عمان ـ «القدس العربي»: يعلم الأردن أن إعلان عدم الرغبة في عودة «سفير إسرائيل» إلى عمان وسفير المملكة في تل أبيب، كان بكل الأحوال «مسألة وقت» فقط مرتبطة بـ «توقيت مناسب» يصبح معه «الإجراء» أقل كلفة دبلوماسياً وسياسياً من الذي يليه.
ما يريده الشارع الأردني اليوم ليس فقط «طرد سفير الكيان» واستدعاء الأردني فوراً، بل أكثر من ذلك بكثير. وقد وردت مطالب الشارع في «قائمة مطالب» ضمن وثيقة الإجماع الوطني، ومن بينها إلغاء اتفاقيتي الغاز والكهرباء، وحتى إلغاء معاهدة وادي عربة، ومصافحة فصائل المقاومة.
وما تريده السلطة مختلف بكل حال، لأن «تأخير» قرار «تجميد العمل بالسفارات» يحمي القرار السياسي الأردني من إجراءات تصعيدية أكبر وأكثر، ليس في ظل المزاج الشعبي الهادر والمحتد، ولكن أيضاً في ظل قناعة مؤسسة القرار الأردنية التامة بأن «الغطاء الأمريكي» الممنوح للعمليات العسكرية الإسرائيلية اليوم ضد المدنيين في قطاع غزة تخفق واشنطن في ضبطه، ويتلاعب بالوضع الداخلي في كل دول الجوار والاعتدال.
قبل نحو خمسة أيام كانت «القدس العربي» في جلسة مغلقة غير مخصصة للنشر، سمعت فيها مسؤولاً بارزاً يتحدث عن «دائرة واسعة من الاجتهاد والتصرف» وضعت بين يدي طاقم وزارة الخارجية لإقرار ما تراه مناسباً وفقاً لمسار الأحداث. لذلك حصراً، صدر القرار بطرد سفير واستدعاء الآخر بصيغة بيان بناء على «تعليمات وزير الخارجية».
الوزير نفسه أيمن الصفدي، كان يبلغ بعض الخبراء وأعضاء البرلمان بأن الموقف معقد للغاية، والاشتباك الدبلوماسي الأردني في ذروته، وفكرة تأجيل الإجراء الدبلوماسي الأخير هدفها فقط الحفاظ على «قناة» تلزم لإيصال المساعدات لأهالي قطاع غزة والضفة الغربية التي تعاني من «أزمة خبز وغذاء» بصيغة تطلبت توجيهات ملكية أردنية بإرسال شحنة كبيرة من القمح.
يعني ذلك أمنياً وسياسياً، أن عناصر مستجدة ظهرت ودفعت الخارجية الأردنية مساء الأربعاء لإعلان قرارها. وهنا تكمن تفاصيل «التقييم الأردني العميق للمشهد»؛ فقد رصدت عمان الثلاثاء «تصريحاً في منتهى العدائية» للناطق باسم ما يسمى مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، أعاد الحديث فيه عن «ممرات إنسانية» في قطاع غزة تسمح للأهالي بالمغادرة إلى سيناء المصرية مؤقتاً. وكان يرد على استفسار حول «استئجار قطعة أرض» في مصر لإقامة اللاجئين الجدد.
خفايا ليلة «طرد سفير واستدعاء آخر»
تجنب كيربي الذي استفز عمان، نفي ذلك فيما كان الوزير الأردني الأسبق الدكتور معن قطامين «يكشف المستور» في ترجمة حرفية مواتية ظرفياً للوثائق والمراسلات الصادرة عن الرئيس جو بايدن بخصوص «طلب المزيد من المال» لأغراض دعم إسرائيل. وفقاً لما كشفه للرأي العام الأردني الوزير القطامين، فقد تضمنت مراسلات بايدن عبارات محددة عن مليارات ستخصص حصراً لإقامة ودعم «ممرات إنسانية» و«لاجئين جدد» من أهالي قطاع غزة. تلك قراءة للمشهد ضربت كل الأعصاب المشدودة في الدولة العميقة ووزارة الخارجية الأردنية، وتبين أن الطاقم الأمريكي «يتلاعب» في ضمانات كانت قد صدرت لكل من مصر والأردن. تعليقات كيربي ومراسلات بايدن المالية تظهر بأن الطاقم الأمريكي يضرب تماماً عرض الحائط بكل «تحذيرات الأردن» وتحاول «شرعنة» عملية «تهجير قسرية» في غزة كانت القيادة الأردنية قد اعتبرتها علناً بمثابة تجاوز للخطوط الحمراء. وصرح الوزير الصفدي مرتين على الأقل بأن بلاده تعتبر أي مسعى للتهجير القسري بمثابة «إعلان حرب».
وعندما استفسر إعلاميون قيل لهم إن المقصود في الموقف الأردني ليس تهجيراً أو تحريكاً ديموغرافياً في الضفة الغربية، بل في غزة أيضاً، وقيل «تلك سابقة حساسة وخطيرة».
سياسياً وإعلامياً، أحرج كيربي المؤسسة الأردنية، وتجلت فرصة لكي يقول الأردن عشية استقباله الوزير أنتوني بلينكن، إنه «جاد جداً وللغاية» عندما يعتبر أي مرونة في مسألة التهجير القسري وصناعة «لاجئين جدد» بمثابة إعلان حرب على الأردن بصرف النظر عن نقاشات «ضعف أو اهتزاز» الجبهة المصرية في السياق.
لذلك، يعتقد ومن باب التحليل للوقائع والمستجدات، أن توجه عمان للأطراف الأمريكية وليس الإسرائيلية، «رسالة خاصة» سيسمعها بالتفصيل الوزير بلينكن عندما يحضر الجمعة إلى عمان وبلهجة أردنية حادة وغير معتادة.
القرار الأردني بطرد سفير واستدعاء آخر لا يتفاعل فقط مع الحدث أو يظهر الاحترام لاتجاهات ومطالب الشارع الأردني فقط، بل يبرز في «سياق متدرج» كما قال المذيع المعروف في التلفزيون الأردني أنس المجالي، من باب الإيحاء.
لكنه أيضاً قرار اتخذ في سياق فوضى الاحتمالات التي نثرها كيربي وهو يتلاعب بالكلمات، متحدثاً عن «جوهر الممرات الإنسانية» في قطاع غزة، والفكرة «الأردنية» حصراً هنا أن عمان في مسألة «أي تهجير» لن تصمت ولن توافق لا بل مستعدة -كما أبلغ مسؤول بارز «القدس العربي» مباشرة- للذهاب إلى مسافة لا يتوقعها الجميع، قد تصل حتى عند حواف «اتفاقيات وادي عربة وملحقاتها».
البيئة التي انطلق منها طاقم الخارجية الأردنية في التحرك والإجراء هي تلك التي صدرت أصلاً كتوجيه مرجعي تكلف به «كبار المسؤولين» مبكراً، ومن اللحظة الأولى التي اكتشف فيها الجميع أن القصف الوحشي للمدنيين ليس هدفه «تقويض حماس» بل تهجير أهل القطاع.
ذلك التوجيه تضمن العبارة التالية: «غير مسموح بظهور حالة خصومة في الثوابت والخطوط الحمراء مع الشعب الأردني» وفوق ذلك: «عندما يتعلق الأمر بمصالح الأردن العميقة، هنا لن يعود مهماً.. لا إسرائيل ولا المجتمع الدولي». بالخلاصة، إذا كان المعتدي المجرم بنيامين نتنياهو يقول بذلك، فلماذا يتوقع الأمريكيون ألا يقوله الأردنيون؟