يسعى الأكاديمي والكاتب الفرنسي دومينيك كومبي في هذا النص، الذي نقدم ترجمته العربية إلى إعادة الاعتبار للأديب وعالم الاجتماع والأنثروبولوجيا المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي، والدور الذي اضطلعت به كشوفاته المعرفية في النظرية النقدية المعاصرة في أوروبا، والعالم الأنكلوسكسوني.
ويرصد الكاتب الذي يعمل أستاذا للنقد ونظرية الأدب في جامعتي باريس الثالثة وكوليج والهام التابع لجامعة أكسفورد البريطانية، معالم التأثير القوي الذي مارسه الخطيبي على الأبحاث والدراسات، التي اندرجت في ما أصبح يعرف بالنقد الثقافي، أو ما بعد الاستعماري، ونقد المركزية الثقافية للغرب، وتحديدا منذ مقالة الناقد الفرنسي رولان بارت الشهيرة «ما أدين به للخطيبي».
ولد الخطيبي عام 1938 في مدينة الجديدة وتوفي في الرباط عام 2009. عمل مديرا لمعهد علم الاجتماع منذ عام 1966 إلى حدود إغلاقه عام 1970 ثم أستاذا في جامعة محمد الخامس في الرباط، ومديرا للمعهد الجامعي للبحث العلمي. أصدر الراحل العديد من الأعمال الإبداعية والفكرية، ونذكر من بينها «الذاكرة الموشومة» «الاسم الشخصي الجريح» «صيف في استوكهولم» «المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية». «الرواية المغاربية» «المغرب المتعدد» «كتاب الدم» «عشق اللسانين» «حوارات مع جاك حسون» «فوميطو بلانكو أو الصهيونية والوعي الشقي» و«مفارقات الخطاب الصهيوني» «ثلاثية الرباط» «لسان الآخر» «الناسخ وظله».
النص
ينبغي التذكير بأن صيرورة تشكل وتبلور مفهوم الأحادية اللغوية للآخر، كانت طويلة ومعقدة. يبلور الكتاب الذي صدر عام 1996 مداخلة شفهية مفرطة في طولها، ألقيت في مؤتمر أصداء من هناك، الذي نظم في جامعة لويزيانا في الولايات المتحدة عام 1992. ترأس المؤتمر أدوارد غليسان، وكان التنظيم من لدن باتريك منصاح، ودافيد لويس وقد أهداهما جاك دريدا نص مداخلته. استعاد جاك دريدا في هذا المؤتمر العلمي المزدوج اللغة، الذي اتسم بتعدد تخصصاته ومشاربه، والذي خصص لقضايا الفرنكوفونية خارج فرنسا، بعض الفرضيات التي سبق له أن صاغها داخل جامعة السوربون أثناء مؤتمر نظمته كريستين لوسي غلوسمان، واحتضنه الكوليج الدولي للفلسفة. امتد تشكل الكتاب إذن على خمس عشرة سنةن واحتضن سياقات وفضاءات متعددة بدورها.
أسهم النصان اللذان كانا موضع شرح وتفسير في تجذير مسألة حضور اللغة داخل الأدب، باعتماد عنوان دال يتمثل في سياسة الصداقة. وقد واصل كتاب الأحادية اللغوية للآخر حواره بشكل حرفي ومجازي، مع الصديق المغربي عبد الكبير الخطيبي، الكاتب وعالم الاجتماع والأستاذ في جامعة محمد الخامس في الرباط الذي دأب جاك دريدا على التردد عليه وزيارته بانتظام منذ عام 1981 والذي كان حاضرا بدوره في هذا اللقاء، إلى جانب كتاب فرنكفونيين ينتمون إلى الفضاء ما بعد الاستعماري، وبالإضافة إلى غليسان الذي استشهد بكثرة بعمله الموسوم بـ«الخطاب الأنتيلي» فقد ساق جاك دريدا مقطعًا من نص «عشق اللسانين» للخطيبي الصادر عام 1983. ولم يكن غريبًا والحالة هذه أن يعاد إصدار الجزء الأول من أعمال الخطيبي عام 2008 عن دار لا ديفيرونس الباريسية التي تضم «الذاكرة الموشومة» و«عشق اللسانين» بمقدمة كتبها جاك دريدا: لا يمكن فصل ما يفعله الخطيبي باللغة الفرنسية، وما يسبغه عليها أقصد بصمته عليها عن تحليله للوضعية بمختلف أبعادها اللسانية والثقافية والدينية والأنثروبولوجية والسياسية. وأعتقد أن ما كتبه دريدا عن الخطيبي ينطبق عليه أيضا.
نشر رولان بارت مقالته الموسومة «ما أدين به لعبد الكبير الخطيبي»عام 1979. وقد أعيد نشرها بوصفها مقدمة الكتاب الخاص بأبحاث الخطيبي. ينبغي الإشارة أيضا إلى أن دريدا والخطيبي كانا مدينين لبعضهما بعضا. يتعلق الأمر بدين يشبه الترجمة كما يعرفها والتر بنيامين: متاهات بابل، ولا يسع أي واحد منهما الوفاء به.
عندما بلور دريدا تفكيره حول الوشم عام 1996 وهي الفكرة التي ستصاحب مشروعه الفكري في كليته، أو حين يفصح عن انجذابه المغناطيسي للغة، فإنه يتقاطع مع عبد الكبير الخطيبي، مؤلف «الذاكرة الموشومة» الصادر عام 1971 والاسم الشخصي الجريح 1974، الذي كان بحثا أنثروبولوجيا وسيميولوجيا خصص للكتابة والوشم في العالم العربي الإسلامي، أو في كراس فوميطو بلانكو أو الصهيونية والوعي الشقي. كان الخطيبي مبدع «شعرية الانجذاب» التي كانت بمثابة عنوان عريض احتضن كل إنتاجه الشعري، منذ مجموعته الشعرية الأولى الصادرة عام 1976 وعنوانها «المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية». ولا يضحى من المستهجن والحالة هذه أن نرى إلى كتاب «الأحادية اللغوية للآخر» باعتباره إبداعًا مشتركًا لدريدا والخطيبي.
يوظف جاك دريدا في كتابه «الاحادية اللغوية للآخر» ضمير المخاطب بطريقة إبداعية مدهشة، ويذكر بالاسم صديقه عبد الكبير الخطيبي، الذي يتقاسم معه مصيرا محددا، يتمثل في كونه فرنسيا مغاربيا. كان دريدا يقول بأنه فرنسي مغاربي أكثر من الخطيبي. وفي سياق الحوار الذي كان يجمع بينهما، كان الخطيبي ودريدا يؤسسان لعلاقة قوامها التنافس والندية، ونوع من الغيرة – سوف ترد هذه الكلمة غالبًا في ما يخص اللغة – على خلفية صداقة سمتها الانسجام والتفاهم. وفي هذا السياق يجري استدعاء اسم عبد الوهاب المؤدب وروايته «طاليسمانو» الذي علق عليها الخطيبي في مقالته الطويلة الواردة في الكتاب الخاص بالازدواجية اللغوية، الذي أعاد نشره وبلورته في كتاب «المغرب المتعدد» الصادر عام 1983 والذي سوف يعتمد عليه جاك دريدا في كتابه الصادر عام 1996.
«المغرب المتعدد»
ابتداء من سنة 1974 وصدور مقالته الشهيرة عن تخليص علم الاجتماع من التأثير الكولونيالي، التي ضمها إلى كتاب «المغرب المتعدد». سوف يستند الخطيبي إلى دريدا كي يسوق ضرورة تخليص الفكر من الاستعمار، وحتمية التفكيك في مواجهة محاولات التمركز المنطقي والتمركز الإثني. وقبل سنوات من صدور كتاب الاستشراق لأدوارد سعيد عام 1979، دعا الخطيبي إلى أن نتخلص في داخلنا من مركزية الثقافة الغربية، وان نظل بمنأى عن هذا المركز، وهذا الأصل الذي تمثله الثقافة الغربية. سوف يتواصل الحوار بين دريدا والخطيبي مع مرور الزمن، وعلى امتداد المقالات والمؤلفات، ومنذ الكتاب الجماعي عن «الازدواجية اللغوية» إلى كتاب «نقطة اللاعودة» وخلال مؤتمر سيريزي عام 1991 وإلى حدود كتاب «تنويعات حول الصداقة» الذي صدر ضمن سلسلة لو هيرن عام 2004 أو كتاب «جاك دريدا بالفعل» الذي صدر عام 2007 بعد ثلاث سنوات من رحيل الفيلسوف، وقبل سنتين من وفاة الخطيبي.
وفِي دراسته الرئيسة المخصصة لرواية «طاليسمانو» لعبد الوهاب المؤدب، يبين الخطيبي أن وضعية الكاتب الناطق بالعربية، والذي يكتب باللغة الفرنسية بدورها عصية على الاحتمال، بحكم كشفها عما يصفه ألبير ميمي بالاستلاب حيال الازدواجية اللغوية الاستعمارية.
سوف يرد الخطيبي على كتاب «الأحادية اللغوية للآخر» في الرسالة الرائعة التي وجهها إلى جاك دريدا، والتي صدرت عام 2004 في مجلة «أوروبا». سوف ينهض الحوار على الوضعية اللغوية لليهود والمسلمين داخل المغرب. ممنوع الدخول إلى اللغات العبرية والعربية والأمازيغية، ورمزيا اللغة الفرنسية. يعاني اليهودي الجزائري حسب دريدا من المنع الأصلي والمطلق من القول والتلفظ. يجري فرض المنع من القول، وهو ما يستتبع حتمية العيش داخل «الترجمة». يتم القذف به والحالة هذه داخل ترجمة مطلقة؛ لأنه لا سبيل أمامه إلا لغات استقبال.
يشدد الخطيبي على الفرق بين اليهودي الجزائري، ذي التعبير الفرنسي الذي حرمته حكومة فيشي من جنسيته واليهودي المغربي الذي لم يفقد جنسيته، أو جواز سفره المغربي. يمكننا أن نستدعي في هذا الصدد صورة أدمون عمران المليح الذي توفي عام 2010 الذي كان معارضًا شيوعيًا بمعيّة إبراهام السرفاتي، وكان معجبا بالكاتب الفرنسي جان جينيه ومبدع نصوص سردية سير ذاتية رائعة: «المطاف الجامد» 1980. «أيلان أو ليل الحكي» 1983 التي احتفت بالذاكرة اليهودية العربية للمغرب. يستشهد الخطيبي بمارسيل بروست، الذي كتب نصوصه الرائعة في ما يشبه لغة أجنبية. ويجلي الخطيبي بشكل خاص فكرة دريدا في ما يهم الاختلاف الحاصل بين الفرنسي المغاربي والكاتب المغاربي الفرنكفوني، بالاحتكام إلى تجربته الخاصة مع اللغة الفرنسية، بوصفها لغة كتابة لشاب مغربي مسلم، تلقى تكوينا مزدوجا داخل مدرسة مغربية فرنسية، إبان فترة الحماية أي الاستعمار. كانت هذه اللغة الصامتة تمسك بيدي بمنأى عن أي فقد للقدرة على الكلام أو للذاكرة».
وفي مقابل لغة استبدال أصلية وهو العنوان الفرعي لكتاب «الأحادية اللغوية للآخر» الذي يحل اللغة الفرنسية محل اللغة الأصلية، التي كان يفتقد إليها اليهودي الجزائري. يقترح الخطيبي مفهوم ازدواجية اللغة، الذي يوازي بين اللغة الفرنسية المكتوبة والعربية المنطوق بها. ووفق هذا المعنى لا يعود الأمر حسب الخطيبي متعلقًا بإحلال لغة محل اللغة الأم، وإنما بإحلال لغة كتابة في ازدواجية لا تصدق. يتعلق الأمر والحالة هذه بأن تتحدث بلغة وأن تكتب بأخرى.. يبدو هذا الفصل أكثر وضوحًا في ما يخص الحالة الجزائرية، حيث لم يتم اللجوء إلى هذا الاختيار في المغرب، إلا في المدارس الفرنسية، وكان الأمر مختلفا في المدارس المغربية الفرنسية.
لم يكن توظيف الازدواجية في كتاب «عشق اللسانين» للخطيبي الذي يكتب بالعربية والفرنسية، أقل إثارة للجدل وردود الفعل الانفعالية والعاطفية من مفهوم الأحادية اللغوية لليهودي المغاربي، عند جاك دريدا، إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار انعدام التكافؤ، وعلاقات القوة التي تتسم بانعدام العدالة وتساوي الفرص بين اللغات في سياق الوضعية الاستعمارية. وفِي دراسته الرئيسة المخصصة لرواية «طاليسمانو» لعبد الوهاب المؤدب، يبين الخطيبي أن وضعية الكاتب الناطق بالعربية، والذي يكتب باللغة الفرنسية بدورها عصية على الاحتمال، بحكم كشفها عما يصفه ألبير ميمي بالاستلاب حيال الازدواجية اللغوية الاستعمارية.
في كتابه صورة المستعمَر الذي قدم له جان بول سارتر عام 1957 ينعت الخطيبي التقابل بين الاستلاب واللااستلاب بالفصام. ولأنه ينسخ بالفرنسية اسمه الشخصي الذي جرى تحويره سلفا، فإن الكاتب الفرنكفوني يضحي عاجزًا عن امتلاك أي شيء؛ فهو لا يملك لا لغته الأم العصية على الكتابة، ولا اللغة المكتوبة المستلبة التي تم التخلي عنها، ولا تلكم اللغة التي اكتسبها عن طريق التعلم، والتي تومئ إليه كي يتخلص من كل شيء داخلها وأن يمحي في النهاية «الازدواجية اللغوية والأدب» التي نشرت مجددًا في «المغرب المتعدد». يعترض دريدا على الخطيبي بقوله: إنه في غياب القدرة على الكتابة بالعربية، فإن الكاتب المغربي يمتلك على الأقل دارجة محكية يعتبرها لغة أصلية. غير أننا نعرف أن الدارجة المغربية أو الأمازيغية في الجهات الناطقة بهذه اللغة في الجزائر تقوم بالخلط بين العربية والفرنسية، وهو ما يجعل الهوية اللغوية غير متسمة بالثبات.
في عام 1999 وفي دراسة معنونة بلغة الآخر وذات عنوان فرعي ذي نكهة دريدية: تمرين على صوغ شهادة يقيم الخطيبي الوصل بين الازدواجية اللغوية بوصفها الحديث بلغة والكتابة بأخرى وحال التمييز الذي ابتدعه مالارمي واستعاده موريس بلانشو بين الحالة الخام للكلام والحالة الأساس أو الرئيسة التي تميز الشعر. يبدو الفصل أو تقسيم اللغات ذا مظهر إبداعي لأنه يستبطن الشعر الذي سوف يبدع من ثم لغته الخاصة. وعلى أساس الأطروحة الرئيسة لكتاب «الأحادية اللغوية للآخر» يحول الخطيبي الكتابة بصرف النظر عن نوعها ولغتها إلى تجربة التخلص أو الحرمان من الامتلاك؛ حين أكتب فإنني أفعل ذلك بلغة الآخر. ذلك لأن هذه اللغة ليست ملكية خاصة.
عصب الحوار
يبقى الأدب والكتابة بصرف النظر عن المغرب والجزائر والشرق بمختلف جغرافياته، عصب الحوار بين جاك دريدا وعبد الكبير الخطيبي. فبمعزل عن الحمولة السيرذاتية للتفكير الفرداني، فإن دريدا يجعل من الطابع الكوني للكتابة الرهان الرئيس لكتاب الأحادية اللغوية للآخر. لا يتعلق الأمر فقط بالكاتب المغاربي أو الفرنسي المغاربي، أو أيضا بالكاتب الفرنسي أو الفرنكفوني حسب موضوع مؤتمر عام 1992. فانطلاقا من فرادة وضعيته أو مصيره الذي يعتبره نموذجيا من وجهة نظر كونية فإن دريدا يفكر في وضعية أي كاتب حيال اللغة كما يلي: لا يمكن للغة الأم الأصلية أن تكون طبيعية بشكل خالص أو شخصية أو قابلة لأن نقيم داخلها. ولأنه يستحيل وجود هوية خاصة للغة ما فإن المحصلة ليست سوى انعدام وجود حرفي لأي لغة، أو لسان أو لهجة، واستنادا إلى الاستلاب الأصلي لكل اللغات، يصبح من الضروري والواجب الكتابة من داخل اللغة وإبداع لغتك الخاصة في أفق استشراف اللغة المطلقة. يتصادى دريدا مع والتر بنيامين وتصوره حول اللغة الخالصة، الذي يستلهم بدوره أزمة الأبيات الشعرية لستيفان ملارمي. ولأن هذا الأخير يستنتج تعدد اللهجات، فإنه يؤكد من ثم وجود لغات. ويمكن لجاك دريدا أن يعيد صوغ عبارة مارسيل بروست الشهيرة: لا يمكننا أن نكتب لا بلغتنا الأصلية أو بلغة أجنبية. ولا يمكن للكاتب أن يكون حسب دريدا والخطيبي إلا «غريبًا محترفًا».
كاتب مغربي ـ كاتب فرنسي
مقال رصين وترجمة محكمة
منذ مايزيد عن السنة تقريبا وأنا أطالع ما بحوزتي وما أحصله من إنتاجات هذا الرجل المقتدر،
إن ما أقامه وما حاول تشييده جيل الستينات ليبقى حجر الزاوية الأساس، لكل مشروع مجتمعي جاد ومسؤول؛ تغيرت أمور كثيرة [بتعبير العروي في آخر محاضرة صوتية مسجلةله: لقد تغيرت حتى أنفسنا] ويبقى الكائن المغربي يتيم الفكر إلى أن يولد من يلبس الدرع كاملة.