انماز كتّاب القصة القصيرة في العراق في أربعينيات القرن العشرين بتوجههم نحو تطبيقات تيار الوعي وتقنياته في السرد وتفننوا في توظيفه بطريقة جلية؛ بيد أن واحدا منهم وهو القاص عبد الله نيازي اختلف عنهم في عملية التوظيف، معتمدا نهجا لا معتادا فهمه بعض النقاد أنه رومانسية تشوبها البدائية والسذاجة الفكرية تارة، وعدم الفقه بمقومات فن القصة القصيرة تارة أخرى. وقد وضع عبد الإله أحمد هذا القاص الذي ينتمي إلى الحقبة الخمسينية في خانة الأدب الرومانسي، مع إقراره بأن الخمسينيات شهدت اضمحلال هذا الأدب.
ولن نغالي إذا قلنا إن وراء هذا التصنيف لقصص عبد الله نيازي مزاجية قرائية وزوغان عن الدقة والموضوعية، من دلائلها ما طرحه عبد الإله أحمد من آراء وكالاتي:
ـ إن نيازي لم ينضج ثقافيا ومنابعه الثقافية محدودة واتجاهاته محافظة ولم يكن لديه وعي عميق يمكنه من استكشاف الواقع والتعرف على قوانينه، مع أن عطاء هذا القاص متميز في مرحلته الزمنية التي أنجز فيها ـ ما بين الأعوام 1949 و1971 ـ روايتين هما «نهاية حب» 1949 و«أناهيد» 1953 وخمس مجموعات قصصية هي «همس الأيام» و«شجن طائر» و«بقايا ضباب» و«أعياد» و«الهمس المذعور».
ـ التذبذب في الرأي في قول عبد الإله أحمد أن يكون القاص ذا نزعة إنشائية تبتعد بلغته عن أن تكون لغة قصصية في أي حال من الأحوال مع مضمون يدور حول الحب في الأكثر وثورة ونقمة على القوانين الجائرة والعادات المتخلفة، التي تجهز على أحلام الشباب وآمالهم واستدراكه الذي فيه يفند رأيه السابق حول ضعف القصة عند نيازي مثبتا العكس مستخلصا أن للقاص ثقافة مستمدة من الأدب المصري الحديث والتراث، مقلدا أساليب كبار الأدباء المصريين، في مقدمتهم طه حسين. والسؤال هنا هل مرجعية في هذا المستوى تتناسب مع أوصاف البدائية والسذاجة والإنشائية؟ وإذا كان الجواب موجبا، فسيكون أدب المصريين القصصي هو الآخر موصوفا بهذه الأوصاف.
التذبذب في الرأي في قول عبد الإله أحمد أن يكون القاص ذا نزعة إنشائية تبتعد بلغته عن أن تكون لغة قصصية في أي حال من الأحوال مع مضمون يدور حول الحب .
ـ إن القصة القصيرة عند هذا القاص لا تستحق الوقوف مكتفيا برواية «أناهيد» التي سينتهي فيها إلى نتيجة سلبية أيضا، وهي أن فيها الكثير من العيوب الفنية وأن «شأنها شأن قصص القاص الأخرى التي نشرها قبلها لا قيمة فنية لها، وما كان لها أن تذكر في تاريخ الأدب القصصي في العراق.. لولا أنها تنتهج اتجاها أدبيا تمثل أعمال هذا القاص جانبا من واقعه»، وهنا نتساءل إذا كان هذا هو حال الرواية، فلماذا إذن وقف عندها وعدّها مختلفة عن القصة القصيرة؟ ثم إذا كانت التجربة القصصية عند عبد الله نيازي لا تستحق النقد فلماذا انشغل عبد الإله أحمد بتقسيم تجربته إلى ثلاث مراحل، مرحلة رومانسية خالصة ومرحلة واقعية ومرحلة وجودية؟ مع أننا نرى أن هذا القاص يمتلك أدوات منابعها أوروبية مكنته من تجريب مناح تعدت كتابة القصة إلى نقدها.
ـ لا يكتفي عبد الإله أحمد بوسم هذا القاص بالرومانسية، وإنه كان يتغنى بالطبيعة غناء عاشق لجمالها وإنه كان يعالج مواضيع سياسية معالجة مباشرة؛ بل يضيف إلى ذلك الأخذ والتقليد، فحين يذكر أن النهاية في قصـــة «وجـــه القمر» لصالح سلمان التي تقوم على ضياع درهم البطل، هي النهايـــة نفســـها التي تتكرر عند أكثر من قاص، وكأن صالح سلمان هـــو صاحب السبق في ذلك، وأن الأسماء المذيل لها في الهامش وهم عبد الله نيازي في قصته «الدرهم» وأنور محمود سامي في قصته «الأمنية التي تحققت» وسنان سعيد في قصته «خمسين فلس» هم المقلدون، لكننا إذا تحققنا من سنوات النشر، فسيتبين لنا أن عبد الله هو السابق، لأن قصته منشورة عام 1953 بينما نشرت قصة سامي عام 1954 وقصة صالح سلمان عام 1956 (فهرست القصة : 155ج2 ).
من هذه الآراء يتبين لنا أن مزاجية القراءة هي التي تجعل المنقود مغبونا إما بموالاة أدب على أدب أو بالاحتفاء بقاص على حساب قاص، وإلا لماذا يصر عبد الإله أحمد على الإطاحة بقصص نيازي، مصمما على مقارنته بغيره من القصاصين «في مجموعته (أعياد) 1963 قدر أكبر من الفنية لكنها لا ترقى إلى قص الخمسينيات عند نوري ونزار سليم وشاكر خصباك وغانم الدباغ ومهدي عيسى الصقر وغائب طعمة فرمان». علما أن تجربة نيازي تختلف بخصوصيات فنية معينة عن تجارب هؤلاء القصاصين.
وإذا ما أردنا أن نعلل أسباب المزاجية فكثيرة، منها الإحساس بالمنافسة بسبب ما قدمه هذا القاص من استيعاب لواقع القصة، من خلال مقال نقدي نشره في مجلة «الآداب» اللبنانية العدد الثاني سنة التاسعة عام 1961 وعنوانه «مأساة الأديب في العراق» ومنها أيضا ما عرف به نيازي من وعي نقدي جعله يضع في تقديمه لمجموعته القصصية «شجن طائر» رؤى نقدية حول القص وفنياته محاولا الارتفاع على هذه الفنيات، متملصا منها بالتجريب، مؤكدا على «أن قصصه انعكاسات نفسية ليس مطلوبا منه أن يقيد نفسه بالشروط والقوانين».
وقد وضع عبد الله نيازي لنفسه تصورا خاصا لأسلوب تيار الوعي يتلخص في جعل تكنيك التداعي الحر في القصة القصيرة مقرونا بالمعادل الموضوعي، مانحا السارد العليم مزيدا من التوغل في دواخل الحيوات القصصية، محملا ما حولها من موجودات دلالات رمزية مكثفة. وما كان لنيازي تحقيق هذا الاقتران بين التداعي الحر والمعادل الموضوعي، لولا إعجابه بالتداعي الحر كمونولوجات ومناجاة ومونتاجات، واهتمامه الخاص بالتكثيف في الفعل السردي إلى أقصى حدوده الرمزية، موفقا بين التكثيف والتداعي، مظهرا المحتوى الذهني للشخصية مقرونا بشيء معين، بمعنى أنه حين ينقل العملية الذهنية من الشخصية مباشرة إلى القارئ فإنه يعطي لشيء ما كأن يكون عقرب الساعة أو خطوات القدم أو وقع المطر حضورا دراميا، يرافق تلك العملية الذهنية. وإذا كانت الشخصية ثابتة في المكان متحركة الوعي في الزمان، فإن هناك موضوعا ما ينشغل به السارد أيضا. وهذه التوفيقية أعطت لقصص نيازي القصيرة ميزة فنية على المستويين الشكلي والمضموني، فأما على مستوى الشكل فإنها جعلت لكل قصة من قصصه تركيزا شيئيا يكرر ذكره السارد بقصدية جعله معادلا موضوعيا للتأزم النفسي للشخصية التي تتداعى مشاعرها بحرية. وأما على مستوى المضمون فإن التوفيقية ستتمثل في التضاد بين التلميح الذي يحققه توظيف المعادل الموضوعي والمكاشفة التي يقتضيها التداعي الحر، لتنعكس في النهاية على شكل مفارقات ساخرة، تحفل بمحمول دلالي معين.
إذا كانت الشخصية ثابتة في المكان متحركة الوعي في الزمان، فإن هناك موضوعا ما ينشغل به السارد أيضا. وهذه التوفيقية أعطت لقصص نيازي القصيرة ميزة فنية على المستويين الشكلي والمضموني.
وهذا ما نجده في قصة «قلق» المنشورة عام 1955 في مجلة «الأديب» العدد الخامس عشر، وفيها تتأزم الزوجة أم نزار وهي تنتظر قدوم زوجها، ويستعمل السارد الاسترجاع الكلي مستبطنا دواخل الشخصية بطريقة التداعي الحر، مزامنا في الآن نفسه المونولوج بدقات الساعة وحركة عقاربها عند الساعة العاشرة، كمعادل موضوعي للتداعي الحر الذي ينتاب الشخصية القلقة بسبب غياب زوجها عن البيت، مترقبة قدومه كل لحظة، «وغاضها أن العقارب لا تتمهل بل تدور بسرعة كما لو أن يدا خفية تحركها إلى الإمام فها هو ذا العقرب الكبير يشير إلى الربع بعد العاشرة وجاسم لم يأت بعد»، كما يصبح وقع الخطوات معادلا موضوعيا لأزمة أم نزار، فيتكرر ذكر الخطوات «وسمعت وقع خطوات/ إنها تعرف خطوات جاسم / واقتربت الخطوات من باب حجرتها» وتطرق رأسها تساؤلات تعبر عن اضطرام نفسي تعيشه الشخصية مع الوقت. والمفارقة في نهاية القصة غير متوقعة لأن ما كان يقلقها لم يكن له داع فالزوج لم يخرج من الدار أصلا، وبذلك تنفرج أزمة الشخصية، لكن رمزية القصة تظل قائمة بدلائل منها دلالة القلق الأنثوي الذي يجعل المرأة صريعة الأوهام أكثر من الرجل، ومن الدلائل أيضا أن الوقت عدو شرس لا يمكن إيقافه. ويكون الدينار في قصة «الفرحة الكبرى» القصـــيرة المنشورة في مجلة «الأديب» العدد الرابع عــــام 1956، معادلا موضوعيا للموظف المتأزم برتابة العمل الوظيفـــــي اليومي، ويتفاقم تأزمه حين تنتابه رغبة شراء كتاب وليس معه إلا دينار عليه أن يدفع به فاتورة الكــــهربـــاء، وهنا تتداعى التساؤلات وكأن الروتين قدر لا سبيل لتغييره، وتكون المفارقة في النهـــاية ساخرة يتضاد فيها الشعوران الندم على عدم شراء الكتاب والفرح بالعلاوة الوظيفية.
وتغدو سلسلة الباب معادلا موضوعيا للتأزم النفسي في قصة «درهـــم» المنشورة في العدد الثامن من مجلة «الأديب» عام 1956، فالطـــفل شوقي متأزم لأن أخاه جاسم لا يرغب باصطحابه معه إلى دولاب العـــيد، وجاسم متأزم لأن شوقي لا يملك الدرهم الذي به يستطيع الخروج من الدار، وتكون سلسلة الباب هي المعادل الموضوعي لشعورهما إزاء بعضهما. فجاسم متوتر ينعكس توتره على السلسلة، وتشارك السلسلة شوقي فرحته وهو يتلقى الدرهم من والدته «تاركا وراءه السلسلة تضرب الباب ضربات سريعة وكأنها كانت تشاركه غبطة ودهشته وتحثه على الإسراع في العدو» ويغوص السارد في ذهن الطفل ناقلا لنا حركة شفتيه وصوته وهو يرى نفسه شيئا كبيرا بالنسبة إلى حشد الناس الهائل، ظانا أن أحدا منهم لا يملك عشرة فلوس، أما هو فلديه درهم، محتارا كيف ينفق الدرهم، والمفارقة أن الطفل يعود إلى الدار ومعه الدرهم الذي سيجده قد ضاع منه.
بهذا يتوكد لنا وعي القاص عبد الله نيازي بالتكنيك مدركا كيف يجمع قصر القصة بالثراء الفني، ليكون القاص واسع المعرفة من جهة ومتقنا استعمالات المونولوج الداخلي من جهة أخرى.
٭ كاتبة عراقية
لنادية الهناوي كل شكري
لما أنصفت من شعر ونثر