قليلة جدا مواعيدنا مع أنفسنا، فالحياة تجبرنا على منح كل لحظة من أعمارنا للآخرين، وربما هي ليست الحياة، بل هو خلل في ذواتنا، يجعلنا بدون أن ننتبه، كلما زادت الحياة من سرعتها أسرعنا الخطى في أثرها، ربما بدون هدف معين في الحقيقة، فنحن نركض من أجل اللاشيء الذي لا يفرز أي شيء نحتاجه. نفتح أعيننا صباحا فنتناول هواتفنا النقالة، قبل مغادرة الفراش، قبل الصلاة، قبل تناول قهوتنا، قبل الاستمتاع بحمام دافئ، فنبدأ بقراءة الأخبار المنهكة لعيوننا وعقولنا.
ماذا أيضا؟ قبل أن نخرج نرد على رسائلنا، عبر الإيميل، عبر تطبيقات كثيرة ومواقع تواصل اجتماعي كثيرة، ينتهي نصف يومنا ولم نبدأ بعد ما خططنا له بالأمس. إن حسبت كم كلمة أكتب يوميا فإنها حتما تتجاوز الألفين كلمة، وهي ثروة لو ركزت فيها على موضوع معين وجمعتها في ملف واحد، لكتبت كتابا في ظرف عدة أشهر… تمص صداقاتنا وعلاقاتنا اليوم أجمل لحظاتنا الإبداعية، ولا أدري هل ينفع أن نلجأ لطريقة ما للتحكم في عواطفنا وترويضها، ما أعنيه تحديدا التحكم في انجرافنا العاطفي تجاه علاقاتنا الاجتماعية؟ هل هناك قواعد للسيطرة على النّفس، أو لزيادة الحذر الذاتي حتى نعرف متى نقف عند حدود معينة، بدون التقدم خطوة للأمام، وبدون الوقوع في شرك التّعاطف المفرط مع الآخر؟
بالطبع بعض هذه الأسئلة ناقشتها سابقا، لكن ليس من باب التوسع في موضوع الذكاء العاطفي الذي لا نتسم به نحن العرب، أو لنقل ـ نحن المنتمين ـ جغرافيا إلى هذا الشرق. الغريب أن مصطلح «الذكاء العاطفي» خرج من هذا الشرق، من القارة الآسيوية العريقة، المتعمّقة في أمور النفس والروح والماورائيات، ولكنّه فقد مفهومه الصحيح وهو يقطع المسافات نحو الغرب المادي، وأعتقد، حسب تصوري، أن منطقتنا على تنوعها تختل فيها التوازنات كلها حين تصل إلينا، كأننا بشكل ما «مثلث بيرمودا» الذي يشل حركة الطائرات والبواخر فيبتلعها، أو شيء كهذا على الأقل.
لا أدري بالضبط هل الاندفاع العاطفي الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من سلوكنا اليومي له علاقة بكوننا جسر عبور بين عالم الحكمة والتأمل والتأهب والتخطيط وعالم «ضرب الحديد وهو ساخن»، إذ يبدو جليا أن إنتاج الفكرة بكل أبعادها يتم في المعامل الفكرية للشرق، قبل أن يقوم الغرب بقولبتها وتطبيقها بالشكل الذي يجعلها مفيدة أكثر من كونها معطًى نظريا. تقنيا لا يمكن العيش بدون عواطف، إذن من السخف أن نتحدث هنا عن إلغائها أو الإفراط في إظهارها، ما نتحدث عنه هنا هو استخدامها كدرع واق يحمينا في كثير من الأحيان من الأخطار المحدقة بنا، والتّقدم بحذر نحو أهدافنا، ويختصر بعض الباحثين في الموضوع في مخابر الأدب في جامعات عالمية، إن سر تنمية هذا الذكاء ونشره وتطويره يعود إلى نصوص أدبية بعينها، ليس فقط لأنها لا تموت بانتهاء عصرها، بل لأنها تولد في كل مرة مع الأجيال الجديدة، وتصبح ناقلا لذلك السر الدفين الذي يصعب تفكيك شيفرته وفهم قوته السحرية على المتلقي.
يقال إن القارئ المتفاعل مع تلك النصوص يكون ضحية عواطفه، لذلك علا في فترة ما صوت رفض النقد الانطباعي القائم على ذائقة عاطفية محضة، واُبتُكِرت مناهج كثيرة جرّدت القارئ من حقوقه، ومن نبضه، وأجبرته على البقاء متفرجا في ساحة النّقد، لم ينته الأمر عند هذا الحد، بل بلغ تجريد النص نفسه من كاتبه، وسحق تاريخه وهويته ومعارفه بمطرقة موت الكاتب، هذا يأخذنا لموضوع آخر، لكن ما علاقة هذا كلّه بيومياتنا التي يسلبها منا الآخرون؟
الضرر الأول في شاشات هواتفنا الذكية موجه مباشرة لتدمير شبكية العين، ثم لأدمغتنا المتأثرة بالأشعة المنبعثة منها، ولا بأس بالتذكير ببعض العوارض التي يعيشها البعض، ولا يعرف سببها وهي الأرق والكوابيس
تقول دراسة بريطانية لطيفة نشرت في الـ2016 إن بداية يومنا تكون موفقة أكثر إذا ما بدأت بالرياضة أو قراءة كتاب أو جريدة. ولأن زمن الجرائد ولّى، وأصبحت إلكترونية تنبهنا الدراسة إلى أن قراءة الجرائد على هواتفنا الذكية تعرّض أدمغتنا للضرر، أما قراءتها على شاشة كمبيوتر فتعرضها لضرر أقل، أما قراءتها على الورق فهي الأفضل. الضرر الأول في شاشات هواتفنا الذكية موجه مباشرة لتدمير شبكية العين، ثم لأدمغتنا المتأثرة بالأشعة المنبعثة منها، ولا بأس بالتذكير ببعض العوارض التي يعيشها البعض، ولا يعرف سببها وهي الأرق، والكوابيس المزعجة خلال ساعات النوم القليلة التي يحظى بها المعني، وأوجاع الرقبة والصداع، وأوجاع غير مفهومة في الأصابع وعضلات اليد، وفي دراسة أمريكية نشرت سنة 2015 تظهر النتائج ارتفاعا في نسبة حدوث سكتات قلبية بالنسبة لمستعملي أصبع السبابة كثيرا خلال كتابة الرسائل الهاتفية، والإدمان على تصفح مواقع كثيرة بسبب ترابط المعلومات ببعضها بعضا.
النصيحة التي من ذهب الآن والتي تقدمها لنا كلا الدراستين، هي إبعاد الهاتف النقال عنا، خاصة عند الاستيقاظ ليلا أو باكرا في الصباح، لأن السر في انجذابنا إليه في الحقيقة هو ذلك الفخ العاطفي، كونه يربطنا بمن نحب أولا، نبدأ بتصفح رسائل الأحبة، ثم ننتهي بالبحث عن آراء الآخرين بنا، لنطمئن على أن محبتهم لنا لا تزال بخير، خاصة أننا نعيش أقسى ما يمكن أن تمنحه لنا تكنولوجيا التواصل، فالشخص قد يحبنا اليوم بسبب صورة، وقد يكرهنا غدا بسبب موقف، وحتى إن كان الأمر مرتبطا بفضاء افتراضي، إلا أنه من المستحيل إلغاء مواضع التأثر العاطفي فينا.
تقول الدراسة البريطانية السالفة الذكر، إن قراءة كتاب صباحا في ساعة اختلاء مع النّفس تعيد بناء ما تدمره تكنولوجيا التواصل يوميا في الفرد، وإن عشرين دقيقة قراءة يوميا كافية لترميم الشروخ الداخلية فينا، وإن عشرين دقيقة أخرى من الحديث حول محتوى الكتاب يفرغ النفس من الحمولات السالبة التي تراكمت من تعب يوم كامل، وتذهب الدراسة إلى أن الصلاة الصباحية تفرض نفسها اليوم كحلٍّ سهل وبسيط لبداية جيدة ليومنا، بما أنها أكثر الطقوس احتراما للذات، لأنها تمارس في الهدوء بمعزل عن كل المؤثرات التي يمكن أن تشوش العقل والمشاعر.
نظريا نحن نعرف اليوم أشياء كثيرة عن الذكاء العاطفي، لكننا عمليا نحن أكثر الناس جهلا بإدارة عواطفنا، حتى أننا ككتّاب ومشتغلين بالكتابة لم يخطر في بالنا أننا نملك «الريمونت كونترول» لإدارة عواطفنا بذكاء، فمنذ سنوات ترسخت لدينا طقوس القراءة ليلا، ثم تراجعت بسبب الهواتف الذكية، قبل أن تلتهمنا التكنولوجيا بطعم عاطفي خطير، ونصبح عبيدا لخوفنا من فقدان من يحبوننا.
بالتأكيد تأجج هذه العاطفة وانطفاؤها يجب أن يكون لسبب منطقي، لكن شباك شبكة الاتصالات هذه التي علقنا فيها وقد حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، لا تنفك توهم حتى «المقطوع من شجرة» أنه مهم على الأقل لعدة عشرات من الأشخاص يطرقون رأسه يوميا فقط ليؤكد حضوره، ويعبر لهم عن استمراره في محبتهم ويطمئن إلى أنه لا يزال محبوبا، الشيء الذي يستحيل لكتاب أن يفعله بنا، وهو يحملنا برفق في رحلة خارج هذه القضبان، التي حوّلت حياتنا إلى جحيم، وهواتفنا إلى ثقب أسود يبتلع عواطفنا الإيجابية كلما اقتربنا منها، ويترك لنا ندوبا عميقة من الخوف والقلق.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
الكاتبة أصابت كبد الحقيقة في التخوف من التكنلوجيا الحديثة ووسائل الإتصالات الإجتماعية, لو أنها ربطت هذا التخوف بالأنظمة الإستبدادية وأدواتها الذين ما انفكوا يحذرون المجتمعات من وسائل التواصل خوفاً على سلطاتهم الغير شرعية وأبواقهم المأجورة والمتوترة بنفس درجة توتر سلطات الإستبداد. هم لا يهمهم صحة الناس, وإنما يهمهم الكرسي الذي يهتز بسبب وسائل التواصل الإجتماعي, لذا هم يستنفرون أبواقهم للتخويف من التكنلوجيا الحديثة كي يبتعدوا الناس عنها, لكن هيهات أن يكف الناس عن التمتع بأشعة الشمس وباستنشاق الهواء الطلق.
أستيقظ فجرًا مبتسمًا
رغم جراح ونـدوبْ.
وأقرأ في عينيك الناعسة
صمتًا فيه نبض قلـوبْ…
فدعي اليأس وراءك فهو
عبء عاطل ( مثقوبْ ).
قدري في لــوح أزليّ ؛
فخذي وأعطي ياسيدتي
فالعمرعلينا قدرمحسوبْ
والبخل قبيح قبيــح جدًا ؛
إلا في سفرنا المكتــوبْ.
الريّ فيك أبدًا يا سحابة…
فمنك نبع مائي المسكوبْ.
ليس مهمًا لــون سماءك ؛
يهمني أني فيها معـــراج
لشعاع فلا أخبوو( أذوبْ )
وكي أدخل جنّة عـدن…
حيث تكوني أنـــت أنــت
ذيّاك ( الحور) المطلوبْ.
لأغتسل في طبّ نبعــك ؛
من أوجاع روحي وكروبْ
فلديك وحــدك دوائــــي ؛
وبلسم لجراح المحبـوبْ.
استأذنك دكتور جمال لأعادة نشر قصيدتك العسل في مدونتي ..
يامريم الوردة : أتأخذين ( العسل ) ؛ وتدعين لي الشمع ولدغات النحل ؟ موافق مع المودة.