الفلسطينية عبلة عوض لم تتجاوز سنواتها الخمس عندما عاشت النكبة الأولى في العام 1948 عندما هاجمت عصابة إرهابية من عصابات الصهاينة منزلها وطردوها منه واحتلوه لتلجأ مع عائلتها وتسكن خيمة على تخوم غزة.
اليوم وقد تجاوزت الثمانين حولا تشهد نكبة ثانية في غزة لتعود وتسكن مرة أخرى خيمة مع ما تبقى من عائلتها بعد أن أجبرها صهاينة جيش الاحتلال اليوم على الهجرة إلى جنوب غزة مع مئات الألوف من الفلسطينيين الذين دمرت منازلهم وسويت بالأرض وقتل الآلاف منهم بقصف وحشي وبربري من قبل دولة الاحتلال.
واضطرت عبلة الهرب من مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة بعد القصف الجوي الهمجي لدولة الاحتلال، ولجأت مع أعضاء مختلف الأجيال من عائلتها إلى مدينة الخيام في خان يونس، وما بين النكبة الأولى، والنكبة الثانية قضت حياتها بين الحروب والتشرد المرير والمصير المجهول.
نكبة العرب الأولى
الطفلة عبلة لم تع في نكبة العرب الأولى أنها ستفقد بيتها، وحيها، وأترابها، وأقاربها الذين تشردوا في بقاع متباعدة من الأراضي العربية المجاورة. عبلة في سنها لم تفهم لماذا تشردت، ولماذا يقتل الفلسطينيون، ولماذا تحتل أراضيهم.
قالوا لها في طريق التشرد: إنها مجرد بضعة من أيام ثم نعود، هكذا وعد زعماء العرب الأشاوس الذين خسرت جيوشهم الحرب على أبواب القدس مع عصابات الهاغانا والأورغون والشتيرن الصهيونية الإرهابية المدعومة من الجيش البريطاني المحتل.
رأت عبلة أمها تدس مفتاحا كبيرا في جيب فستانها المطرز، كان مفتاح بيتها الذي كانت تعتقد أنها ستعود إليه بعد عدة من أيام أخر، هذا المفتاح الذي علاه الصدأ منذ النكبة الأولى حملته عبلة اليوم ودسته في جيب فستانها في طريقها إلى خان يونس فهذا كل ما تبقى لها من ورثة أبيها، ولم تفقد الأمل يوما بالعودة إلى بيتها. عبلة ابنة السنوات الخمس لم تكن تعي أن بريطانيا وعدت الصهاينة بإنشاء “وطن قومي يهودي” في فلسطين، وأن أحدهم سيأتي يوما من أواسط أوروبا، أو من روسيا، أو من بلد بعيد وقريب ليحتل بيتها ويطردها مع أهلها، وتحمل مفتاحه معها أنى حلت في حلها وترحالها، وربما حمله أحد أبنائها من بعدها فهو مفتاح العودة التي لا بد منها مهما طال الزمن.
خان يونس
قالت عبلة وهي تفترش الأرض الرملية خارج خيمتها في خان يونس:” إن ما تشهده الآن يشبه ما حدث في النكبة التي شهدتها منذ خمس وسبعين سنة.
وأضافت “التنتين (الاثنتين) زي بعض،”أيه عملنا فيهم (ماذا صنعنا لهم) كل كام سنة يعملونا نكبات… متنا من الجوع، متنا من العطش، ما في حاجة ناكلها، أرحمونا… ليش (لماذا) بيعملوا فينا هيك طردونا من بلادنا وجينا ع غزة وين بيودونا؟ على البحر؟”
قالت عبلة وصوتها يتهدج بالبكاء “تعبت، والله ما أنا قادرة وأنا أحكي، تعبت ما قادرة والله زهقت يارب، والله زهقت يا رب من ها العيشة، زهقنا يارب، أرحمنا يا رب، التفتوا إلينا يا هاي الدول أرحمونا، جعانين… شردونا من دورنا، شردونا من بلادنا وودونا ع غزة”.
عبلة المستنجدة بزعماء العرب خاب ظنها كما خاب ظن الفلسطينيين، وكل الشعوب العربية بهؤلاء الزعماء الذين مارسوا وتمرسوا على الصمت، على مدار السنين الخمس والسبعين.
القمة العربية ــ الإسلامية
انعقاد القمة العربية ـ الإسلامية التي جمعت سبعا وخمسين دولة مؤخرا اعتقد البعض أنها ستخرج بقرار حازم جازم ضد الهجمة البربرية الصهيونية ونجدة إخوانهم الفلسطينيين، لكن سبعا وخمسين دولة لم تستطع أن تقدم شيئا سوى الصمت وبيان هزيل لم يقدم أو يؤخر مثقال ذرة في ميزان القوى الإقليمية والدولية، بل أن الهجمة البربرية لدولة الصهاينة ازدادت شراسة وإجراما وإيغالا بالدم الفلسطيني، حتى اللجنة المنبثقة عنه بدأت جولتها السياحية من بكين بتصريح لم يختلف عن بيان القمة.
عبلة الصبية شهدت جيش الاحتلال يجتاح غزة في حرب “نكسة” 67، وشهدت أيضا انسحابه منها بعد اتفاقية أوسلو (غزة أريحا أولا)، ولكن ها هو يعود ليقتل ويدمر من جديد في غزة والضفة وقوافل شهداء الفلسطينيين لا تنتهي، وها هم زعماء بني صهيون يطالبون بطرد الفلسطينيين من الضفة وغزة إلى مصر والأردن، وها هو الأردن ينشر جيشه على حدود الضفة ويهدد باندلاع حرب إذا ما قامت دولة الاحتلال بدفع الفلسطينيين للجوء إلى الأردن واعتبر أن هذه الجريمة تنقض اتفاقية وادي عربة.
فما فائدة الاتفاقيات مع الصهاينة الذين يضمرون مخططات أبعد من غزة، ومن الضفة ومن الأردن ومصر والسعودية وسوريا.
ما فائدة التطبيع إذن مع كيان “يتكتك” مرحليا، ويخطط استراتيجيا.
ماذا سيجني المطبعون من كيان لا يبحث سوى عن مصالحه الخاصة على حساب العرب ومستقبلهم وحياتهم أولا وأخيرا.
أليست حياة عبلة المريرة المشردة الجائعة المهانة تنطبق على ملايين الفلسطينيين والعرب.
لقد خدع هذا الكيان المصطنع شعوب العالم أنه ضحية الهولوكوست والمجازر في أوربا، وزعم أن الله وعده بأرض الأنبياء فلسطين التي ادعى أنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وأنها كانت صحراء قفرا فحولها إلى جنة، وهل الله يعد أبا الأنبياء بأرض غير ذات أنس ولا زرع ولا ضرع؟
فكيف إذن وجد الشعب الفلسطيني، وضد من كانت عصابات الصهاينة الإرهابية تقاتل وتقتل، وتهجر؟
عملية “طوفان الأقصى” اليوم لم تكن طوفانا للأقصى فحسب، بل تحولت إلى طوفان عالمي قلبت الموازين والمفاهيم، ودحضت كل أكاذيب الصهيونية العالمية، أكنت تتفق مع حماس أم لا تتفق، لقد هبت شعوب العالم لنصرة فلسطين وإدانة البربرية والهمجية والجرائم ضد الإنسانية، لقد وعت هذه الشعوب من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي لأول مرة أن هذا الكيان هو كيان مصطنع ومغتصب وقاتل ومتمدد، وعنجهي، وأنه الدولة الوحيدة في العالم التي لا حدود لها معترف بها دوليا، وكشفت هذه العملية زيف الغرب “الديمقراطي المتحضر والحريص على حقوق الإنسان” ولا يذكر بمبادئه إلا وما يتطابق ومصالحه، وسياسة الوزنين والمعيارين، والميكيافلية، هي السياسة السائدة.
اليوم تكتب غزة العزة بدء تاريخ جديد لفلسطين، بل للعالم أجمع.
كاتب من سوريا