«ليست الترجمة هي التي تأخرت، لكن إيجاد ناشر فرنسي يقتنع بنشر الكتاب هو الذي تأخر» هكذا أجاب عبد العزيز بركة ساكن حين سئل لماذا تأخرت ترجمة كتابه «مسيح دارفور». موضحا مع ابتسامة عريضة أسباب ذلك التأخر.
وفي الحقيقة عالم الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية عالم شائك، نجهل الكثير منه، بدءا بالعلاقات المعقدّة التي تسهّل إيجاد مترجم، كوننا لا نملك وكلاء يقومون بهذه المهمة، ليربطوا بين عالمين من خلال الترجمة، إلى تزكية العمل لدى ناشر أجنبي يغامر بإطلاق كاتب عربي غير معروف حتى في عالمنا العربي.
ما نبّه إليه الكاتب السوداني المقيم في فيينا، ليس جديدا، لكننا لا نحب أن نبوح به، فقد تعوّدنا من أغلب كتابنا المترجمين للغات أجنبية أن نسمع منهم ما يُرضي خلفياتنا المُسبقة، وهو نفسه ما يُرضي «الأنا» المتضخمة لديهم، حين يعبرون لعالم لغوي آخر، يزيد من أحجامهم. يُحكى عن كاتب كبير أنه كلما زار بلدا أجنبيا ترجمت إحدى كتبه إلى لغته، سأل عن أكبر مكتبة في المدينة، لا بهدف اقتناء كتب منها، بل بغاية التأكد إن كان كتابه متوفرا بين رفوفها، وهل يُقبل عليه قرّاء ذلك البلد!
لقد نال عبد العزيز بركة ساكن جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي منذ سنوات تحديدا عام 2009، لكنّها رغم سمعتها الطيبة في الأوساط الأدبية العربية كلها، لم تَمنح الفائزين بها البريق الذي يستحقونه. سرعان ما تخبو أسماؤهم وتعود للظلال نفسها التي تغطي مشهدنا الثقافي عموما. لكن من حسن حظ الكاتب وليس من سوئه، أن الرواية تم حظرها، حتى يتم تداول اسمه ككاتب مقلق للسلطة آنذاك، إذ ليس سهلا أن يجد كاتب قصص وروايات نفسه في مواجهة نظام بأكمله. في عام 2012 منع عرض كتبه في معرض الكتاب الدولي في الخرطوم. يبتسم الحظ للأدب في اللحظة التي يعبس فيها في وجه صاحبه. ضيّق الرقيب الخناق على الكاتب السوداني لأسباب لا يمكن شرحها، فلكلّ رقيب أهواء وأمزجة تتغيّر حسب «الوصفة الأيديولوجية» السارية المفعول في كل بلد على حدة. وكتب بركة ساكن على ما يبدو لم تتناسب مع مستوى وعي الرّقيب الذي في الغالب لا يختلف عن صورة «الغفير» الذي يقوم بحراسة عزبة البيه في المسلسلات المصرية.
النّقلة المهمة التي لامست حياة الكاتب هي حين قرر المعهد العالي الفني في مدينة سالفدن سالسبورغ في النمسا إدخال الترجمة الألمانية لروايته «مخيلة الخندريس» في المناهج الدراسية، أمّا النقلة الأهم من وجهة نظري فهي نيله مؤخرا جائزة الأدب العربي، التي يمنحها معهد العالم العربي في باريس، وحصوله على جائزة الترجمة الكبرى عن الطبعة الفرنسية لروايته «الجنقو، مسامير الأرض» وهي نفسها الرواية «المباركة» التي نال بها جائزة الطيب صالح، وشرف المصادرة والمنع في الوقت نفسه. النقلة النّوعية في «تلقي» بركة ساكن تكمن هنا، فمنذ عام 2009 والرواية تشق طريقها الصعب نحو القارئ العربي، لكن بدون جدوى، ويا للصدفة إنه العام الذي توفي فيه الكاتب الطيب صالح. تعبر الرواية العقبة بعد العقبة، تقاوم وتحارب، وكأنها كائن أصابته إحدى اللعنات الأبدية. فما أصعب طريق الأدب، حين يولد من العمق الأفريقي مكتوبا باللغة العربية، ويبحث عن أفق له في فضاء لغته.
قد يزداد المشهد بؤسا، لكنّه في زمننا الإلكتروني هذا، قد يفاجئنا بما لم نألفه، كاسرا سوداوية قاتمة جثمت على قلوبنا دهرا. كون طرق العبور أصبحت أكثر سهولة، أمّا عن حتميتها فلا بديل عنها ما دمنا لم ندرك بعد أن طبيعة هذا العبور توق لفضاء حر خارج البركة الآسنة التي تعفنت بسبب عدم تجدد مائها.
قلت إن الرواية صادف مولدها غياب كاتب السودان الأول الطيب صالح، الذي عرفناه بروايته «موسم الهجرة إلى الشمال» الصادرة في طبعتها الأولى عام 1966، صدفة قدرية تنكز جرح الأدب السوداني المهمش بقصد أو بغير قصد، فلطالما ظن جمهور كبير من القراء العرب أن السودان لم ينجب غير الطيب صالح، ولطالما ذهبت به الظنون إلى ما هو أبعد حين اعتقد أن الكاتب لم يكتب غير هذه الرواية، وقد سمعت ذلك من كُتّاب عرب يغطون المشرق والمغرب بشهرتهم. والآن بودي أن أطرح سؤالا أعرف سلفا أنّه سيُسِيل حبرا كثيرا، لو لم تحتضن بريطانيا الطيب صالح هل كان سينال شهرة ما؟ لقد منحت بريطانيا العبور الحقيقي للطيب صالح إلى القراء العرب، ثم فتحت تنقلاته عبر دول كثيرة بابا كبيرا له ليُقرأ جيدا، ترجم للغات أجنبية، وكوّن شبكة علاقات كبيرة من خلال مشاركاته في ملتقيات ومحافل أدبية كثيرة. ألا نقول «في الحركة بركة» ويبدو أن الحركة المُنتِجة والفعّالة في عالم الأدب لا تنجح إلاّ عبر هذا العبور، الذي لا مهرب منه حين يولد الكاتب في بيئة خانقة.
في زمن مضى كان هذا العبور يقود الكتّاب إلى القاهرة أو بيروت، يشدون الرحال من بلدانهم مثل الطيور المهاجرة، ويحجون إلى مدينتي النور والأدب والفن، أملا في الحصول على ورقة الانتشار. ينجح الأمر أحيانا ويفشل في أخرى، لكنه في الغالب يمنح ذلك العابر قدرا لا بأس به من تحقيق أحلامه، أمّا اليوم فلا شيء بقي على حاله، أمام الانحدار الذي شهدته المنطقة على جميع الأصعدة، خاصة في ما يخص حرية التعبير، واستقطاب أهل الفكر والأدب والفن. سنة 2010 أي بعد سنة من وفاة الطيب صالح صدرت رواية «صائد اليرقات» للكاتب أمير تاج السر عن دار نشر جزائرية، ولفتت الأنظار حين بلغت القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية، متميزةً بموضوعها الضارب في عمق مشكلة حرية التعبير في البلدان العربية. ويومها عرف القارئ العربي كاتبا سودانيا جديدا غير صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال».
عشر سنوات أخرى تمر ليبرز اسم عبد العزيز بركة ساكن، وقبل هذا التاريخ لم يتوقف عن الكتابة أبدا، لكنه أيضا كان يخوض حربه على طريقته، فيما مقاتلوه يجدون متعة إخراج الأسلحة ذاتها لمحاربته، عسى أن يحيد عن خطه، أو يحترم الخطوط الحمر المرسومة له ولغيره، فيكتفي بكتابة قصص خاوية من روحها، تناسب المتداول والمُتّفق عليه والباهت الذي لا لون له. منذ «موسم الهجرة إلى الشمال» إلى «الجنقو» تبرز ثلاثة أسماء، لتروي حكاية السوداني العالق في المتاهة نفسها. يطول الزمان أو يقصر، تحترق الأجيال المتعاقبة بالنار نفسها، لكن لا مفرّ من الاندفاع نحو الشمال، خوفا من تشتت تلك الذات وانتهاء صلاحيتها، كما تنتهي الأشياء المنسية قبل استعمالها. يعلم الله كم هي عسيرة مخاضات هذه الأمة لتنجب مبدعين، ثم كم هي صعبة طريق كل واحد منهم، ومحفوفة بالمخاطر التي لا تخطر على بال، ولا أدري هل قضية المعابر هذه تبدو عادلة، حين تصبح الخيار الوحيد أمام الكاتب لبلوغ قراء وطنه، أو قرّاء لغته الأم؟ من أوجد هذه القوانين الجائرة التي يتستر بها البعض لإبقاء مجتمعات بأكملها تحت وطأة الفقر والعوز المادي والمعنوي؟ هناك أدب يسعى لإيقاظ الوعي وآخر يسعى لتخديره، وبين هذين القطبين يختار الكُتّاب مواقعهم ، بين من يسعى لقول الحقيقة الجارحة، حتى إن امتد الجرح إليه، ومن يدور حولها دون لمسها، وآخر محتار بين الجبهتين، يراقب من بعيد، ويقفز مثل قرود السيرك، بدون أن ينتبه أنّه ليس أكثر من فرجة للتسلية.
قد يزداد المشهد بؤسا، لكنّه في زمننا الإلكتروني هذا، قد يفاجئنا بما لم نألفه، كاسرا سوداوية قاتمة جثمت على قلوبنا دهرا. كون طرق العبور أصبحت أكثر سهولة، أمّا عن حتميتها فلا بديل عنها ما دمنا لم ندرك بعد أن طبيعة هذا العبور توق لفضاء حر خارج البركة الآسنة التي تعفنت بسبب عدم تجدد مائها.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
شكرا لك سيدة بروين
مقالاتكً ومواضعها متميزة خصوصا تلك التى تعرفت من خلالها على العديد من الادباء والاديبات