تشرفت بتقديم أوّل محاضرة ينظمها كرسي محمود درويش في جامعة براون مطلع هذا الشهر بما يحمله وجود هذا من معان كثيرة، يأتي في مقدمتها ذلك النجاح الكبير الذي حققه الدكتور بشارة دوماني، المؤرخ والمفكر الفلسطيني، في أن يكون هناك كرسي باسم درويش، وبالضرورة باسم فلسطين، في زمن صعب وصراع ملتهب بين سردية الموت الصهيونية وسردية الحياة الفلسطينية، وفي وقت يتظاهر فيه الطلبة وأعضاء من العاملين في جامعة براون ضد قرار عدم قبول إدارتها بسحب استثماراتها في شركات صهيونية.
رحلة إلى هناك، يمكن القول إنها جاءت في أكثر الأيام سخونة، حيث تصادف الذكرى الأولى للسابع من أكتوبر، بحيث كانت كل محاضرة من المحاضرات الستّ، بنقاشاتها وقراءاتها الشعرية، عرضة لاحتمالات لا يمكن التنبؤ بها.
ثمة مظاهرات هنا وهناك، في الشوارع، ووقفات احتجاجية في الجامعات، ومنها جامعة برينستون التي تمّ فيها تقديم المحاضرة الخامسة، حيث وصلنا الخبر بتوقيف أحد أساتذتها عن العمل بسبب موقفه الشجاع مما يجري من إبادة في غزة وسواها.
ما توقعته وتوقّعه معي منظمو اللقاءات، أن يكون هناك تنغيص أو تخريب يؤدي إلى التعكير على أجواء المحاضرات، وقد سبق لي أن عايشت ذلك في مدن أوروبية في ظروف أقل التهاباً بكثير من هذه الظروف في بعض الأحيان، كانت عبر أسئلة عدائية سافرة، وبعضها أدى منذ البداية إلى رفض المشاركة في هذه الفعالية أو تلك، بسبب زج كتّاب صهاينة في ندوات لا منطق من وجودهم فيها، ولعل مؤتمر نابولي الذي نُظِّم عام 2019 لجمع أساتذة الأدب العربي في الجامعات الأوروبية، عرباً وأجانب، نموذج لهذا النوع من الزّج؛ إذ بقدرة قادر تمّت دعوة أستاذة من الكيان تدرِّس في جامعة تل أبيب الأدب العربي. وبهذا تعامل الدّاعون مع الكيان باعتباره جزءاً من أوروبا والغرب، وهو وإن كان سياسياً هكذا بدعم الغرب له منذ يوم تأسيسه وما قبل تأسيسه، فإنه لا يمكن أن يكون جزءاً من قيم الكتابة الإنسانية أبداً، حتى أن كتّاباً في الكيان لم يترددوا في الدعوة لسحق الفلسطيني وضرب دول أخرى بالقنابل النووية، (ما اضطر المرء لرفض المشاركة).
مرت المحاضرات دون أن تشهد هذا التنغيص أو العتوّ المنفلت الواثق بحقّه في إهدار دم البشر وإبادتهم وتحطيم حياتهم بتدمير منازلهم وقتل أطفالهم وأمهاتهم وأحبابهم، وخلف جيش الفاشية هذا، على الحدود، مستوطنون متوحشون يُعدّون العدة بهمجية لتوزيع أراضي غزة وأمواج بحرها في ما بينهم، والرقص على جثث الضحايا.
ولكن، ثمة شيء سيُضْمِر في داخله دائماً معنى الحياة في هذا العالم، فرغم كل أشكال القهر واستلاب الحريات، تظاهر في رحاب الجامعات الأمريكية وغيرها من جامعات العالم طلاب وأساتذة وعاملون دفعوا أثماناً باهظة حين تمّ فصلهم وتعريضهم للتحقيق وحبسهم والاعتداء عليهم بقرارات عُنفيّة صادرة عن رأس الدولة وجيشها وعسكرها.
في بلد كأمريكا، يمكن أن تُمسّ الذات الإلهية دون أن يتعرض المتطاول لأي عقاب، ولكن أحداً لا يستطيع أن يمسّ من قريب أو بعيد هذا الكيان الذي بات فوق المقدس، وفوق البشر، وفوق الشرائع وفوق العالم.
لم يحدث في التاريخ البشري أن تمتّعت دولة أو جماعة بهذه السطوة المرعبة على العالم لممارسة القتل، ووضع حذائها العسكري على رقاب الأنظمة، وأولها العربية، دون أن تجرؤ هذه الأنظمة على أن تقول إنها تريد أن تتنفس لا غير.
في واحدة من المحاضرات، كان الحديث عن الإنسان والآخر، وقد استرجعت حديثاً سابقاً في محاضرة أخرى، في إجابتي، أن لكل إنسان في حالته الإنسانية المعافاة آخر، لكن الكيان الصهيوني الذي تعاملت معه أنظمتنا العربية المُطبّعة من فوق الطاولة ومن تحتها على أنه آخر، لا آخر له. إذا لا يمكن أن يكون للنازية آخر، ولا للعنصرية آخر، ولا للفاشية آخر، حتى ذلك الذي ناصرها لا يمكن أن يكون بالنسبة إليها آخر، لأنه في أفضل حالاته مُسخَّر لخدمتها، وكل مُسَخَّر يحتل منزلة أدنى بكثير، لا تمنحه جرأة أن يظن أنه بمستوى قدسيةِ مُسخِّره.
في نيويورك احتضنت قاعة كنيسة القراءات الشعرية والحوار الذي أدارته وأدارت ما سبقه من حوارات، كما ترجمت القصائد فيه، الدكتورة المبدعة ابنة لبنان، ابنة فلسطين، هدى فخر الدين، كان اللقاء الذي نظمته دار نشر «عالم الشعر» التي أصدرت مختارات كتابي «فلسطيني»، أول لقاء مع الجمهور العريض خارج اللقاءات الجامعية في جامعتَي براون وبرينستون، وكان غنياً حقاً بحواراته، وأتيح لنا تقديم مقطع مصوّر من العمل الأوركسترالي الغنائي الشعري «مريم غزة» الذي قدّمته أوركسترا إدوارد سعيد ولحّنه الموسيقار المبدع سهيل خوري، وكان يمكن أن يرى المرء في اللقاء بعض العرب المقيمين في المدينة، والكثير من الأمريكيين، وهو إضافة للحوار الذي أقيم في مكتبة بمدينة فيلادلفيا، لتقديم المختارات الشعرية التي رصد ريعها لغزة ترجمة ونشراً وتأليفاً، كان اللقاءان مساحة مختلفة للتحرّك في مجال المدينتين الواسع، يعززان ويقدّمان الصورة التي تُكمل ما عاشه المرء في حوارات براون وبرينستون، تلك الحوارات التي اتّخذت في كل مرة مساراً مختلفاً من مسارات القضية الفلسطينية، من الأدبي إلى الإنساني إلى السياسي إلى الحضاري، أو كلها معاً.
كانت هذه الزيارة إلى أمريكا هي الثالثة لي في السنوات الأربع والثلاثين الماضية، وكانت فلسطين في كل مرة هي السبب؛ ففي المرة الأولى، عام 1990، كانت لدعم الانتفاضة الأولى. وفي الثانية، العام الماضي، للمشاركة في المؤتمر المذهل «فلسطين تكتب»، الذي رأيت فيه أكبر احتفالية بالأدب والفنون الفلسطينية في العالم، بما في ذلك عالمنا العربي! المؤتمر الذي عملت عليه كثيراً كي يكون، الروائية سوزان أبو الهوى والدكتورة هدى فخر الدين، وهذه المرّة بدعوة من كرسي محمود درويش وتقديم ديوان «فلسطيني»، العنوان الذي اختارته دار النشر، وقد صدر بالعربية بعنوان «مريم غزة».
وبعـــد:
لم يزل الطريق طويلاً.. ففي يوم السابع من أكتوبر 2024، هناك، كان الوقت كلّه للمظاهرات، ومع العزيز «ماكس» كنا نتنقل بين مظاهرة وأخرى. وفي المساء، في تايم سكوير، في قلب نيويورك، نشاهد الأعلام والكوفيات الفلسطينية واليافطات، وحولها الكثير الكثير من رجال الأمن المتطلعين لتفريقها وتمزيق يافطاتها. أما في الأعلى، على واجهات الناطحات، فكانت هناك الإعلانات العملاقة التي علّقها الصهاينة، حرّة لا يجرؤ على الوصول إليها أحد، الإعلانات المكتوبة بالأبيض على خلفيات زرقاء، وتقول: المناداة بتعميم الانتفاضة لتكون عالمية، دعوة لقتل اليهود، وهي ضد السّامية.