«عباءة غنيمة»: رواية تتأمل أزمة الوعي العربي الجديد

حجم الخط
0

شهد النصفُ الثاني من القرن الماضي، في المنطقة العربية، احتشادا سرياليا للخيبات والخسارات والهزائم، إضافة إلى التحولات التي لم تبق مأنوسا فكريا أو اجتماعيا إلا وقد عاثت به فسادا، فالكلّ حظي بنصيب وافر من الألم والخذلان، وعلى الرغم من المحاولات الجادة في سبيل التمسك بطوق النجاة/ الحب، غير أن الكلمة العليا، في النهاية، ستكون غالبا للفقد، أما محاولة لملمة تلك المفردات في عمل روائي محكم البناء، عبر لغة شفيفة، ومنفتحة على أفق شاعري، فهو ما تجترحه الروائية الكويتية عائشة عدنان المحمود، عبر روايتها «عباءة غنيمة»، (دار الساقي 2020).
تتحرك الرواية داخل زمن دائري، يبدأ في عام 1990، ومن ثمّ ترتدّ إلى أزيد من نصف قرن من الزمن، وتشتبك مع الحوادث المفصلية في المنطقة العربية، بكل ما فيها من ألم وخيبة، وتعود تاليا إلى العام نفسه، لتنتهي فيه، في إشارة إلى أن الأمة العربية، بمجملها، لم تزل بعدُ تراوح مكانها، وتدور في حلقة مغلقة.
لم تكن حالة خاصة بالكويت، إنما تنسحب على الكثير من الدول العربية، فالحالة السياسية كانت واحدة، مع بعض التفاوتات الشكلية البسيطة، والحالة الاجتماعية كذلك لم تختلف كثيرا بعناوينها الرئيسة، وإن وجدت بعض الاختلافات في العناوين الصغيرة من مجتمع لآخر، بيد أن هذه العناوين هي التي ستشكل خصوصية المنتج الإبداعي، على اعتبار أن عالمية المنتج الإبداعي تتأتى من خصوصية البيئة التي تنتجه، وهو ما اشتغلت عليه الروائية عائشة المحمود بشكل دقيق، فالمجتمع الكويتي، بعاداته وتراثه، بتفاصيل معماره على صعيد الناس والعمران، بأسواقه وأحيائه، يشكل عنصرا رئيسا من عناصر الرواية، وحاملا لا يمكن تجاوزه لمقولتها الجمالية والفكرية.
تتمحور أحداث الرواية حول شخصية «فيصل»، أصغر أبناء «غازي» من زوجته الأولى «مريم»، وشقيق عبد العزيز، وبدور، وشيخة، وهو الأخ غير الشقيق لـ»سها» من زوجة أبيه «أمينة»، وثمّة «لين» تلك الفتاة التي سيرتبط بها فيصل بعلاقة حب تمتد لسنوات قبل أن تختفي من عالمه، وهناك بعض الأصدقاء والأقارب.

فيصل.. أزمة الوعي العربي الجديد

يولد «فيصل» في (15 أيار/ مايو 1948)، وهو تاريخ نكبة فلسطين، وإعلان قيام دولة الاحتلال، وينشأ في بيئة صحراوية محلية تمثل نموذجا للبيئة الخليجية في ذلك الزمن، من جهة ارتباطها بالتراث والعادات، وتطلعها إلى مستقبل واعد وجديد من جهة أخرى. وبينما يذهب عبد العزيز للدراسة في مصر، يختار فيصل الدراسة في بيروت، حيث سيكون شاهدا على أحداثها المؤلمة خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي، وحيث سيلتقي بـ»لين»، تلك الفتاة التي ستربطه بها علاقة حب جامحة، قبل أن تختفي من حياته أثناء وجودهما في باريس، حيث كانت تقيم بمعية أهلها وهو من أصحاب النفوذ السياسي في لبنان، وحيث كان يقيم طالبا في مرحلة الدكتوراه.
يمثل «فيصل» نموذجا للمثقف، الذي يحاول أن يفعل شيئا في مواجهة الخسارات الجمعية التي تتكبدها الأمة، فينحاز لفكرة القومية والعروبة، وسيخلص لها، وسيظل مؤمنا بإمكانية تحقيق صحوة جمعية من شأنها أن تنشل الأمة العربية من ظلام الهزائم والجهل والتخلف. بعد فقدانه للين يعود فيصل إلى الكويت، وفي الوقت الذي يبدو فيه قد أعاد بناء روحه من جديد، بعد فقدانه الأمل بالالتقاء «لين» مجددا، نجد أحلامه وأفكاره تتحطم على صخرة الواقع، حيث تجتاح القوات العراقية الكويت، فتصيبه حالة من العجز الإنساني، غير أنه سرعان ما يتجاوزها، ويجتاز عتبة الاختناق صوب الفعل، وينخرط في مقاومة ارتجالية مع بعض الأصدقاء للقوات الغريبة، بعد أن يقرر أن يهب والده «رجلا تمناه طويلا».. وهنا، وفي هذه اللحظة الدرامية الملتهبة، لا تخبرنا الروائية أن فيصلا قد استشهد، غير إنها تقول ذلك بطريقة غير مباشرة، من خلال مشهد الختام في الرواية، وهو مشهد تتداخل فيه الذكريات المؤلمة والمبهجة، كل ذلك «وأنا أحاول الصمود، سائل قرمزي يثعب من ثوبي، وبرودة لزجة تلتصق بي، شيء يشبه الحلم يغور، وعيناي المتعبتان تقاومان الانغلاق، باستعسار مرّ… فيصل… فيصل». يمثل فيصل معادلا موضوعيا لأزمة الوعي العربي الجديد، خلال مرحلة النصف الثاني من القرن الماضي، من حيث الخروج من عباءة الموروث والانخراط في مجموعة من التحولات الفكرية، التي كانت تثبت فشلها دائما عند كل اختبار حقيقي، وفي النهاية عودته إلى المربع الأول، أملا ببدء جديد، قد يتحقق يوما ما، وهو ما تعززه تلك الحركة الدائرية للسرد في الرواية.

لين.. الحب أولا والحلم دائما

يتعرف فيصل إلى لين من خلال الجامعة، فهي المدرسة الجديدة، والشابة، والجذابة أيضا، وصاحبة فكر متحرر، وعلى الرغم من المشاعر الجامحة التي تبادلتها مع فيصل، عبر سنوات دراسته على اختلاف مراحلها، في بيروت وباريس، إلا أنها كانت تحرص على وجود مسافة بينهما، لذلك نما حبهما في السرّ، وهو الحب الذي ظلّ متأججا وجامحا، وظلّ ممكنا أيضا، غير أنه انتهى بطريقة مبهمة، بعد أن اختفت تماما من حياة فيصل، ولعله اختفاء مرتبط بعائلتها صاحبة النفوذ السياسي، والأحداث التي أعقبت قيام الحرب الأهلية في لبنان.
عموما، كانت لين حلما غير قابل لأن يعاش على أرض الواقع، وهو ما أكده «عبد العزيز» بعد معرفته بعلاقة شقيقه بها، وهي حقيقة كان فيصل يدركها بشكل أو بآخر، وكان يعرف أن لين، كحالة واقعية، أكبر من أن يحظى بها، بيد أنها كحالة حُلُمية كانت ممكنة، وهو ما يؤكده قوله: «كنتُ أرى أنني لا أستحق هذا الحب، كانت أكبر من أن تنتمي إليّ».. كانت لين عاملا أساسيا في التغيرات والتحولات التي طالت شخصية فيصل، على صعيد الممارسات اليومية على غرار شرب القهوة والتدخين، وعلى صعيد الفكر ونقاشاته والتحليق به في فضاء الحرية، وكما كانت حبّه الكبير، كانت حلمه الكبير، وكذلك بقيت.

عبد العزيز… الامتداد الطبيعي للجذور

في اليوم الذي ولد فيه «عبد العزيز» دوّن والده في دفتره الخاص: «هذا يوم جميل، للتو عقدت صفقة كبرى. إن قدوم عبد العزيز فاتحة الخير العميم»، وهكذا كان الربط بين اسم المولود، وعالم التجارة والأعمال، وهو ربط لن تنحل أواصره، وهو ما أراده الوالد غازي بداية، وعززه عبد العزيز تاليا، الذي كان نسخة مصغرة عن والده، من جهة الاهتمامات السياسية القومية، والرغبة في الاقتراب من محركات المشهد السياسي الداخلي، والتركيز على التجارة والمال.
كان عبد العزيز رجلا واقعيا تماما، على النقيض من شقيقه فيصل، فعندما علم بعلاقة شقيقه بلين سرعان ما رأى أنها علاقة غير قابلة للحياة، «قصدي إن علاقة بهالغرابة والتداخل مع بنت على هالدرجة من الانفتاح والحرية مو قابله إنها تتطور أبدا، شيء يعتبر مستحيل».
وهكذا تتطور شخصية عبد العزيز الذي «كان صالحا لأن يكون امتدادا لغازي، فهو يتطابق معه في كل شيء تقريبا». وهو امتداد طبيعي للجذر، بل وناجح أيضا من منظور واقعي في عوالم التجارة والمال خاصة، في حين لم تنجح الامتدادات الأخرى على أرض الواقع في شيء.

سها.. نموذج خارج رحم الحكاية

الشخصية التالية التي لا يمكن تجاوزها في الرواية هي «سها»، تلك الفتاة التي «كانت نموذجا خارج رحم الحكاية، ذلك النموذج النافر بملامحه الشكلية المغايرة وبملامحه الروحية الأكثر اختلافا ومناورة». وعلى الرغم من المحبة الشديدة التي حظيت بها سها من والدها صغيرةً، فإنها حظيت بعلاقة حادة جدا مع والدها في شبابها، كيف لا وهي لا تشبه الآخرين ولا تنساق مع المتوقع. وفي ظلال الوعي السياسي التي كانت تتمتع به سها حيال قضايا المنطقة، فقد وجد فيها فيصل تعويضا عن لين، فأغدق عليها من المحبة فالتصقت به كابنة له، وهكذا وجد فيصل نفسه «شريكا في جرم وعيها الذي أودى بها». ارتبطت سها بعلاقة مع شاب من الشام، هو «يامن»، وهي علاقة لم تجد سبيلا للنجاح سوى من خلال هروب «سها» وزواجهما في أمريكا. وبطبيعة الحال ستثير تلك الحادثة غضب الجميع، وستثير حفيظة فيصل نفسه، على الرغم من شعوره بشيء من النشوة بسبب نجاحها في ما فشل فيه: الحب.
الحدث الاجتماعي أولا والسياسي تاليا
تعالج الرواية تحولات اجتماعية مفصلية في المجتمعات العربية، في النصف الثاني من القرن الماضي، وفي ظلال هذه المعالجة تمرّ الرواية مرورا متأنيا بسلسلة من الأحداث التي كانت سببا مباشرا أو شبة مباشر في ما آلت إليه أحوال الناس في المنطقة العربية.
الحضور الأبرز في الرواية كان للحدث الشخصي أو الاجتماعي، وفي ظلاله كان يمرّ الحدث السياسي، حيث تتيح الروائية المجال لشخصيات الرواية للتعبير من مشاعرهم أمام الحدث بداية، كما تتيح للقارئ التعرف على تداعيات ذلك الحدث على شخصياتها، وهنا يتنقل القارئ بين سلسلة من الأحداث والوقائع السياسية بطريقة غير مباشرة.

النبش في الذاكرة.. مجددا

تعود الروائية عائشة المحمود في «عباءة غنيمة»، لتنبش الذاكرة العربية الجمعية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وهي عودة تحمل رسالة واضحة، مفادها أن العربي في الراهن المعيش لن يستطيع تحقيق عبور آمن إلى المستقبل من دون أن يحقق (جردة حساب) مع ذلك الماضي، تتيح له التخلص من عبء حمل أوزار وآثام وخيبات ذلك الماضي، فلا مجال في المستقبل لتلك الأحمال، لقد آن أوان التخلص منها، بعد استخلاص الدروس والعبر منها، ومن ثم بناء الذات المفردة والجمعية من جديد، والعبور إلى المستقبل. والحال كذلك، تُرى هل الإنسان في المجتمع العربي مؤهل لإجراء تلك الـ(جردة)؟ أما الإجابة فإن المؤلفة تتركها للقارئ، ونحن كذلك.

كاتب أردني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية