لم أحظَ بمتابعة المقابلة الكاملة للفنان السوري عباس النوري قبل حذفها من موقع إذاعة المدينة إف إم، فكان عليّ الاكتفاء بالنقاط المثيرة للجدل التي أعادت نشرها مختلف وسائل الإعلام، وبالمقابلة الثانية التي جرت بعد أسبوع على الأولى وأرادت منها المحطة «ترميم العطب» الذي حصل على أمل التنصل من مسؤوليتها عما جاء في المقابلة المحذوفة. هذا ما حرمني من تتبع السياق الذي أوصل النوري إلى إبداء الرأي في مواضيع خطيرة، من وجهة نظر النظام الأسدي ومؤيديه، كحال الحريات والفساد في سوريا. ذلك أنه من المستبعد أن تكون محطة الإذاعة التي تبث من دمشق استضافت النوري ليتحدث في السياسة وينتقد النظام.
يبقى أن نتساءل عن دوافع الفنان السوري نفسه وراء هذه الاندفاعة الخطرة التي كلفته الكثير، فتعرض لهجوم مرعب، ومتوقع، من جمهور الموالين للنظام على وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك من هددوا برفع دعوى قضائية ضده بتهمة «الإساءة إلى مؤسسة الجيش» ومن هددوا صراحةً بقتله. الجواب الذي أعطاه النوري على هذا السؤال في المقابلة الثانية التي وصفت بـ«الاعتذارية» هو أن واجبه كفنان هو التعبير عن معاناة الناس، فهناك «احتقان شديد» في المجتمع السوري كما قال.
هو جواب غير مقنع تماماً، بالنظر إلى صمته عن كل ما حدث بحق السوريين طيلة السنوات الماضية، فما الذي جعله يعبر عن آرائه الآن؟ بل هناك إجماع لدى المعارضين السوريين للنظام على أنه «فنان موالٍ» على رغم ابتعاده عن إطلاق تصريحات سياسية موالية. ومن المحتمل أن السوريين الموالين أيضاً يشاركون في هذا الرأي، وارتدّوا عليه فقط حين أطلق تصريحاته التي فاجأتهم.
على أي حال، لا شيء يمنع أي شخص من تدارك ما فاته والإعلان عن آرائه حتى لو تأخر، فهذا يعود لحساباته الشخصية التي لا نعرف عنها شيئاً، وقد يكون السبب وراء «صحوة الضمير» المتأخرة أبسط مما قد نظن، مثلاً بلوغه السبعين من عمره وتجاوزه لمخاوفه المعتادة والمبررة من الثمن الذي سيدفعه من أمانه الشخصي، وربما ظن أن محبة الجمهور له كفنان قد تمنحه حصانة ما، أو أن النظام قد يتحمل جرعة صغيرة من النقد على أمل أن يساهم في امتصاص شيء من النقمة العامة على شروط الحياة التي لا تطاق.
الواقع أن النقد الذي عبر عنه في المقابلة، بعمومه، كان فعلاً مما يمكن أن يمر بسلام لولا أنه اندفع في نقطتين أو ثلاث. فكلامه العمومي والتاريخي عن دور «العسكر» في القضاء على الحياة الديمقراطية «والدستور والثقافة» ليس مما يمكن اعتباره استهدافاً للنظام أو «المؤسسة العسكرية» بل متعارف عليه في كل ما كتب عن تاريخ سوريا الحديث كما أوضح النوري في المقابلة الثانية، ولم يتطرق الرجل إلى دورها في الصراع الداخلي الدائر منذ أكثر من عشر سنوات كما اتهمه الموالون الغاضبون. أضف إلى ذلك أنه أذكى من أن يرى في الجيش السوري فاعلاً مستقلاً عن رأس النظام ليحمّله أي مسؤولية، وهذا ما منحه، في المقابلة الثانية المخصصة لـ«التوضيحات» هامشاً للمناورة في موضوع الاعتذار، فاعتذر من «الجنود المرابطين على حدود إدلب» وليس من الإرادة السياسية التي ساقتهم إلى هناك.
ربط النوري بين أولوية حرية التعبير والحوار المجتمعي و«تنوع التركيبة الاجتماعية للمجتمع السوري قومياً ودينياً وطائفياً»
«خطيئة» عباس النوري التي لا تغتفر من وجهة نظر الموالين هي مقارنته لحال الحريات في سوريا بغيرها من الدول العربية، وقد ورّطه المذيع فيها حين سأله عما إذا كانت حال الحريات في سوريا أسوأ حتى من دول الخليج مثلاً، فقال النوري: «نعم»! الجمهور الموالي لنظام الأسد الذي يعتبر دول الخليج معادية أصلاً وهي المسؤولة عن دمار سوريا، لا يمكنه أن يتقبل حتى مقارنة في مكافحة وباء كورونا لصالح تلك الدول بالقياس إلى سوريا، فما بالكم بمقارنة في حال الحريات، مع ان الجمهور نفسه سبق وأعلن عداءه الصريح لقيمة الحرية منذ أولى المظاهرات الاحتجاجية في ربيع العام 2011.
وخطيئته الثانية هي مقارنته بين مستوى دخل الفرد بين السوريين والفلسطينيين. ومع أن أحداً ممن هاجموا النوري لم يسعَ إلى تكذيب هذه الحقيقة، لكنهم أخذوا عليه أنه لم يأخذ «الظروف المختلفة بين الحالتين بعين الاعتبار». أما «خطيئته» الثالثة فقد تمثلت في تلميحه إلى سطو رفعت الأسد على المصرف المركزي السوري في العام 1984 مقابل رحيله إلى موسكو بعد فشل محاولته الانقلابية على أخيه حافظ الأسد، فقد قال النوري «هناك من شفطوا محتويات المصرف المركزي ولم ترفع ضدهم دعوى قضائية». فكان الرد على ادعائه هو بيان من المصرف المركزي يوضح أنه لا يمكن أن يخرج أي مبلغ منه إلا بصورة قانونية.
لا أتفق مع أولئك الذين بخسوا من تصريحات عباس النوري، فهي قد شكلت صدمة كبيرة في البيئة الموالية، صحيح أنها استثارت ردود فعل قاسية ولكن من المحتمل أنها تركت أثراً مهماً في تلك البيئة التي لا تخلو وسائل التواصل الاجتماعي من تعبيرات صريحة عن احتقانها فعلاً كما أشار النوري. وربما المهم في حديثه عن أوجاع الناس هو ربطها بشعارات الممانعة الجوفاء التي يواظب النظام على رفعها للتغطية على عجزه عن تلبية أبسط مقومات الحياة، ناهيكم عن استعادة سيطرته على كامل الأراضي السورية. كما ربط النوري بين أولوية حرية التعبير والحوار المجتمعي و«تنوع التركيبة الاجتماعية للمجتمع السوري قومياً ودينياً وطائفياً» كما قال، مع أن الإشارة إلى هذا التنوع هو من المحرمات لدى النظام، لكن جوقة مهاجمي الفنان لم تتوقف عندها.
لا بد في ختام هذه القراءة من تسجيل عدة نقاط مهمة في المقابلة الثانية:
أكد النوري أنه لم يخطئ ليحق عليه الاعتذار، وأنه مسؤول عما قاله في المقابلة الأولى.
كذلك حرص على إعلان تعاطفه مع زملائه الفنانين المعارضين الذين اضطروا للخروج من سوريا هرباً من قمع النظام، معلناً أنه عاجلاً أو آجلاً سيلتقي فنانو الداخل والخارج في إطار العمل معاً، وقال إنه على تواصل مع كثيرين منهم.
وفي معرض دفاعه عن «مشروعه الثقافي» لا السياسي قال إن «الثقافي عابر وزائل، بينما الثقافي باق ومتجذر» واضح أنه أراد أن يقول «السياسي زائل» ولكن ربما الرعب الرابض في أعماقه جعل لسانه يزل فيكرر «الثقافي» مرتين بلا قصد.
ومما يسجل للنوري في المقابلتين انه كان حريصاً على عدم انتقاد المعارضة، مع ان المعارضين أنفسهم لا يوفرونها من انتقاداتهم الحادة. فهو يدرك أن أي انتقاد من قبله، في هذه الشروط، سيحول كل نقده للسلطة إلى هباء. أخيراً، مرّر كلاماً خطيراً آخر لم يلفت نظر من هاجموه من ضفتي المعارضة والموالاة، ربما لأنهم لم يكملوا المقابلة الثانية إلى نهايتها. فقد ذكر من بين ردود الفعل الغاضبة التي استهدفته أن البعض هدده «بأربع طلقات في الظهر ليعلن عن انتحاره»! في إشارة إلى «انتحار» كل من محمود الزعبي وغازي كنعان بعدد من الطلقات!
كاتب سوري
عباس النوري هو ابن هذا النظام. ما قاله على موقع المدينة إف إم في المقابلة الأولى لم يكن «صحوة ضمير أو فشّة خلئ». على الأرجح أنه لا يوجد أعمال محلية يمكن أن يمثل فيها و أن تكفيه مصاريف الحياة. و لذلك ما قاله كان موجهاً لمنتجي المسلسلات العربية، الذين يأخذون موقفاً ضد التعاون مع الممثلين السوريين المؤيدين للنظام في انتاج المسلسلات. باختصار، الزلمة فقران و بدو يعيش.
كان يمكن للنظام أن يتغاضى عن أقوال أحد مؤيديه، و بالتالي لا يسمع كثر بما قاله. و لكن النظام بغبائه أجبر النوري على المقابلة الثانية التي «اعتذر أو وضّح» فيها ما قاله في الأولى. النظام فعلاً أراد مواليه أن يسمعوا المقابلتين كي لا يتجرأوا حتى على فشّة خلئ.
شكرًا أخي بكر صدقي. أعتقد أن اللوالبن تفرقع واخزًا تلو الأخر! ولنرى من هو البالون القادم الذي سينفجر. ربما بذل عباس النوري في الماضي قصارى جهده ليظهر بمظهر الإنسان الذي ينتني إلى النخبة وعليه أن بتقيد بمعايير عالية في كلامه وهذا دفع الكاتب إلى تقديم صورة منصفه عنه. لكن كما نرى الواقع أجبره على الكلام بغير مايريد فكانت العاقيبة مهينه! ولنرى الفصل القادم أو إلى يستحمل الناس وإلى متى يستطيع الناس السكوت وربما البعض بمارس الذات!