■ يُعنى الباحث العراقي عبد الله إبراهيم بسرديات التأليف والتخيّل، بوصفهما لعبته الأثيرة والماكرة في تأطير سرديات التاريخ، وفي أنسنة وجود الكائن داخل تلك السرديات، عبر صيغ مخاتلة التاريخ، أو وضع كتابة السيرة أو الاعتراف أو التدوين، أو الإشهار في نسقٍ تشتبك فيها (الذات الساردة) مع الذات (الكاذبة) وعبر إجراءات تمثيلية يدرك أهميتها الكاتب وهو يقوم بتأليف تلك السرديات، وفي التعبير عن حمولاتها الرمزية أو السياسية أو حتى الأيديولوجية.
في كتابه السيري «أمواج» الصادر عن جامعة حمد بن خليفة/ الدوحة/ 2018 تتبدى لعبة التأليف أكثر وضوحا من خلال سردنة السيرة، السيرة بوصفها التاريخي والواقعي واليومي، أو في بوصفها الاعترافي، ولنجد أنفسنا أمام نمط كتابي يدفعنا نحو قراءة التاريخ من خلال السيرة، أو قراءة الزمن الثقافي والزمن السياسي في العراق خلال عقود ما قبل 2003، والتعرّف على حيوات عاشها الباحث من خلال بنية سردية مؤّطرة بإحكام التمثيل السردي، وبزمنية الأحداث التي استغرقتها تجربته الذاتية في المكان الواقعي/ مكان النشأة والوجود والخبرة والتحوّل، وفي المكان المتحرك/ مكان الهجرة والعمل والبحث عن الحلم. توصيف المكان له دلالاته الرمزية في فعل التحول، فالقرية قد تشبه في سردتها الوصفية كلّ القرى التي قرأناها في تجارب طه حسين، ومحمد شكري، لكنه كان يكتب سيرة وجده فيها، بوصفه كائنها القلِق، والباحث عن حلم ما، وعن شغف البحث عن لحظة أخرى لوجوده ولتحوله.
كتاب «أمواج» ليس سرديات مهاجر، أو لاجئ بمعنى ما طرحته حنا أرندت، بل هي سرديات مثقف يسعى لكتابة مختلفة لسيرته العراقية، عبر طريقة حافظ فيها على فعل السرد بوصفه فعلا خطابيا وتواصليا، ومادة حكائية ترصد حركة الطفولة والفقد، مثلما رصد فيها حساسية وعيه الشغوف بالتمرد على المكان، والذاكرة، والرغبة العميقة في التجاوز والمغايرة والبحث عن الذات.
السيرة والاعتراف
اهتمام عبد الله إبراهيم بالتمثيل السردي والتخيّلي للتاريخ، جعلته يميل للانخراط في كتابة السيرة، وكأنها جزءٌ من هذا الاهتمام، والذي يعني ممارسة فعل النقد، والمراجعة، وتفكيك الهوية، إذ وجدنا أنفسنا كقرّاء أمام سيرة تتميز بفعل البطولة- كما هو عادة سرد الاعتراف – مثلما هو حضور خطاب الوعي الحاد في مراجعة الماضي ونقده، وربما التعالي عليه ضمنا، بما فيه نقد التاريخ والماضي، لاسيما صورة المكان، وطبيعة الجماعة الثقافية، فضلا عن ماضي السلطة/ الاستبداد في المكان أو عبر صور الاحتلال والصراع الأهلي، وكذلك مراجعة الذاكرة الثقافية عبر الوقوف عند محطات مهمة، نشأ معها الكاتب في مدينة كركوك وفي مدينة بغداد، وفي البصرة، وكذلك في المهجر، وهي محطات يراها من منظور البطل، وعبر مهارته في كتابة سيرة لها مستوياتها التمثيلية المحفزة على التحول، والمتجوهر حول فكرة إعلاء الذات الرائية – الذات المفكرة والمتمردة على قلقها وخوفها.
لقد عمد الكاتب/ مؤلف السيرة إلى الذهاب إلى سرديات ما هو خاص وعام، وإلى علاقة هذه السيرة بتاريخ المكان والعائلة والجماعة والجامعة والمهجر، وإلى كشف علاقتها بالتاريخ، أو بوجهة نظره للتاريخ، عبر كثير من الصراحة، وعبر نقد بعض حمولاتها الرمزية والقيمية، وإلى الانحياز لوعيٍ، أو إلى تاريخ لم يتخلّص من السرد، بوصف السيرة خطابا تمثيليا لفكرة الاعتراف، تلك التي استدعى من خلالها تاريخ المكان والزمن والشخصيات والأحداث، لكن بنبرة من يوارب في هذا الاعتراف، عبر مركزة تجربته الذاتية كتجربة ثقافية لها خصوصيتها في تمثيل تحولات جيل ثقافي صدمته الحرب والاستبداد والعنف والمنافي، وهو ما أعطى لهذه السيرة خصوصيتها، وفاعليتها في تقريب السردنة الشخصية للوقائع واليوميات، على حساب (مركزية الحقيقة) إذ لا توجد سيرة ذاتية تكتب عن الحقيقة الخاصة، بقدر ما أنها تستجلي حياة ما، لها صخبها وتخيلاتها وأكاذيبها وأقنعتها، وأن قيمة السرد فيها يكمن في مهارة الكاتب على شحن هذه القيمة بالفعل، وبالخصوصية التي تجعله يكتب عن الحياة كما هي في وعيه، وليس كما هي في التاريخ، وبما يجعل تأليف السيرة وكأنها نوع من اللعب بالسحر، وعبر تقانته السردية الماكرة في استعادة العالم والذاكرة، لكن عبر موشور الوعي الذي يلعب في إعادة صياغة تلك الاستعادة «زرعت في نفسي فكرة أن حقب الحياة كأمواج تتدافع ثم تتلاشى، فهي تنبثق من عمق اليم، وتتبدّد على سواحله، وكان لذلك مفعول السحر في نفسي».
عنونة «الأمواج» هي عتبة توصيفية لفعل سردي، وليس واقعيا بالكامل، إذ إن حركة الـ(أمواج) الإحدى عشرة تمور بين العلو والاختفاء، ليصطنع عبرها المؤلف مجالا تمثيليا أراد من خلاله أن يمارس فصاحته وشجاعته في الحفر في ذاكرته
عنونة «الأمواج» هي عتبة توصيفية لفعل سردي، وليس واقعيا بالكامل، إذ إن حركة الـ(أمواج) الإحدى عشرة تمور بين العلو والاختفاء، ليصطنع عبرها المؤلف مجالا تمثيليا أراد من خلاله أن يمارس فصاحته وشجاعته في الحفر في ذاكرته، وأن يمارس مهارته في الإبانة عن سردنة ما يعترف به، فالحديث عن الطفولة، وعن الجماعة الأولى والمدرسة، وعن علاقة المفارقة بالأب، وعلاقته الحميمة بالأم تكشف عن ذاته القلقة، وعن عالمه الأكثر قلقا، وعن جذوة الوعي المبكّر وهي تدفعه للتساؤل، وللبحث عما يشبه الخلاص، وحتى علاقته بجماعة كركوك الأولى والثانية، لم تكن سوى لحظة وعي مدهوش، أو لحظة شهادة على فكرة ما يتأسس في المدينة، بوصفها المركز، والقوة، والسيرورة، التي أسهمت في صناعة وعي مفارق للمكان، وللجماعة، التي لا يجمعها الفقر والهامش، بقدر ما يجمعها الوعي والحوار، والشغف بالحياة.
تجربة الاعتراف في السرد الفردي، هي محاولة لاستكناه ما يحمله هذه السرد من شجون تجمع بين القسوة والرغبة والتمرد، والتوق إلى حياة أخرى، لها ظروفها، ولها أفقها، ولها رغباتها الفاضحة، والتي تؤشر تشظيا في بنية الوعي الطفلي، ونزوعا نحو الوعي المهووس بالمغايرة، لاسيما في سياق علاقته بالأنثى، إذ ظلت تلك العلاقة محكومة بقلق، وخوف بدءا من علاقته بالأم، وانتهاء بعلاقته بالنساء الأخريات، وهو ما يندفع بها نحو منطقة تعويضية (القراءة + الكتابة + المرأة) بوصفها منطقة تجاوز للفتى الريفي الخجول، الباحث عن ذاته المُكتشفَة من خلال ذلك الثلاثي.
الاعتراف وشهوة انتهاك اللغة
ما بين(بيضة الريح) و(عصر الغشماء) تبدو الشيفرة السيميائية لـ»أمواج» الكاتب وكأنها لعبة اعتراف توسمها اللغة بالإثارة، ويكسبها السرد بعدا يزاوج بين التاريخ والذاكرة وكتابة نصٍ يستدعي القراءة، بوصفه سيرة، أو بوصفه اعترافا ، أو بوصفه نصا أدبيا يتقصى من خلاله المؤلف أسفاره في الحياة، في مكان النشأة، أو الوعي، أو الرغبة، أو في مكان التحوّل الأنطولوجي، فما بين الطفولة، والتجربة تتبدى حياة أخرى، ترسم لنا أفقا للوجود وللسرد أيضا، الذي يتجوهر حول فكرة التحول، والرغبة العميقة في انتهاك السكون، والمكان من خلال اللغة، بوصفها الفعل التعبيري، أو الفعل السايكولوجي للذات المعترِفة، أو الذات المُحفَزة، فهي مجال استعاري واسع لمواجهة ذاكرة القسوة – الأب، الحرب، وللتعويض عن الفقد، وللإغواء في البحث عن الذات، وعن الرغبة الجامحة لاكتشاف العالم، وللانخراط في ممارسات وجماعات ثقافية، وحتى لاختيار المهجر في سياقه كتحوّل في الحياة. تحرير الذات المُعتَرِفة من الماضي والتاريخ، هو ما جعلها ذاتا تميل للاعتراف، عبر ما تملك من رغبة حميمة لممارسة هذا الطقس، أو عبر ما تملكه من وعي في نقد التاريخ والماضي ذاتهما، بما فيها نقد المكان، واستجلاء حمولته الرمزية، والتعريف بحيواته العميقة، فالحديث عن المدينة، هو الحديث عن تنوعها القومي والطائفي، وعن قوة الحياة التي تسكنها، والتي كانت تعبّر عن حيويتها مجموعة من المثقفين، وشهادته عن الحروب الكبيرة والصراعات التي اخترقت تلك المدينة كانت في جوهرها علامة على تفكك روح تلك المدينة، وغياب سحرها الثقافي، فالجماعات الثقافية غابت ليحضر بعضها عبر جماعات لغوية، أو عبر جماعات عصابية.
سردنة الاعتراف في هذا الكتابة ليس بعيدا عن القصدية، فرغم أن الكاتب أشار إلى وجود وثائق السيرة، وأن زمن كتابتها الذي استغرق خمس عشرة سنة، إلّا أنه وضعنا أمام كتاب سيري يُقرأ بوصفه نصا سرديا، تتخفف واقعيته ووثائقيته عبر اللغة الشعرية، أو عبر مهارة الكاتب في أن يكتب سيرة تصلح للقراءة، مثلما تصلح وثيقة للبحث في تاريخ الأمكنة والشخصيات، أو في التعرّف على طبائع التحول الغرائبي في الزمن السياسي والزمن الثقافي العراقي خلال نصف قرن.
٭ كاتب عراقي
لكن ما لم يقله عبد الله إبراهيم ، أهم مما قاله.فهو لم يقل كيف أوصلته الأيدلوجية التي قفز فوقها الى القبول الجامعي ثم الى الدكتوراه ، فوضع ( الحبر الابيض ) على الحقيقة لتفادي الغرق بالأمواج.والسرد اذا لم يكن صادقا تحول الى ( مثرودة ). لا تسمن
ولا تغني من جوع..