القاهرة ـ ‘القدس العربي’ ـ من محمود قرني: يبدو ديوان ‘ضياع ماء البئر’ نموذجا مثاليا على السير خلف خطي قصيدة التفعيلة الجديدة إذا صح التعبير، أقصد النموذج الذي يتمثل ملامح قصيدة النثر.
حرصه كان فائضا على الامتثال لشروط النوع. اللغة ممتثلة بالطبع لهشاشة من نوع خاص.. الخيال بحجم المشهد، ليس ثمة تأويلات تذكر يمكنها أن توقعنا في خطل التصورات المبهمة.. السرود في نطاق الممكن لا تهبط بنا لخشونة الواقع ولا تطمح لتحطيم سقفه.. الحب هش هو الآخر بحيث يمكننا أن نتمثله بعيدا عن تهويماته التاريخية، ومع ذلك لايخلو الديوان من ظلال شعرية الريادة لاسيما صلاح عبد الصبور. هذا هو الديوان الجديد للأكاديمي الشاعر عايدي علي جمعة الذي اصدر قبله بقليل كتابين أولهما ‘ثمرات ناضجات من جنان الشعر العربي’ ويتضمن أربع دراسات مطولة أولها في البنية الزمنية في قصيدة عبد يغوث بن وقاص اليماني ‘ألا لا تلوماني كفى اللوم مابيا..’ وثانيها ‘البنية السردية في عينية أبي ذؤيب الهذلي’ وثالثهما ‘الصوت المجدول في أغنية في شهر آب لبدر شاكر السياب’ ورابعهما ‘مركزية الصوت وانكساره في’ ديوان تعالي إلى نزهة في الربيع لمحمد إبراهيم أبو سنة ‘ وكذلك أصدر عايدي رسالته في الماجستير التي تحمل عنوان ‘ شعر محمد الفيتوري.. الرؤية والتشكيل ‘ وكان جمعة قد أصدر قبل حوالي العامين كتابه ‘رسالة الدكتوراة’ في شعر خليل حاوي’.. حول هذ الإصدارات نتحدث إلى عايدي جمعة وهنا نص الحوار:
* كيف تشكلت في ذهنك فكرة الهشاشة، أقصد هشاشة الشعر، هشاشة العالم في مقابل خشونة غير مألوفة من واقع نحيا ألمه يوميا؟
* فكرة الهشاشة تمثلت في ذهني نتيجة انهيارات كبرى في المنظومة المتماسكة لرؤية العالم من وجهة نظري، فقد بدت هذه الانهيارات تصدّع فكرة اليقين المطمئن لقناعات كثيرا ما كانت تأتينا من رؤى الآخرين للعالم، ولكن عند الاختبار بدت هذه القناعات موضع شك كبير.
* ما الذي تمثله بالنسبة لك قصيدة ما زالت ممتثلة لنيتها التاريخية، وسط تطوحات اللغة الشعرية الشفافة في الوقت نفسه. كيف جمعت العالم المركب بكثافته مع العالم المنفرط براهنيته ؟
* أعتقد أن هذه بالأساس هي مهمة الشعر، إن كان يصح أن توجد كلمة ‘ أعتقد ‘ في هذه اللحظة التي يعيشها إنسان هذا العصر، والتي تتمثل في كونه جزءا من انهيار كبير لهذا العالم، فقد بدت القصيدة مرتعشة بارتعاش اللحظة الراهنة، بطريقة مستغرقة تماما في هذه الارتعاشة فاكتسبت كثافتها من تعمقها في راهنية اللحظة.
* البعد المعرفي غائب في الديوان ويبدو غيابه موجها لرؤية خاصة في شعريتك، وهي شعرية لا يدل عليها هذا الديوان فحسب، هل ترى الشعرية الجديدة لا زالت في حاجة إلى هذا الانفراط وتلك الراهنية ؟
* إذا كان المقصود بالبعد المعرفي هو البعد الثقافي كما يتجلى في ثقافة تراثية محصلة وكلمة تراثية هنا تتسع لتشمل التراث المعرفي الإنساني عموما، وليس العربي فقط فهو لم يكن غائبا تماما في هذا الديوان، وإنما بدا وكأنه لا يأخذ حجما كبيرا أو مساحة لها الهيمنة، ووجوده كان في الغالب غبارا ثقافيا متناثرا في بعض قصائد الديوان، لأن القصيدة في هذا الديوان ـ كما حاولت ـ هي ارتعاشة اللحظة الراهنة في عمقها، وكأنها تحاول الانفلات من هيمنة ثقافة المركز، إلى اكتشاف ثقافة اللحظة وهي في طور التشكل أو التخلق.
* لا يخلو هذا الوعي الشعري من رومانسية ظاهرة.. كيف ترى مستقبل الرومانسية الجديدة في قصيدة التفعيلة، وأنت واحد من كاتبيها، أعني خصوصية التجربة شبه الشخصية، دون الوقوع في شرك تقديسها؟
* تبدو الرومانسية الجديدة في قصيدة التفعيلة ذات حضور متحقق، ونسبتها غالبة، وأرى أن مستقبلها لا ينذر با نحسارها، فهي تعكس أزمة الذات الشاعرة، وهذه الأزمة قد تكون وجودية بالأساس، وقد اتسع مفهوم الواقعية الذي قامت عليه قصيدة التفعيلة في بدايتها ليشمل بين طياته ما يمكن أ ن نسميه الواقعية الرومانسية، ومن الصعب التخلص من خصوصية التجربة ، لأنها تفاعل الذات الشاعرة مع العالم، لكن مفهوم القداسة قد تعرض لما تعرضت له المنظومة كلها من تصدع، يرى شعراء جيلي شقوقه تتسع، ويكاد ينذر هذا الوضع بكارثة.
ومن هنا صعوبة انحسار الرومانسية الجديدة في قصيدة التفعيلة.
* قصيدة التفعيلة الآن وصلت إلى تراكم يمكن من خلاله تلمس حدودها التاريخية وما استقر عليه منجزها، كيف ترى صورتها الراهنة؟
* لابد أن تخرج قصيدة التفعيلة من الملامح الحديدية الثقيلة التي شكلتها، فقد بدت تشعر المتلقي بكثير من تكلسها، وتحول كثير من أعضاء جسدها إلى حجارة، فبدت تكراريتها المميتة، وربما كان ذلك نتيجة لعظمة روادها، فقد وصل الكثير من نماذجها على أيديهم ـ في سياقهم الاجتماعي ولحظتهم التاريخية ـ إلى قمة لا تضارع، لكن بعد ذلك بدا تيار نهرها محملا بالأتربة، ومن هنا تبدو الضرورة القصوى لتغيير المجرى، والخروج إلى آفاق أرحب لها ،وإلا فإنها تحتضر، وهنا يبدو تراسلها مع الأنهار الأخرى هو الدماء الجديدة التي تنقذ جسدها من خطر التكلس، وربما كان ذلك ما أحاول الاحتراق فيه.
* أنت واحد من شعراء جيل الثمانينيات الذين انخرطوا في حركة الشعرالمصري مبكرا، كيف ترى مشهد جيلك الشعري؟
* فكرة الجيل الأدبي فكرة إشكالية حقيقة، لأنها تمثل أزمة المصطلح في تمثله للعالم، ومن المهم أن نشير إلى أن المصطلح أحيانا تكون له هيمنته أو سلطته، فيؤدي إلى حكم قيمة، وأزمة المصطلح أنها تختزل عالما في كلمة، وفي كثير من الأحيان تكون هذه الكلمة عاجزة عن تمثل هذا العالم.
وهنا يجب تغيير المعيار الذي ننظر به لفكرة الجيل، لأن عملية التداخل بين الأجيال فاعلة بقوة، ومحاولة تلمس خصائص فاصلة بين جيل وجيل صعبة، وربما بدا في الجيل الواحد الكثير من الخصائص التي تتراسل مع ما يعد أجيالا أخرى، ولكن يطيب للبعض تقسيم الجيل الأدبي على أساس العقد، فهناك جيل الستينيات وجيل السبعينيات والثمانينيات وهكذا، بالنسبة لي لا أرتاح نقديا لهذا المعيار، فمن أهم عيوبه أنه يشي بحكم قيمة، لأن جيل الستينيات أقدم من جيل السبعينيات، والسبعينيات أقدم من الثمانينيات، وهذا يعطي حكما أوليا للقارئ المتعجل بأفضلية المحدث على الأقدم، وهذا لا يعد معيارا نقديا، لكن عموما ما يبدو من مشهد جيلي الشعري، أوجيل الثمانينيات ـ رغم تحفظي على هذا المصطلح ـ هو نوع من التنوع، حيث وجدت أنماط كتابة القصيدة من حيث الشعر العمودي والتفعيلي وقصيدة النثر أو الجمع بينهم جميعا في القصيدة، وهذا ما حدث في كل جيل تقريبا، لكن هذا الجيل من وجهة نظري أراه كالسابح في البحر اللجي، يهبط جسده فيعلوه الموج، ويرتفع تارة أخرى فيعلو فوق الموج، ويدعي أصحابه أنهم مظلومون، والحقيقة أنه ليس هناك ظلم وإنما القدرة على الوجود أم لا، لأن العمل الحق يفرض نفسه، وذلك رغم ما تصنعه الشهرة من تكريس أسماء معينة أو أعمالا معينة باعتبارها صوت العصر، فالشهرة تلعب دورا خطيرا في عمليات الإحلال والإزاحة، ومن المعروف للكثيرين الأساليب الكثيرة، سواء كانت أدبية أم غير أدبية لصناعة الشهرة، لكن رغم ذلك فقناعتي تامة بأن العمل الحق في النهاية يفرض نفسه، ويثبت أمام الزمن.
* كيف ترى مشهد قصيدة النثر وكنت قد سمعت منك وصفك له بالقدامة.. كيف تفسر ذلك- بوضوح، ما الذي سيبقي من هذا الجيل، وإلي أي حد كانت إضافته النوعية مفارقة لشعرية جيل السبعينيات ؟
* جيل السبعينيات رغم الصخب الذي دار حوله فإنه كان واقعا تحت سطوة الرؤية الكلية للعالم، أو الرؤية المتماسكة، وبدا في الغالب ذا طموح لتقديم مشروع، وكانت رؤيتهم التنظيرية موازية لرؤيتهم الشعرية، وعلى الرغم من حالة الرفض التي روجوا لها فقد بدوا متماسكين في الرؤية، وكان منجزهم في كثير منه منجزا بلاغيا، بمعنى المغامرة مع اللغة، وغواية هذه المغامرة، وقد بدوا في تقديم هذا المنجز غير مفارقين لمهمة الذات الشاعرة باعتبارها ‘ مركزا ‘، ومن هنا فقد كانوا رغم ما أتوا به من جديد قدامي على مستوى الرؤية للذات الشاعرة باعتبارها مركزا منتفخا.
في حين بدت بعض موجات قصيدة النثر التي أتت بعدهم، في قليل منها محملة بهشاشة العالم، الذي فقد الكثير من تماسكه على مستوى الرؤية والفعل، فبدت هشاشة القصيدة متوازية مع هشاشة العالم، ومنهارة تماما مثل انهيار العالم. وتخلى شعراؤها عن مفهوم جيل السبعينيات الشعري، وعن معيارهم، لكن هناك مشكلة حقيقية وهي تسرب القديم في معظم ما ينتج، على الرغم من ادعاء التجديد، فبدت قصيدة النثر في كثير من نماذجها خطابا شعريا قديما في قالب نثري، فبدت رؤيتها للعالم ومنجزها واقعا تحت سطوة المنجز القديم ، وعجزت في كثير من نماذجها عن أن تكون صوت نفسها.
* لماذا كنت، معظم الوقت، خارج الطحن السادر بلا محصلة، بين أبناء جيلك، وكيف تفسر قلة نتاجك الشعري؟
* نتاجي الشعري يبدو لي غير كثير ولكنه في الوقت نفسه لا أستطيع أن أصفه بالقلة، فهناك ديوانان مطبوعان وديوان تحت الطبع، ربما لم يتم إلقاء الضوء على المنتج الشعري لي ، فبدا هناك إحساس ما بقلته، سواء على مستوى نشره في الصحف أم على مستوى مناقشته، وكنت دائما ما أجد قوة في أن أكون أنا القصيدة أو تكون القصيدة أنا لا فرق، من أجل ذلك لم أحاول السعي من أجل الترويج لشعري، وذلك لقناعتي التامة بأنه إذا وجد لدي شعر حقيقي فإنه سيبقى، حتى ولو لم أروّج له.
وقد بدا لي حرص بعض شعراء جيلي على الشهرة الشعرية نوعا من الضعف في الموقف، أو التكسب بالشعر، فبدا تعبدهم في محراب الشعر الألق مشوها.
* ثمة حاجة ماسة لتوقع شكل الشعر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، هل تتوقع انتقالات نوعية في الأشكال الشعرية المستقرة على هذه الخلفية؟
* كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير هي التفجر البركاني الذي ظل يعمل طوال سنوات، وكانت القشرة التي تغطي الثورة في الغالب متماسكة، ولم يدرك الكثير من المحللين هشاشتها، وحينما انفجر البركان بدت هشاشة هذه القشرة إلى حد مخيف، وبدا إدراك الناس الشديد لحركة اللهيب الثوري التي لم تكن ظاهرة لهم، وهناك ارتباط وثيق بين المنتج الأدبي وما يمور في المجتمع، وقد بدت الحرية أكبر في التعبير عن الذات عند الناس، وبدا الرفض عارما، لما لا يرغبون فيه، وهذه الحالة لا شك قد تكون في صالح الأدب، لأن الإبداع الأدبي يتنفس أنقى الهواء في جو الحرية الفسيح، لكن الأزمة قد تكون في التعجل، لأن الحراك الأدبي الحقيقي لا يسير بالضرورة بموازاة الحراك الاجتماعي، وفي كثير من الحالات في التاريخ الأدبي رأينا الحدث الثوري أكبر من الحدث الأدبي والعكس، أما مسألة الانتقالات النوعية في الأشكال الشعرية فقد حدثت بالفعل قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، وأنا أرى أنها كانت من ضمن اللهيب الثوري الذي كان يعمل تحت القشرة الهشة التي كانت قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير.
* أنت واحد من النقاد والباحثين الجدد أصحاب الإسهامات الوفيرة.. كيف تري المشهد النقدي في مصر والعالم العربي الآن؟
*يحمل النقد الأدبي في منطقتنا الآن على عاتقه مسؤولية ضخمة، هناك أجيال نقدية إن صح هذا التعبير قد تحققت ، فهناك جيل تحقق منذ فترة ، جيل الكبار وهؤلاء قدموا منتجهم وحققوا وجودهم منذ فترة طويلة، ولكنهم بدوا عاجزين الآن عن تقديم منتج نقدي حقيقي، فهم يعيشون على ما فات أكثر مما يعيشون على ماهو موجود فعلا، من هنا فقد تراجع دورهم النقدي بصورة ملحوظة، وما قدموه في الماضي كان أغلبه يميل إلى جانب التنظير أكثر مما يميل إلى جانب التطبيق، وكان تنظيرهم واقعا تحت عجلة التنظير الغربي، وإذا مسوا التطبيق بدا اشتباكهم مع النص اشتباكا غير حقيقي، ويبدو العجز الواضح عن تقديم نقد لافت، لقد كان النص دائما يتحداهم، ويتحدى أسماءهم التي عاشوا عمرهم كله من أجل تحققها.
أزمة النقد العربي الحقيقية هي العجز الواضح عن التعامل مع النصوص، فأغلبه يميل إلى جانب التنظير، وربما بدت الأفكار التنظيرية ذات طموح كبير، ولكنها عند التحقق على يد من دعا إليها نفسه يبدو تقزمها بشكل لافت، كما أن المعيار ليس واحدا فهناك تخبط نقدي ذو وضوح بارز، والعملية النقدية تسير في الغالب بطريقة فردية، والمؤسسة لا تمتلك خطة، والدوريات التي تهتم بالنقد تحاول أن ترتق الرقع فتعمل ملفات نقدية، لكن ذلك لا يشفي الغليل في الغالب، وهناك مياه غير صالحة متسربة أسفل الجسر، ولم تتم حتى الآن مساءلتها، بطريقة ممنهجة، وذلك لغياب روح الفريق، لكم أود أن تتكون فرق عمل نقدية، تكون ذات مهمة موضحة تعمل من أجل إنجازها، وأول هذه المهمة من وجهة نظري مساءلة الكتابات النقدية التي أنجزت خلال قرن، والتحاور معها، وإعطاء كل ذي حق حقه، ورسم خريطة نقدية مختلفة عما هو سائد، والتمثل الحي على مستوى النقد لمنتجنا على مدار القرون في خصوصيته، والعمل بدأب من أجل تغيير المعيار ووضع معيار جديد
وعلى الرغم من وجود بقع ضوئية نقدية في عالمنا المصري والعربي فإنها غير كافية، لأنها تعمل بالأساس بصورة فردية، وباجتهاد فردي، ولا تعمل ضمن فريق، يحمل على عاتقه مهمة كبرى.
حقا لقد استمتعت بهذا التحقيق وبما حمل من الرؤى الثاقبة.. لقد رسم الدكتور عايدي خريطة الإبدع الأدبي بمهنية واضحة، ووضع يده على الكثير من أوجاع حياتنا الأدبية..تحية تقدير للدكتور عايدي..
تحية تقدير للأستاذ محمود قرني..
غاليا أثمن توجه صحيفة القدس هذه الوجهة القومية.
مقطوعات رائعة ديوانه في القمة ماشاء الله