عبده جبير… التجديد والاستغناء

في يوم الخميس التاسع من هذا الشهر نوفمبر/تشرين الثاني غادرنا الكاتب عبده جبير. عبده جبير من مواليد عام 1948 في مدينة إسنا التابعة لمحافظة الأقصر في الجنوب، تربى في بيت كانوا يسمونه بيت العلم، فوالده كان مدرسا في المعهد الأزهري في مدينة قنا. التحق هو بالمعهد الديني لكنه لم يكمل الدراسة هناك، وفعل ما فعله أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي، فغادر إلى القاهرة، حين انفجرت في روحه موهبة الكتابة القصصية.
لم يكن رحيله عن الدنيا سهلا بالنسبة لي، رغم أني أعرف منذ حوالي العام أنه يعاني من آلام كبيرة بعد عملية استئصال ورم في المخ. طالت أيام النقاهة لكن لم يكن من الموت بد. رغم تعدد الموتى ومفارقة الأحباء هذه الأيام، لم أستطع الاعتياد، خاصة أن كثيرا منهم لم تكن علاقتنا قاصرة على الحياة الثقافية. ظللت لشهور سابقة أُمنّي نفسي بلقاء عبده جبير في شقته في منطقة السيدة زينب في شارع المبتديان، وهي غير شقته القديمة في شارع جريدة السياسة القريب. لم تساعدني الظروف الصحية التي مررت بها، وما زلت في فترة نقاهتها، وهي الظروف التي جعلت تركي للبيت مرة واحدة تقريبا كل شهر، أنهي فيها بعض الإجراءات أو الأعمال الخاصة بحياتي، ودائما معي زوجتي فلم يعد المشي مستقلا عن السند متاحا لي. غير ذلك فأنا أعيش بين نهرين. نهر يتفجر بالذكرى ينتهي بقرار لمقابلة صديق ما، ثم ما يلبث نهر النسيان أن يجرفني، فلا أرى في العالم حولي غير ما أتابعه على السوشيال ميديا من أحداث سياسية أو غيرها، جعلت العالم جديرا بالانتحار. بين النهرين راحت الفرصة أن التقي بعبده جبير، وبدت المكالمات التليفونية القليلة بيننا عوضا ولو بسيطا. كنت أحلم بلقائه لا لأشد أزره، فيكفي مكالمة أو أكثر من كل منا للآخر، لكن ليعود إلى زمن كنا فيه نرى أنفسنا قادرين على تغيير العالم في السبعينيات من القرن الماضي والثمانينيات، حتى باعدت بيننا الحياة، إلا في لقاءات عابرة في مقهى البستان. كنت أعرف أن الذكريات سترتفع أمامي فقد كان عبده جبير من أوائل من قابلت بعد أن استقر بي المقام في القاهرة عام 1974، وقبلها في زياراتي القليلة، كانت شقته القديمة في شارع جريدة السياسة المجاور لدار الهلال والمتفرع من شارع المبتديان، هي بيتنا أنا وغيري من الكتاب والفنانين، شارع جريدة السياسة الوحيد الذي لا أنسى اسمه من شوارع منطقة السيدة زينب هو وشارع المبتديان. كان لي في المنطقة مكانان ارتاح إليهما لا تعوضهما أماكن أخرى. شقة عبده جبير في شارع جريدة السياسة، وشقة الكاتب عبد الله الطوخي وزوجته فتحية العسال في شارع المبتديان.
كان ذهابي إلى دار الهلال نهارا فتكون استراحتي في بيت عبد الله الطوخي وفتحية العسال. أما زيارتي لعبده جبير فقد كانت دائما في المساء. يطول بنا السهر ويمكن فيها أن أبيت أيضا إذا أحببت. السبب كان أني وهو والشاعر الروائي الراحل محمد ناجي والمغني الثوري عدلي فخري، الذي كان الصورة المقابلة للشيخ أمام، وكان الشاعر سمير عبد الباقي هو مؤلف أغانيه الرائعة دائما، وكانت كلها في مواجهة السادات وسياسته. كنا نحن الأربعة أعضاء في حزب شيوعي سري هو الحزب الشيوعي المصري ذلك الوقت.. لم تكن اللقاءات تتوقف على ما نقوم به في الحزب أو مناقشة ما نقرأه من كتب، لكن كانت تمتد بعد ذلك.

رحل عبده جبير فقامت حولي الذكريات التي كنت أعرف أنها ستحضر لو التقينا. هكذا في الحضور والغياب تحجب الدموع الفضاء يا عبده، وإلى لقاء قريب نعيد فيه سهراتنا مع الأحباء الغائبين.

لم يكن ذلك فقط، فقد كانت الشقة أيضا مجالا لبعض حفلات الشيخ أمام، وفيها كان يحضر الكثيرون من كتاب اليسار مثل نجيب شهاب الدين أو صلاح عيسى أو فؤاد قاعود أو محمود الورداني والكثير من الكتاب والسينمائيين والشعراء يطول ذكر أسمائهم، وكنا حريصين على أن نكون بينهم. امتدت الصداقة بيننا بعيدا عن العمل السري بالأحزاب بعد أن تركنا الحزب عام 1978 وتفرقنا في البلاد العربية، وأقسمنا معا أن نفتح الفرصة لموهبتنا في الإبداع. المهم بعيدا عن السياسة التي تجد الكثير منها عن ذلك الوقت في كتابي «الأيام الحلوة فقط» تزامنا في النشر القصصي، أنا وهو ومحمود الورداني ومحمد المنسي قنديل وجارالنبي الحلو ومحمد المخزنجي وسعيد الكفراوي وغيرنا، بعيدا عن القاهرة، فسمونا جيل السبعينيات في محاولة لتجسيد السور الذي أقامه كتاب الستينيات حول أنفسهم، وبذلوا كل جهودهم أن لا يدخله غيرهم، رغم أننا جميعا أبناء هزيمة 1967 وأبناء التجديد في الكتابة، وفينا من نشر بداياته عام 68 و69 مثلا لكنهم فعلوها، ولم أكن مؤمنا بذلك فما هي الأمة التي تنتج جيلا كل عشر سنوات. الأجيال تأتي مع الأحداث الكبرى. الفارق بيني وبين أصدقائي أني لم أكن أسكت، بل كنت أسخر علنا من بعض أعمالهم، وكتبت أكثر من مرة عنها وقتها، ما زاد بعض الستينين في العداء لي. لا أذكر من قال لي مرة ونحن على مقهي البستان، هل كان محمد المنسي قنديل، أم محمد المخزنجي، «أنت مافيش فايدة فيك يا إبراهيم. مش حتسكت». كان بقية الأصدقاء صامتين غير مهتمين مشغولين بالكتابة، وأنا أيضا كنت مشغولا بالكتابة مثلهم، لكن ماذا تفعل في الطبع الإسكندراني حين يغلب صاحبه. عبده جبير كان أيضا ممن يضيق بهذه التفرقة لكن كان لا يرددها.. ذات مرة خالفني على موقفي من هذا التقسيم، وتمر الأيام والسنين والتقي به في مقهى البستان فيقول لي «عندك حق» عرفت في ما بعد ما كتبه، وكيف لام الكاتب إبراهيم منصور عَرّاب الستينيات على غلق هذا الباب، والتقسيم الخاطئ بين الستينيات والسبعينيات، كيف اعتدى عليه إبراهيم منصور اعتداء حقيقيا في بيت الفنان التشكيلي وليم إسحق، وهو يقول له «سبعينيات إيه يا اولاد… مافيش غير الستينيات يا كلاب».
لكن الأهم ما فعله عبده جبير لهذا الجيل بلا أي صدى منهم، بذل جهده في إبراز أعمالهم حين عمل في جريدة «القاهرة» مع غالي شكري، وحين سافر إلى الكويت ليعمل هناك في صحيفة «القبس». ويوما في الثمانينيات أصدر منشورا ورقيا على طريقة الماستر يوزع باليد على نفقته، كانت فيه الحفاوة كبيرة بكتابات جيل الستينيات، وكنت كتبت فيه في أول عدد تقريبا مقالا عن رواية لمحمد البساطي، وبالمناسبة لم يكن البساطي يُظهر العداء لأحد بعده أو قبله أو معه. غاب عبده جبير عن النقاد، لكنه لم يغب عن الدراسات الجامعية، وكان يعيش على الاستغناء. بيته مفتوح لنا لكن سعيه كان للاستغناء عمليا، فاستطاع بعمله في الخارج أن يبني له بيتا ريفيا في قرية تونس في الفيوم سماه «زاد المسافر» كان يستخدمه كفندق لنازليه من الكتاب أو الفنانين. عاش فيه بعيدا عن كل شيء وواصل الكتابة غير منتظر شيئا، حتى عاد إلى القاهرة غير منقطع عن الفيوم. غابت عنه الجوائز لأنه لم يكن يتقدم لها ولا يطلب من ناشره أن يفعل ذلك، وغابت عنه جوائز الدولة التي لا يتقدم إليها الكاتب، ولم يتم ترشيحه من جهات هذا هو عملها. غابت عنه الجوائز هو المجدد الحقيقي وصاحب حوالي عشرين عملا بين القصص والروايات والسيرة، نشرتها منذ سنوات قريبة دار آفاق كلها تحت عنوان الأعمال الكاملة لعبده جبير.
رحل عبده جبير فقامت حولي الذكريات التي كنت أعرف أنها ستحضر لو التقينا. هكذا في الحضور والغياب تحجب الدموع الفضاء يا عبده، وإلى لقاء قريب نعيد فيه سهراتنا مع الأحباء الغائبين.

روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية