بعد أن كانت القصة القصيرة جدا جنسا أدبيا هامشيا، لا يكاد يعيره أحد أدنى اهتمام، بل هناك من الأدباء والنقاد من هاجم كتّابه ونصوصه على حد سواء، معتبرا الكتابة في هذا النوع غير مجدية، ولا تخلق أي إضافة نوعية.
بعد سوء الفهم هذا استطاعت القصة القصيرة جدا أن تحوز الكثير من الحظوة في المغرب وفي الوطن العربي، ويرجع الفضل في ذلك إلى إصرار عدد من الكتّاب المبدعين، الذين اجترحوا نصوصا جيدة لفتت الانتباه إليه، ورسخت مكانة هذا الجنس الأدبي في المشهد الأدبي عموما، كما لا ننسى مساهمات بعض النقاد، الذين خصصوا كتبا ومقالات كثيرة ومطولة لهذا النوع من الكتابة الإبداعية.
ويعد المغربي حسن برطال من الكتّاب، الذين راهنوا على القصة القصيرة جدا، إذ أصدر فيها عددا كبيرا من المجاميع القصصية، تجعله في ريادة كتّاب القصة القصيرة جدا، على الأقل من حيث عدد الإصدارات.
وقد عودنا حسن برطال في مجاميعه السابقة على تطويع كل تفاصيل المجتمع الاجتماعية والثقافية والسياسية والحياتية، ليجعل منها نصوصا، تراهن على القصر الشديد، والسخرية ، والقفلة المفاجئة، التي غالبا ما تكسر أفق انتظار القارئ، مشابهة في ذلك فن النكتة، الذي يراهن فيها راويها على النهاية، التي إن لم تنجح في انتزاع الضحك، أو الابتسام على الأقل من متلقيها تعد فاشلة.
وبالطبع لم يكن حدث بحجم كورونا، هذا الوباء الذي أصاب العالم بأسره، وغيّر عاداته، وأثر في سيرورة الحياة وصيرورتها، أن يترك حسن برطال على حياده، بل كان لابد أن يتفاعل مع الحدث، ليخلق لنا نصوصا تستلهم الوباء، وقد جمعها في مجموعة قصصية، سماها» كورونيات عسر الفهم».
وإذا كان الموضوع مستجدا وطارئا، فاجأ الجميع بقدرته الخارقة على إفناء الأرواح البشرية، فإن حسن برطال ظل وفيا لطريقة كتابته، من خلال تكثيف النصوص، واقتناص المفارقات والاعتماد على السخرية، والاشتغال على القفلة/ النهاية، لتخلف أثرا قويا في نفس القارئ، وهذا ما ظهر بارزا في مجموعته الجديدة. فالتكثيف مثلا يمكن ملامسته من خلال قصر النصوص، التي لا تتجاوز إلا نادرا ثلاثة أسطر، ومنها قصة «كورونا، داء الكلب» الكلب )الوفي) الذي يستعير الكمامة، خائف من انتقال فيروس )الخيانة) من صاحبه.
كما يمكن ملامسة السخرية في أغلب النصوص، من خلال قلب الوقائع، أو الاستعانة بقاموس لغوي يتسع ليشمل ما لا يمكن توقعه، كالانتقال من مجال الطب والصحة، إلى مجال كرة القدم، كما هو الشأن في قصة «الحكم كولينا»: «احتار الطبيب في أمر )الإصابة) هل هي مستبعدة أم مؤكدة.. وبسرعة استعان بتقنية (الفار)».
وقد يحدث العكس أي الانتقال من كرة القدم إلى مجال الطب والأمراض، كما هو الشأن في قصة» قانون كرة القدم»، يقول الكاتب: «المدافع يلمس الكرة بيده، الحكم يعلن عن الخطأ.. تماسك حائط الصد والمسافة القانونية منعت اللاعب كوفيد رقم 19 من تسجيل الإصابة». وهو الأمر الذي نجده كذلك في قصة «أم البنات»، التي ينتقل بنا فيها الكاتب من معجم دلالي لأسماء الفتيات إلى مجال الدلالي للطبيعة، مستغلا التشابه في الألفاظ، يقول: «كان يحلم بامرأة تلد له ثلاث بنات، فلة، زهرة وياسمين.. فأشرت عليه بمريضة بـ(حساسية الربيع) تحط على أنفها حبيبات اللقاح».
أما بخصوص تقنية المفارقة التي تكون القصة القصيرة جدا مجالا خصبا لها، إذ وظفها كتّابها من أجل تقديم نصوص تتسم بنوع من الدرامية المتأتية تحديدا من التركيز على الشيء ونقيضه، الذي غالبا ما يولد المعنى الدلالي المرغوب في تحقيقه. وغالبا ما ترتكز على التلاعب اللفظي، من خلال استثمار البعد الترادفي أو التضاد وغيرهما، يقول الكاتب في قصة «تعليق الجائزة»: «ابنتك ميدالية ذهبية، أسابق الزمن للفوز بها، هكذا قال الخاطب.. وبدون تردد وضعها أبوها له في عنقه». أو كما وقع في قصة «الخروج بدون استئذان» حيث اللعب على دلالة الخروج، التي أسعفت الكاتب في تحسيس القارئ بقوة المأساة. يقول :»على زوجك أن يمتثل لأوامر القائد، ويلتزم بالحجر الصحي ولا يخرج من الدار إلى الدار الأخرى إلا للضرورة القصوى.. هكذا قال عون السلطة للزوجة الثانية، بدون أن يدري أن الرجل لبى نداء ربه».. أما القفلة فتعد من أبرز العناصر التقنية في الكتابة القصصية، لذا يوليها القصاصون أهمية بالغة، حتى تساهم في خلق الأثر الذي يتغيا الكاتب خلقه لدى المتلقي، وهذا ما يجتهد الكاتب حسن برطال لتحقيقه في كثير من النصوص، يقول في قصة «الجلاد والضحية»: «يهدد ويصب اللعنات على الذي فرض عليه الكمامة، ويقسم بالله أن يقول هذا الكلام في وجهه.. يلتفت، يرى رجل أمن بجانبه فيتمم كلامه قائلا: لعن الله هذا الكوفيد».
ونلمسها كذلك في قصة «حالة تسلل»، التي تصدمنا نهايتها غير المتوقعة، يقول الكاتب: «وبعد فحوصات دقيقة أخبرني الطبيب بأن زوجتي (حامل).. قاطعته من شدة الفرح، رقصت، غنيت ولما انتهيت أضاف قائلا: للفيروس».
٭ كاتب مغربي