن دولاً من عالمنا باتت أبوابها مشرعة لاستقبال وفود العدو المحتل، بكل تكريم وحفاوة.. واستقبالات رسمية بطبل وزمر، وسجاد أحمر، ومن لم يعجبه فليشرب من البحر.
هل يعقل أن يمنح الرئيس الأمريكي السيادة لإسرائيل على مرتفعات الجولان وكأنها من ممتلكات أجداده، وتبني عليها مستوطنة باسمه كمكافأة على كرمه الحاتمي من أموال غيره، ولا نسمع حتى جعجعة ولا نرى بالطبع طحينا. هل يعقل أن ثورة اليمن السعيد تتحول إلى حرب طاحنة لا نهاية لها تأكل الأخضر قبل اليابس بأيادي وأسلحة الأخوة والجيران، يقتل الأطفال وتدمر البلاد على رؤوس أهلها ولا نهاية لهذا النفق المظلم. هل يعقل أن يغير قائد ميليشيا من شرق ليبيا على عاصمة البلاد للسيطرة العسكرية على البلاد، وإسقاط الحكومة المعترف بها دوليا مدعوما من هواة الحكام الجنرالات.
هل يعقل أن في ثورة السودان العظيمة هناك من يتدخل من الأخوة المراقبين من خصاص الباب لفضها وسحقها في مهدها، ويقتل مئات من ثوارها وترمى جثثهم في النيل مثقلة بأحجار كي لا تطفو على السطح والحبل على الجرار، هذه التساؤلات غيض من فيض وفي جعبتنا ما زال منها الكثير من هل يعقل أن… والجواب وبمرارة أنها واقعة وأننا بانتظار الانزلاق إلى درك أعمق، وأكثر ظلما وظلاما، فبلادنا تباع وتشترى في سوق نخاسة الرقيق الدولية، ولا بصيص أمل في الخلاص عندما يتحالف الثور الأبيض مع الوحش لافتراس الثيران الأخرى ولا يعلم هذا الثور أو يتعامي أنه سيـكون الوجبة التـالية للوحـش.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية