بعد 75 عاما على انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور نظام عالمي جديد يفترض أن يحول دون نشوب الحروب، ويسعى في حال نشوبها لتنظيمها بقوانين «صارمة» تحد من التجاوزات السيئة، ما تزال التساؤلات تطرح حول مدى ما حققته البشرية في هذه المجالات.
وقد أظهرت قمة العشرين التي عقدت في اليومين الماضيين في السعودية أن التوازن الدولي لم يتغير كثيرا عما كان عليه قبل الحرب المذكورة، كما لم تتغير المفاهيم والقيم والممارسات المرتبطة بالحرب، ولم تنخفض التجاوزات كثيرا عما كانت عليه. لقد اجتمع زعماء الدول ذات الثروات العملاقة في لحظة زمنية متميزة نظرا لانتشار الوباء ولكنهم أخفقوا في مناقشة ازمات العالم وقضايا الموت والحياة بالنسبة لشعوب العالم. اجتمع هؤلاء هذه المرة عبر الفضاء الافتراضي الذي اضطرهم اليه وباء كوفيد-19 ولكن هل كان لهذا الوباء أثر عليهم؟ هل أقنعهم بأن اكبر رئيس بينهم لم يستطع منع الاصابة بكورونا؟ او ان بلده تسجل اعلى الاصابات اليومية في العالم بمعدل يتجاوز 150 الفا؟ لقد خصصت اموال هائلة للتصدي للوباء سواء بتصنيع اللقاحات او العلاج، وانتشرت أنباء كثيرة عن قرب استخدام بعضها في الاسابيع المقبلة. ولكن هل قلل ذلك من القلق الذي ينتاب أغلب البشر نتيجة غياب التوازن الحقيقي؟ فحتى لو توفر اللقاح والعلاج فستبقى الهوة الاقتصادية الشاسعة بين الاغنياء والفقراء، التي ستفرض نفسها وتحول دون حصول الفقراء على اللقاح والعلاج. هذا ما اشارت اليه رسالة وجهت لزعماء الدول المشاركة في قمة الرياض بعثها رئيس جنوب افريقيا ورئيس وزراء النرويج ومسؤولو منظمة الصحة العالمية ومفوضية الاتحاد الاوروبي. الرسالة طلبت من المجتمعين توفير دعم للشعوب الفقيرة لتستطيع الحصول على اللقاح والعلاج. هل هذا هو العالم «المتحضر» الذي كان مفكرو مرحلة ما بعد الحرب يتطلعون اليه؟ هل كان هؤلاء يستشرفون مستقبلا يحكم فيه النظام العنصري في جنوب افريقيا بدعم انكلو ـ أمريكي حتى 1990؟ هل كانوا يرون مستقبلا تحتل «اسرائيل» فيه فلسطين بدعم غربي في السابق ودعم عربي في الوقت الحاضر؟
لقد أمضى العالم ثلاثة ارباع القرن في التنظير لعالم يسوده السلام والوئام، ويتجاوز الحرب ويحصر خسائرها بالمشاركين فيها مباشرة، ويقلل استهداف المنشآت المدنية. ولكن الواقع يختلف عن ذلك تماما. ما تزال المؤتمرات تعقد بانتظام، وما تزال السجالات مستمرة حول قوانين الحرب والسلام، وما تزال المنظمات والجهات الحقوقية تتحرك من اجل تقليص مساحات الخطر المحدقة بالأبرياء. وما تزال بيانات التنديد والاستنكار تصدر من الجهات الدولية، السياسية والحقوقية، ولكن ما مدى الأثر العملي لذلك كله؟ اجتمع زعماء العالم الصناعي بحضور الرئيس الأمريكي المهزوم، فكيف كان شعورهم وهم يصافحون رجلا يمارس الاستبداد من على هرم السلطة في الدولة المهيمنة على عالم أحادي القطبية؟ هذه الدولة ترفض الانصياع للقرارات والمعاهدات الدولية، وتصر على مطالبة الدول التي تتدخل فيها عسكريا القبول بحصانة جنودها ومسؤوليها من المثول امام انظمة القضاء لديها عندما يرتكبون جريمة ومنها القتل غير المشروع. هذا الرئيس كاد يدخل العالم الاسبوع الماضي في حرب مدمرة عندما طلب من مسؤوليه العسكريين اعداد خطة مستعجلة لاستهداف إيران عسكريا وقصف منشآتها النووية. أين هو التحضر والتقدم الذي تحقق خلال ثلاثة ارباع القرن؟
في عالم أضاع بوصلته التي صنعها بعد الحرب، أصبح من الصعب الحديث عن عالم واحد تسوده الحرية ويحكمه القانون المؤسس على قيم حقوق الإنسان والتعايش المشترك والاحترام المتبادل ولغة المساواة ونبذ التمييز القائم على اللون والعرق والثقافة
في هذا الخضم لا تبدو مكونات هذا «العالم الحر» أكثر انسانية او انصافا تجاه الشعوب الاخرى. فحتى هذه اللحظة ما تزال أمريكا وبريطانيا شريكتين في الحرب التي يشنها التحالف السعودي ـ الاماراتي على اليمن، ولم تعلنا سحب خبرائهما من الرياض او من الحدود بين البلدين. كما لم تعلنا وقف تزويد السلاح سواء للسعودية او الامارات. بل ان أمريكا تعتزم مكافأة الاخيرة لتطبيعها مع كيان الاحتلال بتزويدها بصفقة عسكرية جديدة تشمل احدث طائراتها المقاتلة اف-35 ضمن صفقات بعشرات المليارات. وجاء توقيع اتفاق التطبيع بين حكومتي الامارات والبحرين من جهة والكيان الإسرائيلي من جهة اخرى ليؤكد ليعبّد الطريق لذلك. فهل هذا هو العالم الذي كان مفكرو ما بعد الحرب وسياسيوه يتطلعون اليه؟ كيف يمكن الحفاظ على امن الشعوب؟ ألا يفترض ان تحتل حماية المدنيين اولوية لدى عالم يتظاهر باحترامه حقوق الانسان؟ فماذا يعني اعتراف الحكومة الأسترالية مؤخرا بان جنودا قتلوا اكثر من 40 مدنيا عمدا، كما تظهر مقاطع مصورة نشرها الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا؟ فقد أقر قائد الجيش الاسترالي الجنرال أنغوس كامبل بوجود أدلّة موثوق بها على أن جنوداً من القوات الخاصة الأسترالية «قتلوا بشكل غير قانوني» ما لا يقلّ عن 39 مواطناً أفغانياً من المدنيين وغير المحاربين. وكانت أستراليا قد أعلنت عن تعيين مدع خاص للتحقيق في معلومات عن جرائم حرب محتملة ارتكبتها القوات الخاصة الأسترالية ضد مدنيين وسجناء في أفغانستان. وبعدما تحدث عن اتهامات «بتقصير خطير وربما إجرامي» قال رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون إنه اتخذ هذا القرار لتسوية القضية في أستراليا لاستباق أي تحرك لإحالتها على المحكمة الجنائية الدولية. وماذا عن قتل آلاف المدنيين في العراق على ايدي القوات الأمريكية والبريطانية؟ فأين هي معاني «العدل» و «التحضر» و «القانون» و «الإنسانية»؟ وما الفرق بين انسان القرن الحادي والعشرين والبشر الذين عاشوا في الماضي السحيق ولم يحتكموا لشرائع دينية او بشرية؟
في الاسابيع الاخيرة ارتكب بضعة أفراد باسم الإسلام جرائم بشعة في بعض العواصم الغربية مثل باريس ونيس وفيينا، فقاموا باستهداف افراد ابرياء في الشوارع بالسكاكين وقتلوا عددا من البشر ذوي الارواح التي كرمها الله «ولقد كرّمنا بني آدم» والدماء المعصومة التي لا يجوز سفكها بدون حق. وقد تبرأ علماء الإسلام وقاطبة المسلمين بدون تردد من هذه الجرائم مؤكدين براءة الدين من هذه الافعال ومرتكبيها. فاستخدام الإسلام عنوانا لهذه الجرائم لا يجعله شريكا فيها او محرضا عليها. فتشريعاته واضحة ومواقف علمائه في القاهرة او النجف او قم أو أنقرة لا يشوبها الغموض، فليس هناك اختلاف كبير بين العلماء حول تحريم القتل العبثي الذي يمارسه بعض الافراد من غير ذوي العلم او الالتزام الحقيقي. ولكن ردة فعل بعض الحكومات الغربية لم تعكس رغبة النخب السياسية او الفكرية في السعي لمحاصرة هذه الظواهر التي ترتكب بشكل مستمر تحت اسماء متعددة، حقيقية ووهمية، لأهداف شريرة.
في عالم أضاع بوصلته التي صنعها بعد الحرب، أصبح من الصعب الحديث عن عالم واحد تسوده الحرية ويحكمه القانون المؤسس على قيم حقوق الانسان والتعايش المشترك والاحترام المتبادل ولغة المساواة ونبذ التمييز القائم على اللون والعرق والثقافة. ما أجمل ان يكون هناك عالم تعدد الثقافات والاعراق والالوان واللغات. ما أجمل أن يراجع «العالم الحر» مبادئه وقيمه وممارساته بدون تعصب او عودة الى محاكم التفتيش المقيتة او استحضار الثقافة التي دفعت للحروب الصليبية قبل عشرة قرون والحربين الكبريين في القرن الماضي والحروب المحدودة بعد ذلك. قمة مجموعة العشرين عقدت برئاسة حكومة الرياض التي تحتضن سجونها أعدادا هائلة من معتقلي الرأي ومن بينهم نساء ناضلن من اجل الاصلاح والمساواة وحقوق الانسان. ما اضعف المشاركين في هذه القمة بعد ان رفضوا الضغط على نظام حكم يعتقل مواطنيه بسبب آرائهم ومواقفهم، ويحارب جيرانه لرفضهم الانصياع لسياساته، ويحاصر اشقاءه بمجلس التعاون لان لديهم تقييمات سياسية وايديولوجية مختلفة.
كاتب بحريني