ما سأكتب عنه الآن هو نقطة لغوية، لا علاقة لها بالإيمان والدين قط.
التقيت في شيكاغو شخصاً يهودياً يجيد العربية أفضل من سبعين في المئة من العرب، هذا الشخص كان مستشاراً لأحد عظماء حكام العالم العربي، ثم أنهى أعماله هناك، برغبته، حسبما ادعى، ولأنه يهتم بالأدب العربي، فقد انغمرنا بنقاش متشعب، طال بضع ساعات، إثر اجتماع لاتحاد كتاب الولايات الوسطى، الذي يعقد مرة كل شهر، في شيكاغو، وكان فرحاً للعثور على من يبادله الحديث بالعربية، أما أهم ما قاله، إنه يحترم النبي محمداً، على الرغم من كونه لم يجد أي رجل في السلطة في بضع دول عربية يحترمه، لا بل يسيئون إليه بمناسبة وغير مناسبة، خاصة عندما يشربون، ولم يجد هو تفسيراً لذلك، وأحسست في صوته نوعاً من المرارة حيناً، والتشفي حيناً آخر، ثم سألني حين عرف أنني كتبت كما كبيرا من الكتب العربية، وأضعت ستة عقود في دراسة العربية وتدريسها، والكتابة بها، إن كنت أستطيع أن أذكر له مثلاً، يتكلم بحياد وبدون تعصب، يدفعني لاحترام محمد كباحث متعمق باللغة، ومدقق نظري له فلسفة خاصة في تقويم اللغة العربية، بعيداً عن القرآن، لأن القرآن لم يعد بنظره دليل معرفة، خاصة أن هناك من يهاجمه ويهاجم محتواه كل لحظة، كرجل الدين أحمد القباني، وغيره.
قلت له إن نظر إلى الأمر بحياد إنسان يريد أن يستفيد فسأذكر له مثلاً لم أقرأه، ولم يصل إليّ عن طريق الكتب التعليمية، مثلاً اكتشفته بدراساتي، ووضعته في كتاب لم ينشر بعد عن «النحو العربي» . قلت له أيضاً إن اكتشافي لهذا المثل أشبه بمعجزة من يجد إبرة في تل قش، وطلبت منه أن يسجل كل كلمة، وأن يفكر قبل أن يجيب. وبينت له إنني وربما أكون مخطئاً أنظر إلى جميع الناس بالتساوي، لا أفضل هذا على ذاك، ولا أغمز هذا ولا ذاك، ولا أفرق بين نبي ومخترع وعامل وفيلسوف، بل أزن ما قالوه فقط.
إن أهم ما جاء به محمد من الناحية اللغوية هو تركيزه على الاختصار الشديد، واستغلاله له، في دراسة العربية، فقد أدرك أن أهم ميزة للعربية أمام اللغات الأخرى هي دمج الكلمة من فعل واسم وحرف بالضمير، ما يجعل التعبير بالعربية مختصراً بشكل لا مثيل له في اللغات المعروفة في زمانه، وتلك نقطة مهمة تحتاج إلى توضيح مفصّل وكبير، فعندما أريد ترجمة جملة، تتكون من كلمتين بالعربية فقط إلى الإنكليزية مثلاً:
التقيت طالبتي
أقول بالإنكليزية إن كان اللقاء مصادفة:
I ran into a female student of mine
وإن كان اللقاء معدا له، أي في اتفاق بيننا، أقول:
I met with a female student of mine
هذا إن كانت طالبة واحدة، أما إن كانتا طالبتين فأضع في هذه الحالة شدّة على الياء فقط، فهذه الشدّة تعني التثنية، وتغني عن كلمة طالبة، أي أن الشدة تعادل هنا كلمة كاملة:
التقيت طالبتيّ.
فالكلمتان في العربية أصبحت ثماني كلمات بالإنكليزية. وهذا اختصار هائل، في التعبير العربي، وهنا تأتي عبقريّة محمد، لأنه كان، أول من لاحظه، وهذا يدل على أن محمدا، ليس بليغاً عارفاً بلغته، بل هو يعرف لغات أخرى، وأنه قارن بينها في التعبير، فاكتشف اختصار العربية، يقول في حديثه المشهور: أوتيتُ جَوامِع الكَلِم واخْتُصِر لي الكلام اختصاراً، يعني أنني وهبت الحد الأعلى في البلاغة العربية، أولاً، وأنني اعتمدت على لغة خاصتها الرئيسة هي اختصار التعبير المنشود إلى أقصى حد.
هذا الحديث لم يلتفت له أي عالم لغوي، أي نحوي، أي موسوعي في التراث، أي باحث حديث أو قديم، ولم يعن بتفسيره أي عربي على كثرة من كتب في البلاغة والشعر والنثر، ومضت ثمانية قرون كاملة، وهذه الجوهرة مدفونة في ركام الإهمال، حتى جاء عبقري فريد هو ابن خلدون فالتقط هذه المعجزة من تحت الركام، ونفض عنها الأتربة ثم قدم شرحها للناس.
وأهمية الحديث الآن تفوق أهميته في العصور السابقة، لأننا الآن نواجه لغات لا حد لها، ولا نعرف بضاعتنا إلّا حينما نقارنها بما عند الناس كالمثال الذي ضربته من قبل.
وكان محمّد ( صلّى الله عليه وسلّم ) أيضًا متواضعًا ….
“التقيت في شيكاغو شخصاً يهودياً يجيد العربية أفضل من سبعين في المئة من العرب، هذا الشخص كان مستشاراً لأحد عظماء حكام العالم العربي… “الملاحظة الأولى وهي ملاحظة من حيث الشكل ما هي الوسيلة المُعتمدة للجزم أن هذا الشخص يعرف العربية أحسن من 70 في 100 وليس 80 أو 89.99 .. الملاحظة الثانية و هي تتعلق بالمضمون أو المحتوى : هل هناك عظيم بين الحكام العرب في الخمسين سنة ..رجاء دُلونا عليه …لا تستهينوا بذكاء الشعوب هناك حكام معتدلون مُطبعون يبحثون عن التوريث ..لا يفرقون بين مقومات الوطن وحساباتهم البنكية .. أمّا غير هذا فلا يوجد ولم يوجد …