عام الثورات بنسختها الثانية: عين على الشباب وخوف من انكسار الأحلام المستيقظة

رلى موفّق
حجم الخط
0

زَرَعَ “الربيع العربي” عام 2011 بذور الثورات. لا ضمانة بأن مواسم الزرع تؤتي ثمارها على الدوام، إذ تصيبها، أحياناً كثيرة، أعراض من هنا وهناك فيتلف الحصاد، لكن ذلك لا يعني النهاية. فثمة مواسم ثانية وثالثة ورابعة آتية على الطريق ستُثمر لا محالة.

النسخة الأولى من الثورات العربية كانت تبحث عن فسحة من الحرية والكرامة الممتهنة. فما شعر به محمد بو عزيزي في لحظة انتفاض على الذات قبل الغير كانت شرارة “ثورة تونس” التي كرَّت بعدها السبحة من مصر إلى ليبيا فسوريا. وما زاد في النسخة الثانية من الثورات هو ضيق الحال من الذل واللامبالاة وتفشي الفساد وظلمة المستقبل وغياب الأمل.

السلسلة طويلة، من الجزائر إلى السودان، ومن العراق إلى لبنان وحتى إيران: احتجاجات وانتفاضات وثورات، منها ما أَينع ومنها ما ينتظر، لكن المهم أن قطار التغيير انطلق وسيصل إلى وجهته المحددة ولو بعد حين. وأبعد من المنطقة، هناك احتجاجات “السترات الصفراء” الفرنسية التي أطفأت في السابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي شمعتها الأولى، وهي التي خرجت بداية رفضاً لزيادة أسعار الوقود وارتفاع تكاليف المعيشية فاذا بها تمتد إلى المطالبة بإسقاط الإصلاحات الضريبية. وهناك هونغ كونغ التي لم يخفت وهج تظاهراتها رداً على رفض إقرار مشروع قانون يسمح بتسليم المشتبه بهم إلى الصين لمحاكمتهم والتي تحولت إلى ثورة تطالب بالديمقراطية وإنهاء الحكم الشيوعي وانفصال الإقليم. وهناك فنزويلا المتأثرة احتجاجاتها بمدار التجاذبات بين معسكري الشرق والغرب، والمنقسمة بين رئيس يُمسك بالسلطة تعتبره روسيا شرعياً بعد انتخابات رئاسية مشكوك بها هو نيكولاس مادورو، وآخر يحظى بدعم أمريكي وأوروبي وطيف واسع داخلياً من المجتمع المدني هو زعيم المعارضة خوان غوايدو رئيس البرلمان، الذي أعلن نفسه رئيساً موقتاً، بعد إبطال انتخاب مادورو الغارق نظامه تحت وطأة عقوبات دولية وعزلة دبلوماسية للإطاحة به.

تتشابك حركات الاحتجاج بشكل مباشر وغير مباشر. تمدّ بعضها البعض بالزخم والأفكار والأساليب. تخفت في مكان لتظهر في آخر. الشعوب كسرت حاجز الخوف. والشارع أضحى انعكاساً لما أحدثته ثورة الاتصالات والتقنيات في المجتمعات، حيث الشباب هم المحرّك والعصب. إنها ثورات الأجيال الجديدة بوسائل جديدة. لا يتعبون ولا يملون في توْقهم لصنع مستقبل أفضل. فحاضرهم باهت يفتقدون فيه إلى أدنى مقومات الحياة الكريمة والحقوق الأساسية. يشعرون بفقدان الأمل، ويعتريهم القلق من الغد، حيث تغيب فرص الحياة ومعها الأحلام. تحوط بهم أنظمة فاسدة جاثمة على صدورهم، تتمادى في إذلالهم وقهرهم وسرقتهم وفي التعالي عليهم وخنقهم أحياء.

“الشعب يريد إسقاط النظام”

طفح الكيل، فخرجوا إلى الشوارع والساحات يهتفون “الشعب يريد إسقاط النظام”. تنطلق الشرارة من حدث محدد يمسّهم في الصميم، سواء أكان ارتفاع سعر ربطة الخبز أم صفيحة البنزين أم الضرائب أم الضائقة المعيشية لتتحوَّل إلى أطروحات أكبر. ليسوا جميعاً يفقهون بالنظم السياسية في بلادهم، لكن مطالبتهم تُعبّر عن رغبة جامحة نحو تغيير جذري لما يعيشونه في كنف نظام من السرقة والهدر والفساد وتجويع الناس، أو نظام من قتل الأحلام وقمع الحريات وامتهان الكرامات.

فالجزائريون لم يخرجوا في الثاني والعشرين من شباط/فبراير 2019 عن طورهم إلا حين أعلن رئيسهم المريض والمشكوك بقدرته على الحكم عبد العزيز بوتفليقة عن الترشح لولاية خامسة. بعض المراقبين يقول إن الجزائريين شعروا بالإهانة بترشح بوتفليقة، وإن احتجاجاتهم جاءت تعبيراً عن رفض سرقة المستقبل، والبعض الآخر عزاها إلى انعكاس صراع الأجنحة الحاكمة على الأرض. ما هو أكيد أن الثورة التي أُطلق عليها “ثورة الابتسامة” لطابعها السلمي وأساليبها المفرحة، قد أسقطت بعد أسابيع من انطلاقها الرئيس الذي مكث عشرين عاماً في الحكم، وأدخلت رموزاً من تلك المرحلة إلى السجن. لكن الأكيد أيضاً أنه لولا انحياز الجيش إلى الشعب، لما تحقق رحيل بوتفليقة، ولكانت الثورة سلكت مساراً أكثر تعقيداً وربما دموياً!

ورغم أن عام 2019 أقفل في الجزائر على انتخابات رئاسية أوصلت الى سدَّة الحكم رئيس الوزراء الأسبق عبد المجيد تبون، فإن الحراك الشعبي كان يطمح إلى التغيير الجذري لنظام الحكم والقطع النهائي مع كل رجالاته، ما يجعل الطريق لتحقيق ذلك طويلة وربما شاقة وفيها الكثير من التعرجات. فـ”خارطة التغيير” التي قدمها تبون، وإن أظهرت الرغبة في إطلاق مسار التغيير، فإنها ستكون تحت المجهر، على الدوام، على ضوء تعهده بإصلاحات سياسية واقتصادية وتعديل الدستور ومكافحة الفساد، وتلبية طموحات الحراك الشعبي الذي سيبقي ثقته معلقة، وسيف الشارع مصلتاً، ما دام يعتبر أن ثورته غير منجزة.

فض اعتصام الخرطوم

قبل الجزائر، كانت السودان قد شهدت في التاسع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2018 اندلاع احتجاجات شعبية على الغلاء وسوء الخدمات، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى المطالبة بإسقاط عمر البشير الذي حكم البلاد ثلاثين عاماً. وأشعلت سخرية البشير من استخدام معارضيه لوسائل التواصل الاجتماعي لحشد المتظاهرين حافزاً لتسعير الثورة في نهاية يناير/كانون الثاني 2019، التي تحدَّت إعلان حال الطوارئ في شهر فبراير/شباط، لترفع من وتيرة تصعيدها في وجه محاولات إخمادها بالقوة، ولتستمد زخماً جديداً بعد استقالة الرئيس الجزائري في الثاني من أبريل/نيسان، أدى إلى إعلان الجيش السوداني في الحادي عشر من أبريل/نيسان عن عزل رئيس البلاد وتشكيل مجلس انتقالي. ما كانت الثورة لتثمر هذا الإنجاز، لو لم يُساند الجيش ثورة أبنائه ويرفض قمعها.

لكن السودانيين الذي خبروا الانقلابات العسكرية منذ استقلال بلادهم تنبهوا إلى أن سقوط البشير ليس النهاية. فلم يخرجوا من الشارع، وضغطوا لاستقالة المجلس العسكري الذي أراد الحكم خلال المرحلة الانتقالية. غير أن موازين القوى الداخلية والواقع الجيو-سياسي للسودان وتجنب انجرار البلاد لـ”إراقة الدماء” بعد جريمة فض اعتصام الخرطوم شكلت عوامل مؤثرة على المشهد الذي أفضى إلى اتفاق بين الجيش والمعارضة، برعاية الاتحاد الأفريقي، على فترة انتقالية لنحو ثلاث سنوات تضمنت تشكيل حكومة وإنشاء مجلس سيادي مكوَّن من خمسة مدنيين وخمسة عسكريين وانتخاب العضو الحادي عشر.

وإذا كان العام 2019 حمل معه رياح التغيير في الجزائر والسودان ضمن معادلة الخطوات المتدرّجة، فإن العام الحالي سيكون عام الامتحان لمدى قدرة “الثورة” على صون ما تحقق، والبناء عليه لتطوير النظام نحو ديموقراطية حقة بعيداً عن سطوة العسكر، وإرساء معايير الحرية والعدالة والمواطنة والشفافية والحكم الرشيد.

ما أنجزته الثورة في الجزائر والسودان من تحوّلات يندرج، دون شك، في خانة النجاحات بمعزل عن طموحات الثائرين وأحلامهم الكبيرة. هذه السمة لا يزال مبكراً إسقاطها على الاحتجاجات في العراق ولبنان وإيران، التي تتشابه في جانب من انتفاضاتها الثورية مع غيرها من الثورات، لكنها تتمتع بخصوصية ما وتجمعها عوامل مشتركة تلقي بظلالها على مجتمعاتها، بحيث تحوَّلت أعباءً عليها، وتدفع ثمنها بشكل مباشر وغير مباشر.

الغليان الاجتماعي

لا شك أن الواقع المعيشي الصعب الناجم عن أزمات مالية واقتصادية، والذي يتمظهر بمعدلات البطالة والفقر والعوز والمديونية لامس كل الخطوط الحمر، لا بل تجاوزها خلال السنوات الماضية. فانفجر الغليان الاجتماعي حين فاضت الكأس مع رفع سعر البنزين في إيران والمياه الملوثة جنوب العراق وزيادة ضريبة “الواتساب” في لبنان، لتشكل شرارة الغضب المكبوت في هذه الدول.

فانسداد الأفق السياسي بوجه أي تغيير من شأنه تعزيز القبضة الممسكة بالسلطة القائمة على “الشراكة” بين النفوذ السياسي والمحاصصة والمصالح الاقتصادية – المالية. قمع “الثورة الخضراء” في إيران عام 2009، والاحتجاجات الأخرى ذات الطبيعة الإصلاحية، فاقم من مظاهر المأزق السياسي والنزوح إلى ما دون خط الفقر، وتَحكُّم ما يُعرف في العراق بـ”الأحزاب الحيتان” بالعملية السياسية كحامية للفساد سرّع في الانفجار الاجتماعي، وكذلك الحال في لبنان الذي شهد عملية ترويض بقوة الاغتيال والتعطيل للوقائع السياسية على النحو الذي ساهم في تعميق المأزق الاقتصادي-المالي وحصار لبنان.

وثمة أسباب مباشرة لكنها تقيم في خلفية الصورة التي رسمتها الثورات في طهران وبغداد وبيروت ترتبط في التموضع الإقليمي-الدولي، للدول الثلاث خارج النظام الدولي! وعبر نزوحهم المتفاوت في هذا الاتجاه. فعندما يتحدث المرء عن هذا “الهلال”، الذي يمتد من طهران إلى بيروت، مروراً ببغداد ودمشق إنما يقارب “عمارة واحدة بمنازل عدة”، أي إيران وساحاتها الأهم: العراق حديقتها الخلفية، ولبنان حيث يتموضع مشروعها الإقليمي.

ولم يكن مصادفة انفجار الثورات الثلاث في العواصم الثلاث في وقت واحد، ما يعزز الاعتقاد بأن المشروع الإيراني يحصد ما زرعه في المواجهة مع المجتمع الدولي، لا سيما الولايات المتحدة التي ضاعفت من عقوباتها الموجعة ضد طهران وأذرعها في بيروت وبغداد. وهي العقوبات التي هزت مكانة إيران وأصابتها بـ”الشح” بعد “تصفير” تصدير النفط وفرضت حصاراً مالياً على أذرعها، وفاقمت، تالياً، من مأزق الساحات التي تحتمي بها.

فلبنان خسر حاضنته التاريخية التي شكلتها الشرعيتان العربية والدولية، ومُني بعزلة أفقدته العمق الاستراتيجي المتمثل بدول الخليج فتحوّل اقتصاده حطاماً سرعان ما انزلق نحو الانهيار الذي أخرج الناس إلى الشارع، وهكذا هو العراق الذي يملك مقومات “دولة قوية” ومنتجة في ميادين النفط والزراعة، لكنه اقتيد منذ العام 2003 إلى تجربة انزلق فيها إلى حدود “الدولة العاجزة” عن تأمين الكهرباء والمياه النظيفة وفرص العمل.

“القوة الغاشمة”

وإذا كانت الدوافع متشابهة في الثورات الثلاث، فإن تعبيراتها في الشارع والساحات والميادين لم تختلف كثيراً، لا سيما في بيروت وبغداد، بعدما جرى التعتيم على انتفاضة الشعب الإيراني التي قُمعت بـ”القوة الغاشمة” التي أسفرت، حسب التقارير، عن سقوط 1500 قتيل.

وبدت المظاهر متشابهة في الساحات بين العراق ولبنان لجهة الطابع المدني – العصري للانتفاضة التي غلبت عليها الروح الشبابية، كما تفادي اللجوء إلى العنف رداً على استخدام الميليشيات الطائفية للعنف في العراق الذي أوقع آلاف بين قتيل وجريح، ورداً على “غزوات الشغب” في بيروت. وتميّزت الساحات باللجوء إلى وسائل حديثة في التعبير، من حيث الهتافات والأغاني والفنون التي طبعتها وحوّلتها إلى فسحة أمل، ومن حيث إبراز حس المواطنة والمسؤولية، واضطلاع المرأة بدور قيادي في الثورة جرى ترجمتها من خلال الحملات الدعائية التي رفعت شعار “الثورة أنثى” اعترافاً بالجهد النسوي في الساحات.

 يعتبر البعض أنه لا يصح إدراج إيران ضمن ثورات العراق ولبنان، لكن ثمة من يرى أن نبض الشارع الإيراني يستمد قوته من نبض الجوار العراقي. وما دام ثمّة متظاهر في العراق، فإن خطر انتقال العدوى إلى المدن الإيرانية يبقى ماثلاً أمام السلطات. نحت الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة إلى العنف بسرعة أكبر من احتجاجات العام 2017. ووجد المحتجون الغاضبون أنفسهم في مواجهة رصاص قوات الأمن. وانتقلت الشعارات بالوتيرة نفسها من الاحتجاج على تردّي الوضع المعيشي والاقتصادي إلى السياسة الإقليمية الإيرانية، قبل أن يُردّد المتظاهرون شعارات شديدة اللهجة تطالب بطرد ولاية الفقيه من إيران والموت لرأس النظام. صحيح أن الانتفاضة قد أُخمدت سريعاً وسط تمادي السلطات الإيرانية في استخدام العنف بعد وقف خدمة الإنترنت، وانقطاع التواصل بين المدن وبين الداخل والعالم، لكنها مرشحة للاندلاع ثانية وثالثة ما دامت جمراً تحت الرماد.

ويستقيم القول إن زخم الشارع في لبنان، كما في العراق، خلخل إلى حد كبير بنيان “الحكومات التوافقية” المرتكزة على المحاصصات السياسية والاقتصادية والمالية والإدارية، وأسقط حكومتي بيروت وبغداد، وصعّب المهمة على السلطة الحاكمة في كلا البلدين، لكنه من المغالاة اعتبار أن هاتين الثورتين قادرتان على إحداث تحوّلات سريعة في عقلية المتحكمين والمنتفدين بالسلطة سواء من الداخل أو الخارج أو أنهم سيتخلّون بسهولة عن “جنّة النفوذ”، حتى ولو سالت الدماء أنهاراً! فثمن الحرية والكرامة والعيش الكريم خارج أجندات تحويل الدول ساحات صراع في خدمة المحاور سيكون باهظاً.

النقاش الدائر اليوم، من بيروت إلى بغداد، يتمحور حول أن الثورة نجحت إلى حد بعيد في التحوّل رقماً صعباً، ولكن ماذا عن مآلاتها عندما تكون بلا قيادات أو زعامات، ولا تُفاوض؟ التجربة مع “السترات الصفراء” في فرنسا لم تكن مشجعة بعدما بدا أن الحوار الذي أطلقته الحكومة لم يكن تجسيداً لنهج جديد للرئاسة الفرنسية في مقاربة الملفات الشائكة، بل كان هدفه احتوائياً والتفافياً لإطفاء الحراك. غير أنه لا بد من خلق آليات للوصول إلى الأهداف بعد الخطوة الأولى التي تمتلك “الثورة الجيليّة” أدواتها، متكئة على قوة وثقل وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي التي تقض مضاجع الأنظمة وحكامها. هي “الثورات” التي، وإنْ خبت لبعض الوقت، ستطل برأسها مجدداً، بكل ما لديها من آثار متعاقبة لـ”لعبة الدومينو”.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية