أسئلة كل عام جديد عن أهم ما قرأت أو شاهدت في العام السابق، أو ما تحلم به في العام المقبل. أصبحت أهرب منها لأن متابعتي للإصدارات لم تعد بالقوة القديمة أو خوفا من الحديث عن روائي أو كاتب قصة أو شاعر، فتنسى آخرين ليسوا أقل قيمة، خاصة ومصر والعالم العربي يحفلان بأعداد لا نهاية لها من المبدعين والمبدعات، فضلا عن انشغالي برواية جديدة.
الحقيقة ليس ذلك لكنه سؤال لا بد قد خطر على ذهن كل مبدع أو مثقف عاش حياته يحلم بوطن أجمل، أو كان حريصا على أن تكون هناك نُسخ من أعماله الروائية والقصصية والفكرية أقرب إلى عينيه في غرفة عزلته، وكثيرا جدا ما لم ينتبه إليها من فرط انشغاله في الحياة وقضاياها وهو يجري وراء أمل بعالم أفضل، ثم ينظر حوله الآن، في هذه الظروف العجيبة والعصيبة التي أتيح فيها للعالم العربي أن يتعلق بحبال الديمقراطية، فإذا بكل شيء يعود إلى سنوات طويلة سابقة، كان الحاكم فيها هو الوالي والشعب هو الرعية، وبينه وبين الرعية قوم من القساة يرضون الوالي بقهر الرعية.
أجل ينظر المبدع حوله الآن وتأتي منه لفتة إلى أعماله التي هي محل تقدير من الكثيرين من المفكرين أو القراء، ويقفز السؤال العجيب ما معني هذا كله ولماذا؟ هي المتعة بلاشك يفوز بها المبدع والفنان، لكن هل ما ينتج عن المتعة كان عاجزا عن أن يأخذ عقول وأرواح الناس إلى عالم أفضل؟ لا بد كان قادرا، لكن يظل هذا العالم الأفضل محض خيال. فالذي حولنا ينتمي إلى العصورالوسطى، عصور الاضمحلال، لكن هي الاسئلة مع كل عام ويقفز أمامي سؤال المتنبي الذي لا يفنى «عيد بأي حال عدت يا عيد… بما مضى أم بأمر فيك تجديد.
قلت يوما من باب الأسى إن الثورات العربية فرقت الأحباء، وأنا أنظر إلى أسماء أصدقائي ومن قرأت لهم من كل الأجيال في بلاد مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق .
أما الأحبة فالبيداء دونهم… فليت دونك بيدًا دونها بيد»
أعرف أن هذا حديث صعب، وأن الحديث في الجَمال أفضل، لكن هكذا كل عام يقفز المتنبي، كنت منذ عشر سنوات، بالتحديد قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011 أعيد البيت ساخرا وضاحكا، والآن أعيده حزينا.
قلت يوما من باب الأسى إن الثورات العربية فرقت الأحباء، وأنا أنظر إلى أسماء أصدقائي ومن قرأت لهم من كل الأجيال في بلاد مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق طبعا، رغم أن الأمر فيها لم يكن بعد ثورة، وأراهم وقد تناثروا في كل بقاع العالم ما بين أوروبا وأمريكا وأستراليا وبعض الدول العربية، لكن طبعا كلامي لم يكن يعني أن الثورات هي السبب، لكن ما جرى على الثورات من مؤامرات. كم من مليارات دفعت من الغرب ومن دول عربية في صالح الجماعات الإرهابية في سوريا وليبيا، على سبيل المثال، حتى أن الثوار الأول الحقيقيين لم يعد لهم وجود واضح لا على الأرض ولا في الفضاء، فهناك في سوريا مثلا جماعات أعجز دائما عن إحصائها. والنظام الذي لم يستجب للثورة في حالتها الأولى وقابلها بالبطش، بدا أخيرا أنه سينتصر، ومؤكد أن كثيرا جدا ممن كانوا ضده يرونه الآن أفضل من الجماعات الإرهابية.
في هذه اللحظات تخرج أمريكا قواتها بأوامر من رئيسها ترامب، وتحل محلها فصائل موالية لتركيا، يعني معارك أخرى، طبعا الكعكة السورية لا بد من الفوز بأجزاء منها، وإن كنت أعرف من موقعي البعيد أن هذه القوات ستخسر أمام الجيش الحكومي الذي فاز بالكثير ولم يبقَ له إلا القليل لن يتركه حتى من باب قوة الاندفاع وليس من باب الفهم السياسي. إذن هي معارك سيسقط فيها بشر، رغم أن النتيجة محسومة، لقد انتهت الثورة منذ اليوم الذي قفزت فيه الجماعات الإرهابية المدعومة من دول عربية وأجنبية وهي تتراجع الآن، لكن أمريكا صعب عليها التراجع، وهي التي جعلتنا نعيش في وهم أنها ضد الإرهاب، وهي صانعته منذ أيام بن لادن.
السؤال الذي أسأله لنفسي وأنا أنظر إلى أعمالي الأدبية لا بد سأله الكثيرون وكتبوا أو لم يكتبوا عن ذلك.
لن يسأل أحد لأن الصحافة مهنة والصفحات لابد أن تمتلئ وليس كل يوم يخطب رئيس أو حاكم لتنشغل به الصحف.
لكن الأيام تمر والزمن يمضي ويأتي عام جديد نهنئ بعضنا بعضا وتصلنا عبر الفيسبوك وتويتر وانستغرام وغيرها مئات الرسائل الجميلة وبعضها يطلب أصحابها أن تردها إليهم مادمت تحبهم، ولا أحد يفكر أن أحدا قد لا يرى أي عام جديد. الفضاء الافتراضي جميل صنع منا شخصيات شيزوفرينية تقدم الحلو لبعضها وتنام غير مصدقة إن هذه الحياة تستحق الحياة! إنها شيزوفرينيا جميلة على أي حال لأنها تساعد أصحابها وتساعدنا على الحياة. ثم تأتي أسئلة الصحافة عن أهم الكتب التي ظهرت وأهم الأحداث وأهم الأماني، ولا أحد يسأل ألم تكن هذه أسئلة في العام الماضي، فهل كان هذا العام أجمل حتى نعيدها؟ لن يسأل أحد لأن الصحافة مهنة والصفحات لابد أن تمتلئ وليس كل يوم يخطب رئيس أو حاكم لتنشغل به الصحف، ولا كل يوم عيد ميلاد أو وفاة رئيس أو حاكم مثل السادات، التي مرت مئة سنة على ميلاده منذ أيام، فأفردت له الصحف كلها عشرات الصفحات تمجيدا وكأن السادات لم يكن أول مفرخة للتيارات الإسلامية، ولا أول مفرخة للصلح مع إسرائيل. طبعا ما فعله السادات قلَّ كثيرا عما يحدث، ألم يكن البداية؟ وهل يفتح صندوق بانادورا أحد وينتظر الأمل؟ في الحقيقة أردت أن أهنئ الجميع على صفحات الميديا بالعام الجديد. لماذا لا.. سواء فعلت أم لم أفعل سيبدأ العام، بل بدأ وأنا أكتب هذه الكلمات بعد منتصف الليلة الأخيرة لديسمبر/كانون الأول، أي بداية فجر يناير/كانون الثاني. ولما قفز المتنبي أمامي وجعلني أكتب كل ما سبق قررت أن أهرب، ولم أجد أمامي إلا سيد درويش ابن مدينتي وهو يغني قائلا «يا رب كل من له حبيــب وطال بعاده وللا قريب. ما تحرموش منه وهـاته له بالســـــــلامة». ورغم آلاف الأحبة الغائبين في البلاد والسجون يظل الدعاء مرفوعا إلى السماء. ولكم ألف دعاء مثله بالصحة وطول العمر فلا بد يوما حقا من حياة كالحياة ورحم الله محمود درويش.
٭ روائي مصر ي