قبل بضعة أسابيع نشر الصحفي بن كسبيت تقريرا عن جلعاد شاليت يعتمد أغلب الظن على مادة موثوقة جيء فيها بالرواية الكاملة لشاليط كما نقلت الى محققيه في الجيش الاسرائيلي عن ملابسات سقوطه في الاسر وعن حياته في الاسر. وقد صدمتني النتيجة. انتظرت أن أرى اذا كانت الصحافة الرسمية ستعطي تعبيرا مناسبا عن المكتشفات المقلقة الناشئة عن التقرير، ولكن مؤامرة الصمت حلت بالاعلام الرسمي لدينا. ولما كان أمامنا موضوع مبدئي، فاني أطرح هنا اساس ما ورد في التقرير. لقد كان جلعاد نموذجا لـ ‘الرأس الصغير’ أو الاصح ‘رأس الدبوس’، الذي لم يستمع على الاطلاق الى الارشادات المفصلة التي اعطيت للمقاتلين عن الوضع وانتشار القوات في محيطه؛ وعندما هوجمت دبابته، ولكنها لم تتضرر، واثنان من الطاقم قفزا الى الخارج وقتلا، بقيت شاليط في الدبابة. قرر الا يقاتل مع أنه كان بوسعه أن يستخدم المدفع الذي كان الى جانبه دون أن يخرج رأسه. فقد انتظر الخير وأن ينتهي كل شيء. واحد من المخربين القى في الدبابة ثلاث قنابل يدوية (مما يدل على أنه لم تكن نية للاختطاف!) لم تلحق ضررا بشاليط، ولكنها أحدثت دخانا. والدخان هو الذي دفع شاليط الى الخروج دون سلاح. فقد أبقاه على أرضية الدبابة. خروجه فاجأ أحد المخربين الذي كان سلاحه ‘معلقا’ على ظهره. لو كان سلاحه في يده، لكان بوسع شاليط ان يقتله بسهولة شديدة، ولكن حتى هكذا، تماما الى جانبه كان مدفع خارجي للدبابة. ولكن شاليط لم يطلق النار، لم يفكر حتى باطلاقها. ‘لا تطلق النار، لا تطلق النار’، هتف بالعبرية نحو المخرب الذي بدأ ينقل سلاحه الى حالة النار. هكذا حصل الامر. شاليط لم يكن في صدمة معركة، لم يقاتل كذاك الجندي الذي يرى بان ذخيرته تنفد ولا معنى للقتال ويجب الاستسلام. هو ببساطة سلم نفسه واستسلم وأعطى لحماس الجائزة الكبرى التي لم يتوقعوها. من هذه اللحظة شاليط كله يستسلم للمخربين ويطيع كل ما يقولاه له. مكان أسره كان عمليا فندقا من ثلاث نجوم على النمط الغزي. لم يعذبوه، لم يجوعوه، لم يذوِ في قبو مظلم، يعاني ويتعذب. خمس سنوات ونصف السنة في الاسر ليست بالطبع بهجة كبرى، ولكن حسب كل ما هو معروف لي، فانها لا توازي يوم واحد في السجن السوري مثلا. رئيس أركاننا وصفه بالبطل، وشعب اسرائيل جعله صنما يُعبد، في زمن الاسر وبعده. أعتقد أن ” الاسرائيلية حول جلعاد شاليط هي مميزة وتعكس مرضا اجتماعيا جسيما. لماذا؟ توجد دوما ‘أصنام’ من أنواع مختلفة. توجد أصنام رياضية وثقافية واستعراضية؛ اسحق رابين اصبح صنما بعد اغتياله، واقاموا له تمثالا وصورة في كل مكان؛ نوحي دانكنر كان صنما؛ أبطال الماضي اصبحوا عندنا شخصيات صنمية مثل ترمبلدور ومئير هار تسيون، مع أساطير وقصص؛ شارون هو الاخر تحول بالتدريج من شخصية مشهر بها الى شخصية صنمية تغتفر كل خطاياها؛ الرئيس اوباما كان لزمن قصير صنما. نسجد لكل انواع هذه الاصنام ونعجب بها. ما يميز كل الاصنام هو أنها نموذجا يحتذى، نريد أن نكون مثلها، نريد ان نصل الى الانجازات التي وصلت اليها في مجالاتها. لدى جلعاد شاليط القصة مختلفة تماما. هذا صنم كاذب، بكل معنى الكلمة، لا يوجد أي مجال للاعجاب به. بل العكس، هذا نموذج سلبي فقط. كل التي نشأت حوله كانت في اساسها كذبا، ازدواجية واخفاء للحقيقة. ولا بد أن مؤمني الصنم جلعاد شاليط سيشتمون كل من يتجرأ على التشكيك فيه ولو بشائبة صغيرة. هذه طبيعة المؤمنين. ولكن حان الوقت للتوقف عن الكذب على أنفسنا. لوسائل الاعلام يوجد دور هام في تحطيم الصنم.