رحل أمس الأحد النائب السابق في مجلس الأمة الكويتي عبدالله النيباري، أحد مؤسسي وأمين عام المنبر الديمقراطي، وذلك عن عمر يناهز الـ 85 عامًا. هنا نص الشهادة التي قدمها الكاتب العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان والتي من المقرر أن تصدر في كتاب يتناول مسيرة النيباري.
” الكنز لا يكون صديقاً على الدوام، ولكن الصديق يكون كنزاً في كل الأحوال”
I
حين طلبت مني السيدة فريال الفريح عبر اتصال هاتفي مقالة أو شهادة عن زوجها الصديق الراحل عبدالله النيباري، وهي بصدد إصدار كتاب يوثّق سيرته وذكريات وشهادات بحقه، شكرتها في المرّة الأولى لأنها منحتني شرف التعبير عن الصداقة وصدق العلاقة ونزاهتها، وشكرتها مرّة ثانية لأنني سأسلط حزمة ضوء على دور النيباري الريادي الفكري والثقافي على الصعيدين الكويتي والعربي، ومساهمته المتميّزة في حركة التنوير من خلال دراسات وأبحاث وكتب ومواقف ومقالات ومقابلات في الصحافة والإعلام على مدى يزيد عن خمسة عقود من الزمان، وخصوصاً دوره في رئاسة تحرير جريدة الطليعة لأكثر من عقد ونصف من الزمان، وشكرتها مرّة ثالثة لأنني وجدتها فرصة لأتناول سجاياه الشخصية كما عرفته ولمسته من خلال علاقتي المباشرة به وبما تسمح به مساحة النشر؛
وأستطيع أن أشكرها مرة رابعة أيضاً، لأنني سوف أستعيد بعضاً من علاقتي بالكويت التي زرتها أول مرّة مع خالي المحامي والشاعر جليل شعبان، وذلك في العام 1965 حين كنّا في زيارة إلى البصرة، ومنها توجهنا ليومين إلى الكويت، والتقينا بموسى مشكور الشيوعي الذي كان يعمل كاتباً لدى جدي حمود شعبان في سوق التجار (خان شعبان – سوق المراديّة) ببغداد، واضطرّ إلى الهرب بعد الانقلاب الدموي الذي حصل في العام 1963، وهو من لفت انتباهنا إلى جريدة الطليعة (التقدمية)، وبدأتُ متابعتها منذ ذلك الحين كلّما تيسرت الظروف لذلك، والتي تعزّزت لاحقاً بالتعاون معها أو حين استضافتني قبل نحو عقد ونصف من الزمان في جلسة حوارية أدارها الشخصية الوطنية البارزة الدكتور أحمد الخطيب، أحد مؤسسي حركة القوميين العرب العام 1952.
وكانت زيارتي الثانية للكويت في العام 1966 حيث كنّا في سفرة جامعية إلى البصرة، ورافقني فيها نعمان شعبان، وفي المرّة الثالثة جئتها هارباً من الملاحقة العام 1970، ومنها توجهت إلى الشام فبيروت وصولاً إلى أوروبا؛ ثم كانت زيارتي الرابعة في العام 1974 حين توقفت فيها ليوم واحد، وأنا في طريقي إلى عدن للمشاركة في ندوة عن “ديمقراطية التعليم والإصلاح الجامعي”، وبعد انقطاع إجباري لسنوات عجاف، عدتُ إلى زيارة الكويت بعد العام 2003، حتى ضاع حساب عدد الزيارات معي، مشاركاً ومحاضراً في فعاليات وأنشطة وندوات ومؤتمرات عديدة، أكاديمية وثقافية وحقوقية وإعلامية.
II
لا أتذكّر متى تعرّفت على الصديق الصدوق عبدالله النيباري، لكن ما أعرفه أنني كنت على صلة به عبر جريدة الطليعة وتعزّزت علاقتنا خلال العقود الأربعة الماضية، ومن خلال الطليعة تعرفت على أسماء عديدة قبل أن ألتقيهم ويصبحوا أصدقاء أعزاء منهم د.أحمد الخطيب وجاسم القطامي، حيث عملنا في التسعينيات في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان وناصر العبد العال وسليمان العسكري، وتوسّعت دائرة معارفي وصداقاتي لتشمل نخبة لامعة من المثقفين الكويتيين في مقدمتهم د. محمد الرميحي ود. أحمد الربعي ود. سعاد الصباح ود. بدرية العوضي وعبد الرحمن الحمود ود. حامد حمود العجلان ود.شملان العيسى وآخرون.
وخلال العقود الأربعة الماضية، لم يمرّ عام إلّا والتقيت أكثر من مرّة بـ “عبدالله النيباري”، سواء في الكويت أو في البحرين أو في الإمارات أو في قطر أو في لندن أو في أكسفورد أو في القاهرة أو في الإسكندرية أو في الأردن أو في تونس أو في المغرب أو في بيروت، وكنّا نمنّي النفس باللقاء في بغداد، وقد حددنا موعداً لذلك، ومن ثم الذهاب إلى إربيل، لكن ظروفاً قاهرة وتطورات بالغة حالت دون ذلك، وهو ما جعلني مديناً له، وكنت آمل أن أوفي بديني، لكن كما يقال: “تخطّطون وتضحك الأقدار”.
III
اقترن اسم عبدالله النيباري بجريدة الطليعة التي تعتبر مدرسة حقيقية لمن يعرفها ولا يعرفها، وقد تأسست كمجلة مع استقلال الكويت في العام 1961 بطبعة أسبوعية، وكانت تمثّل لوناً متمايزاً عن لون الدولة، ولعمري يمكن اعتبارها أول مطبوع خليجي علني معارض يصدر بصورة قانونية مرخّص بها، وذلك دليل على وجود نفحة حريّة جنينية في دولة الكويت منذ بداياتها.
كان صدور أول عدد للطليعة في 22 حزيران (يونيو) العام 1962، وبعدها تحوّلت المجلة الأسبوعية إلى جريدة أسبوعية، واستمرت “الطليعة” طليعية طيلة نحو 54 عاماً حيث كانت تزيّن صدرها بمقالات ودراسات ومواقف على مدى عقود من الزمان، لعدد من خيرة المثقفين الكويتيين والعرب، وكانت صوتاً وطنياً مدافعاً عن الحرّيات وفضاء عروبياً مفتوحاً ومنبراً للتعبير عن القضية الفلسطينية، ولكنها اضطرت إلى التوقّف إثر صدور قرار محكمة التمييز القاضي بإغلاقها في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، حيث كان الصديق المفكر عبدالله النيباري آخر رئيس تحرير لها منذ العام 2000 حتى آخر عدد لها بتاريخ 23 آذار (مارس) 2016 حيث توقفت فعلياً.
والطليعة كما حدثني النيباري هي مشروع جماعي تآزر على تأسيسه نخبة من الوطنيين الكويتيين، ليس بهدف الربح، بل وضعوا نصب أعينهم التغيير والدفاع عن الحقوق والدعوة لتوسيع دائرة الحرّيات، ودعم النضال العربي، وقد صدرت باسم عبد الرزاق الخالد نيابة عن جماعة الطليعة ومنهم الصديق جاسم القطامي وسليمان المطوع وراشد التوحيد وسامي المنيس وعلي عبد الرحمن العمر، واقترن باسمها أبرز الرواد وفي مقدمتهم أحمد الخطيب وسامي المنيس وعبدالله السبيعي وعبدالله البعيجان وأحمد النفيسي وسليمان الحداد وعبد الرزاق الزيد الخالد، وكان الترخيص الرسمي في البداية قد صدر باسم عبد الرزاق الخالد، ثم انتقل بعد ذلك إلى سليمان الحداد ومنه إلى سامي المنيس وتوالى على رئاسة تحريرها الخالد والحداد والمنيس وأحمد النفيسي وعبدالله النيباري.
ويقول أحمد الديين (أمين عام الحركة التقدمية) الذي كان مديراً لتحريرها في العام 1992: إن من أبرز الصعوبات التي واجهتها في السنوات الأخيرة هي الوضع المالي والملاحقات والغرامات، وقد أوقفت عدة مرّات.
حين يستذكر النيباري مسيرته في الطليعة يشعر بزهو كبير، ولكنه يشعر بحزن عميق أيضاً حين يصل إلى المرحلة الأخيرة، يوم اضطرّت إلى التوقف، وقال لي كان علينا الحفاظ على هذا “الإرث الوطني” مشيراً إلى أنه من الصعوبة بمكان بالنسبة إليه شخصياً حيث عايش وساهم وكرّس جزءًا من حياته لخدمة رسالة الطليعة أن يودعها أو يشهد نهاية حياتها، فقد عاشها أملاً يوم كان شاباً، وعاش فيها يوم أصبح كهلاً، وعاش من أجلها حين صار شيخاً، وقد نضج معها بقدر ما ساهم هو وجيله في إنضاج رسالتها.
وأستطيع القول أن الطليعة امتازت بنبل المقاصد وشرف الغايات، مثلما عرفت صدق الوسيلة وواقعيتها، لاسيّما بإعلاء قيم الحرية والسلام والحوار والمساواة والأخوة الإنسانية، حيث أبرزت الدعوة إلى عروبة حضارية منفتحة ذات بُعدٍ إنساني، واتسمت مسيرتها بمهنية عالية وبلغة راقية وتطلّع إلى المدنية والتقدم، حيث تعاونت مجموعة من الشخصيات الوطنية، ومنهم نواب التيار الوطني في مجلس الأمة الأول، وتيار النادي الثقافي القومي، وحركة القوميين العرب وجيل شاب ترعرع في كنفها، في رسم خريطة طريقها الأولى.
وبتواضع جم يمضي النيباري في تقييم الطليعة بقوله: أجد صعوبة في تسجيل ما يمكن اعتباره مدحاً أو ثناءً لدور “الطليعة”، فذلك نوع من تزكية الذات، ويقتبس مقاطع من مقالة أحمد الديين حيث يقول …” فلم تكن مجرد صحيفة أسبوعية، إنما هي جزء من تاريخ الكويت السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والإعلامي، … ولم تكن شاهداً على هذا التاريخ يوثق أحداثه، بل كانت في حقيقة الأمر، صانعة لجزء من تاريخ الكويت وعنصراً مؤثراً في تطوره، وهي لسان حال الحركة الوطنية والديمقراطية الكويتية، وعلى نحو أدق، كانت أحد أهم مراكز تجمعات هذه الحركة الوطنية، خصوصاً في عقدي الستينيات والسبعينيات، شأنها شأن نادي الاستقلال”.
واتخذت الطليعة عدداً من المواقف المؤثرة منها: دورها المشهود في رفض اتفاقية المشاركة النفطية في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين، وصولاً إلى تأميم شركات النفط الأجنبية والسيطرة على القطاع النفطي، وهو الإنجاز الكبير الذي تحقق عام 1975، كما قادت معركة الدفاع عن الديمقراطية، خصوصاً تصديها لترسانة القوانين المقيّدة للحريات، مثلما كانت اللسان المعبِّر عن هموم الطبقة العاملة والفئات الشعبية والداعم الأول للحركة النقابية العمالية الكويتية عند انطلاقها في أوائل ستينيات القرن الماضي، كما كان لها دور في إبراز الحركة الطلابية الكويتية، ممثلة بالاتحاد الوطني لطلبة الكويت…”
وحملت الطليعة لواء القضية القومية العربية، سواء في قضية فلسطين ومقاومة الاحتلال الصهيوني، أم قضية الوحدة العربية، ودعمت حركات التحرّر الثورية في جنوبي اليمن وظفار وأرتيريا، وكشفت بتحليلات معمقة أسباب أزمة المناخ للأوراق المالية وخاضت معارك ضد الفساد ودافعت عن الدستور ولعبت دوراً مميزاً في الانتخابات الكويتية والتزمت خطاً وطنياً بعيداً عن الهوى التجاري، وعبّرت عن فكر حر وحيوي منقطع النظير.
لقد كانت الطليعة صوتاً مؤثراً في الكويت يدعو للتقدم والديمقراطية، وبالتأكيد فإن توقّفها عن الصدور ترك فراغاً كبيراً يتجاوز حدود غيابها كصحيفة،لأنها كانت إطاراً جامعاً مثلما هي داعية ومحرض ومنظم في الآن لتيار واسع من الحركة الوطنية، فضلاً عن كونه ملتقى الحوار. ومثلما اهتمت برشاقة الكلمة وأناقة الحرف وجمال المعنى والمبنى فقد اهتمت بالرسومات الكاريكاتيرية حيث كان للفنان الفلسطيني ناجي العلي وصاحبه “حنظلة” مكان مميز في صفحات جريدة الطليعة.
IV
لم أزر الكويت مرّة إلّا وكنت مدعوّا لدى النيباري، حيث يجمع خيرة المثقفين الكويتيين والعرب الذين يصادف وجودهم في الكويت في منزله العامر، ليبدأ النقاش من حيث انتهينا آخر مرّة، والأمر كان يتكرر عند جاسم القطامي ود. حامد الحمود العجلان وديوانيات العديد من الأصدقاء، ولا أريد أن أعدّدهم خشية نسيان أحبّة أعتز بهم، ولم يزر عبدالله النيباري لبنان مرّة إلّا ويتسابق معنا لدعوتنا، حتى قبل أن نعرف بوصوله، فيتّصل ليضمن تأمين الموعد وليجمعنا في منزله في بعبدا تحت عنوان “القادم يُزار”، وكم من مرّة عمل أكثر من مقلب لكي يقبل دعوتنا، لكنه يكون قد اتفق من وراء ظهرنا مع أصحاب العلاقة لإقناعهم أنه هو الذي دعانا وأننا ضيوف قادمون من الخارج. وكان يشعر بانتشاء غير عادي بكرمه دون إسراف وبذله دون ادعاء وعطائه دون تبجح.
أربع صفات كريمة إذا امتلكها المرء يكون في غاية الانسجام مع نفسه والمحيط ومع الاعتدال والعقلانية، وهي ما امتاز به عبدالله النيباري:
الأولى – كرمه اللّا محدود، وهو كرم أخلاقي بامتياز وتعبير عن حب العطاء وشعور خاص بالغبطة، تلك التي تعرفها من نبرته الهادئة وصوته الموحي بالخجل وعطائه السخي، وهو ما يذكرني بجلال الدين الرومي الذي يقول : “اخفض صوتك فالزهر ينبته المطر، لا الرعد”، وذلك دلالة على جمال روحه وصدق سريرته وطيبة نفسه.
الثانية – شجاعته الباهرة، والشجاعة دليل كرم أيضاً، وهي فعل خير، في حين أن الجبن فعل شرٍّ، والجبان شحيح وقنوط، حتى وإن امتلك مظاهر القوة.
الثالثة- المروءة الفائقة، وتلك إحدى مناقبه الإنسانية والاجتماعية، فلديه حس إنساني شفيف فهو ينتصر للمظلوم بعفوية ويدافع عن الحق ببساطة متناهية، ويتألم لأوضاع مثقفين ويحزن لأحزانهم، وهو يشاطرهم ويشاركهم ذلك، لأنه يشعر بضغط الظروف والأوضاع عليهم، بما فيها ظروف الغربة اللعينة.
الرابعة- رأيه المستقل، فقد كان صاحب وجهة نظر، يكافح وينافح عنها، وقد كنّا نتناغم أحياناً في بعض الفاعليات والأنشطة، وكثيراً ما كان يجادل ويعود للمجادلة حتى لو اتجهت الأغلبية نحو رأي آخر، فيظلّ هو مقتنعاً برأيه ومتمسّكاً به ويدافع عنه بحرارة وحماسة، لأنه ناجم عن تفكير ودراسة وتراكم معرفي واجتهاد يعتزّ به، وإنْ كان قد شعر بتبدّل بعض المعطيات فيستبدل رأيه بكل رحابة صدر، ولن يتردّد بذلك، وهو ما يعطيه شجاعة مضاعفة، فروحه توّاقة إلى الحقيقة والتغيير.
إن تلك السمات الشخصية تكوّنت وترسخت من خلال حوار وجدل وسجال حيث استقل بالرأي وحاول عرضه لإقناع الآخر، ولم يكن ينتظر الإجماع، الذي هو في الكثير من الأحيان مصطنع، بل دليل ثقافة شمولية ومصادرة لحق الاختلاف وإقصاء للتنوّع.
VI
بعد غزو قوات النظام العراقي السابق للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990، شعرت بحرج شديد، أخلاقي وإنساني، ناهيك عن حرج حقوقي وقانوني، فكيف سأواجه أصدقائي الكويتيين؟ فضلا عن دعاة حقوق الإنسان، وكما ذكرت في مطالعتي عن جاسم القطامي، فقد كان يتصل بي مساءً وفي وقت متأخر وهو يبكي ليقول لي: أهذه هي القومية العربية التي أفنينا حياتنا في الدفاع عنها؟ هكذا يحصل الأمر بين ليلة وضحاها، وماذا سأقول لأولادي وأحفادي؟
وبالطبع فقد كان موقفنا كما هو معروف إدانة عملية الغزو والمطالبة بسحب القوات فوراً ونزع الفتيل خشية من التهاب المنطقة ككل، الأمر الذي ستعود نتائجه بالضرر البليغ على شعوبنا ودولنا، خصوصاً وأن نيران الحرب العراقية – الإيرانية ظلّت مشتعلة لثماني سنوات بالكمال والتمام وقد أكلت فيها الأخضر واليابس، وهو ما حصل بالفعل، فقد تعرضت الكويت للتدمير والنهب، مثلما تم تدمير العراق وفرض حصار دولي استمر 12 عاماً طحن عظام العراقيين، وهو ما كان محرجاً لكل صاحب ضمير، أخلاقياً وإنسانياً، وكان العديد من أصدقائنا الكويتيين بغض النظر عمّا أصابهم بسبب الغزو وما تعرضوا له، ضد الحصار، ومن بينهم عبدالله النيباري الذي نظر إلى الحصار باعتباره فعل إبادة يتشارك فيها الطغيان الخارجي بالاستبداد الداخلي، ليموت الأطفال الأبرياء دون أي إحساس بالذنب.
وحين أهديته كتابي ” المحاكمة – المشهد المحذوف من دراما الخليج” (دار زايد، لندن ،1992) قال هذا ما نحتاجه من الأعماق لتجنيب الشعب العراقي المزيد من الكوارث والويلات والعذابات، تلك التي استمرت حتى بعد الاحتلال بفعل الموجة الطائفية – الإثنية ونظام المحاصصة البغيض.
أتذكر أننا كنّا في القاهرة العام 1999 في مؤتمر لتدريب إعلاميين وحقوقيين بطلب من اتحاد الصحافيين العرب وأمينه العام صلاح الدين حافظ. الإعلاميون على العمل الحقوقي، والحقوقيون على العمل الإعلامي، وكان جاسم القطامي يلقي كلمة باسم المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وحين وصل إلى فقرة خاصة بالحصار على العراق ووفاة 650 ألف طفلاً بكى، بل انتحب، ولم يستطع أن يكمل كلمته، فنهض من كان قرب المنصة، وهو الصديق ناصر العبد العال، فأكمل الكلمة وأصيبت القاعة بوجوم شديد.
في العام 1994 كنت قد اقترحت على أديب الجادر تأسيس جمعية صداقة عراقية – كويتية من مجموعة من المثقفين العراقيين والكويتيين، لكي نقول للعالم أجمع إن الذي جرى ويجري ليس باسمنا، وهدفها تعظيم الجوامع وتقليص الفوارق والبحث عن المشتركات الإنسانية وإبراز الجوانب الإيجابية في العلاقات التاريخية بين الشعبين الشقيقين، وقد عرضنا الفكرة في القاهرة على جاسم القطامي بحضور محمد فايق وزير الإعلام المصري الأسبق في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، فحبذها وتحمّس لها، وكان من أوائل الأسماء التي تم اختيارها من الكويتيين هي عبدالله النيباري، لكن تطورات الأوضاع والحساسيات القائمة آنذاك حالت دون ذلك، وتبقى الفكرة قائمة إذا توفرت لها الظروف المناسبة، وأجدها فرصة جديدة للدعوة اليوم لتأسيس جمعية للصداقة العراقية- الكويتية، بمبادرة من نخبة ثقافية غير رسمية لتعزيز العلاقات بجوانبها المختلفة.
V
كنّا قد تناقشنا مطوّلاً عن أسباب تراجع التيار القومي العربي التقدمي والتيار اليساري والماركسي، واتفقنا واختلفنا أحياناً، لكن ما هو مشترك كان الجامع، خصوصاً تراجع دور الآيديولوجيا على نطق عالمي وغياب الديمقراطية وعدم الإقرار بالتعددية والتنوّع والاعتراف بالآخر وبحق الاختلاف واحترام حقوق الإنسان، وهذه قضايا ذات طابع كوني، فقد قدمت الأنظمة الاشتراكية السابقة وأنظمة حركة التحرر الوطني العربية، بل والعالمية، القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحقوق الجماعية على قضايا الحقوق والحرّيات السياسية والمدنية والفردية، فحصلت اختلالات بنيوية، الأمر الذي هو بحاجة إلى مراجعة ونقد وتصويب، إضافة إلى أسباب أخرى.
وإذا كان هدف تحقيق العدالة الاجتماعية قاسماً مشتركاً أعظم، فإنه ينبغي أن يوضع في إطار منظومة متسقة ومتكاملة من الأهداف، إذ لا يمكن الوصول إليه دون إحراز الاستقلال السياسي وإنجاز الاستقلال الاقتصادي في ظل عملية تنمية مستدامة، ودون نظام حكم ديمقراطي وتعاون عربي من أبسط الأشكال حتى أرقاها وصولاً إلى الوحدة العربية، خصوصاً والعالم يعيش في ظل تجمعات دولية كبيرة، وهذه الأسس توفّر قاعدة مهمة للانبعاث الحضاري.
ولعلّ تلك الأهداف التي اجتمعت في “المشروع النهضوي العربي” ينبغي أن تؤخذ مجتمعة ككل متكامل لا يمكن فصل جزء عن الأجزاء الأخرى، وهي أشبه بمنطلقات نظرية ومرجعية فكرية تحتاج إلى أدوات وآليات صحيحة وسليمة وإلى حامل اجتماعي يقوم بالمهمة لكي يتحقق التغيير المنشود من خلال تراكم وتطور سلمي ومدني قد يستغرق زمناً طويلاً، لكن ولادته ستكون طبيعيةً ومعافاة، حيث فشلت الانقلابات العسكرية التي أرادت إحداث تغيير سريع بالقوة وأحياناً دون قناعة الناس فارتدّت البلدان التي حدثت فيها وتراجعت، الأمر الذي ضيّع فرصاً كبيرة للتطور التدرّجي طويل الأمد، وكان من نتاجها إقامة أنظمة شمولية استبدادية أوصلت البلاد إلى طريق مسدود.
وحسب النيباري فإن انهيار تلك الأنظمة وانتكاساتها قاد إلى صعود الاتجاهات المعتمدة على آليات السوق، خصوصاً وأن بلداننا تعتمد على الثروة النفطية والاقتصادات الريعية وأضيف: ومن الناحية السياسية قاد التعصّب إلى التطرف وهذا الأخير إلى العنف والإرهاب، في ظل موجة الإسلام السياسي وتفاقم النعرات الطائفية والمذهبية، خصوصاً وهي تحظى بتشجيع ودعم إقليمي ودولي.
واتفقنا عبدالله النيباري وأنا على أن هناك غياباً لمشروع عربي موحد ولو بحدّه الأدنى، سواء على صعيد رسمي أو حتى على صعيد شعبي، في حين هناك مشروع صهيوني توسعي إجلائي يستمر منذ قرن من الزمان، وخصوصاً بعد تأسيس “إسرائيل” العام 1948، وهناك مشروع إيراني آيديولوجي فارسي، مثلما هناك مشروع تركي آيديولوجي عثماني، وحتى لو تغلّفا بإطار ديني أو مذهبي، فإن أساسهما مشروع قومي لفرض الإرادة وإملاء النفوذ، في حين يغيب المشروع العربي، الموازي والموازن.
VI
عبدالله النيباري من مواليد العام 1936، حصل على شهادة (بكالوريوس) في الاقتصاد من الجامعة الأمريكية في القاهرة العام 1961 وعلى دبلوم من جامعة اكسفورد العام 1963 وتقلّد العديد من المناصب في بنك الكويت المركزي (مجلس النقد) وفي مجلس إدارة شركة النفط الوطنية (أميناً للسر) وفي إدارة التخطيط والاستكشاف بشركة النفط الوطنية (مديراً).
وساهم بتأسيس عدد من الجمعيات ذات النفع العام منها الجمعية الاقتصادية الكويتية وجمعية الخريجين والجمعية الكويتية للدفاع عن المال العام والجمعية الكويتية لحقوق الإنسان، وانتخب نائباً في البرلمان لخمس مرات 1971 و1975 و1992 و1996 و1999.
وخلال عمله وبسبب مواقفه في محاربة الفساد تعرّض لمحاولة اغتيال مع زوجته فريال الفريح (6 حزيران/يونيو/1997) وأصيب بجروح في كتفه الأيسر والفك السفلي وأصيبت زوجته بطلق ناري أسفل الكتف.
يبقى النيباري رمزاً وطنياً كويتياً ومثقفاً رؤيوياً تنويرياً عربياً، جمع الكلمة بالموقف والتنظير بالممارسة والهدف بالوسيلة، ومثلما كان في حياته الشخصية كريماً ومعطاءً، فإنه لم يقصّر طيلة حياته في العطاء على المستوى الوطني والعربي والإنساني، وأختم بالقول، كما يذهب إليه النفري: كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.
كاتب عراقي