دقيقة واحدة بالضبط، هي زمن الفيديو، الذي أهداه عدي التميمي لشعبه، دقيقة من البطولة، والرقص وجها لوجه أمام الموت، دقيقة من الفرح والفخر والنصر، برغم هذا الموت.
أصرّ الفتى أن يتحدى المستوطنة الجاثمة على الصدور، من دون أي تنكّر ولا تخفّ. ظهر بكامل جسده. واقف على الإسفلت، تماماً في منتصف الإسفلت، أمام بوابة معاليه أدوميم (مرور السيارة في أول الفيديو جاء ليسعفنا في تحديد مكانه). جسد نحيل، ومسدس، يرقصان في وَضَح العتمة.
يعرف عدي، يقيناً، أنه لن يتمكن بمسدسه الهشّ أن يهزم كل هذه المستوطنة، لعله أراد المعنى، وحدث أن أصابَ الهدف تماماً، «أعلى» منتصف المعنى. هذا الموت الجميل أخرجَ الشعبَ كلَّه إلى الشارع.
دقيقةُ فيديو ليس فيها أي تأخير. لا شك أنها مقطوعة من المستقبل، ولقد أصرّ عدي، بروميثيوس الفلسطيني العنيد، على انتزاعها، لنا، لشعبه الحزين، المتلهف لبرهة انتصار.
اُنظر الأكف المرفوعة، والتحيات، والأغاني، انظر العزيمة والأمل الذي استطاعت دقيقةُ بطولةٍ واحدة أن تحييه. لعله أراد أيضاً أن يهدينا لحظة جمال خالصة، أرادها من دون دم، ولا صراخ، ولا دموع. فقط هذا العتم، فيما الرصاص المتناثر حوله أقرب إلى فراشات.
إن أردت نصراً فهذا هو النصر، إن أردتَ شعراً فهذا هو الشعر، هنا الإلهام كلّه، وإن أردت رقصاً فهذا أجمل الرقص.
إنها رقصة معاصرة ولا أجمل، كان هنالك فيلسوف يقول إن الراقص وحده من يستطيع أن يكون من الأرض ومن السماء في آن. اُنظر إليه، كم كان، هذا الراقص الرشيق، قريباً من الأرض، كم كان أرضياً، أراد لجسده كلّه أن يمتد فوقها، وطالعاً إلى السماء في اللحظات ذاتها.
دقيقةُ فيديو ليس فيها أي تأخير. ليست، لفرط جمالها، من الزمن الحقيقي، زمننا. لا شك أنها دقيقة مقطوعة من المستقبل، ولقد أصرّ عدي، بروميثيوس الفلسطيني العنيد، على انتزاعها، لنا، لشعبه الحزين، المتلهف لبرهة انتصار.
كل ما يحدث اليوم في البلاد يثبت أن عدي يمكن أن يولد مرة تلو المرة. عشية موته، وعندما نشر الاحتلال مواصفات منفذ عملية حاجز شعفاط، بأنه أصلع الرأس، راح الشبان يقصون شعورهم على الصفر، ونشرت فيديوهات عديدة على مواقع التواصل تصور فعاليات الحلاقة. كانت فيديوهات لطيفة، مرحة، وفيها تغزّل بـ «الأصلع الجميل».
أراد الصلعان الجدد أن يدوّخوا قوات الاحتلال الباحثة عن شاب عشريني أصلع، كانت تلك مهمة أولى، لكنها أيضاً إشارة، نوع من الاستعداد لأن يكونوا كلهم عدي التميمي.
مقاطعة إسرائيل، ورفض التطبيع معها، واجب، بل ربما هو أضعف الإيمان تجاه دولة احتلال ومجازر، لكن لا يمكن الركون إلى النظام الممانع في وضع قائمة ممنوعات، حتى على مستوى قائمة طعام، إذ كانت حساباته السياسية الضيقة على الدوام هي المسطرة التي يقيس بها؛ إن كرهوا جنبلاط نبشوا له تاريخ مغن أوروبي مدعو إلى مهرجان «بيت الدين» ، وقد يحدث أن يكون المغني قد صافح مرةً بالفعل جاره اليهودي الفرنسي. وإن غضبوا من فرنسا، وضعوا العصي في دواليب مهرجان فرانكفوني مزمع في بيروت، وليس أسهل من نبش تصريح أو حادثة تخص أياً من المشاركين الأوروبيين في المهرجان البيروتي لاتهام المهرجان برمته بالتطبيع.
لقد صرف كتّاب فرنسيون (هم إريك إيمانويل شميت والطاهر بن جلّون وباسكال بروكنير وبيار أسولين) أخيراً النظر عن المشاركة في «مهرجان كتب بيروت»، الذي تقيمه فرنسا في لبنان، بعد اتهامات طالتهم بدعم الصهيونية.
كانت صحيفة ممانعة هي أولاً من أصدر لائحة اتهامية للمهرجان بالتطبيع، التقط وزير الثقافة اللبناني محمد المرتضى (محسوب على حركة «أمل»، إحدى طرفي الثنائي الشيعي الحاكم في لبنان) الخبر، فأصدر بياناً يتهم المشاركين بأنهم «من معتنقي المشاريع الصهيونية فكراً وممارسةً وداعميها، سواء في أعمالهم الأدبية أو في حياتهم العادية». (لاحظ في حياتهم العادية!)
كل هذه المزايدات من نظام الممانعة، فيما لبنان مقبل على توقيع اتفاقية مع إسرائيل، وهي شكل من أشكال التطبيع حتى لو أنكروا ذلك، حتى لو تشدّقوا بأنهم لم يضطروا إلى شرب الشاي مع العدو أو مصافحته.
يقول محركو الحملة ضد المهرجان إنهم يقرّون بفضل فرنسا في إقامة هذا المهرجان، في ظل وضع البلد المزري، لكن، بحسبهم، هناك مشكلة صغيرة؛ حيث كان من المقرر أن تعلن القائمة القصيرة لجائزة غونكور (الأهم في فرنسا) من المهرجان البيروتي، و» المشكلة أن من بين أعضاء أكاديمية غونكور ممن كان من المقرر حضورهم من هو معروف بشراسته في مناصرة إسرائيل، وأعداء القضية الفلسطينية» ، ولمن يصعب إقناعه يمكن إضافة «يحمّلون الإسلام كل خطايا العالم» .
يعرف مطلقو الحملة الممانعون أن أحداً لن يذهب ليتقصى بالفعل أي تصريحات وآثام ارتكب أعضاء غونكور، وإن كانت تصريحاتهم تستحق المقاطعة بالفعل. ثم، بالمناسبة، نَراكم تهلّلون للكاتبة الفرنسية آني إرنو الحائزة نوبل للآداب أخيراً، ألم تكن هذا الجائزة الأهم في العالم بنظركم مسيسة ومحابية لإسرائيل وأمريكا والغرب وخلافه؟ كيف حدث أنكم تصفقون لها الآن! أليس علينا أن نتقصى إن كان هناك، من بين مانحي نوبل وأعضاء لجنة تحكيمها، من حابى، أو زار، أو دعم إسرائيل يوما؟!
هناك سؤال آخر؛ هل قرار مقاطعة مهرجان ثقافي بهذه الأهمية حكر على «الثنائي الشيعي» وحده؟ أليس من حق الشركاء في الوطن أن يسهموا في صياغة هكذا قرار؟!
اللافت أكثر من كل ذلك أن كل هذا النقاش، بل كل هذه المزايدات من نظام الممانعة، تأتي، فيما لبنان مقبل على توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وهي شكل من أشكال التطبيع حتى لو أنكروا ذلك، حتى لو تشدّقوا بأنهم لم يضطروا إلى شرب الشاي مع العدو، أو يضطروا للنظر مباشرة في عينيه، أو مصافحته. مع هكذا اتفاقية لن يبقى هناك عنتريات، ولا احتمال حرب، لا بعد حيفا ولا قبلها، لا بعد كاريش، ولا قبله.
*كاتب من أسرة تحرير “القدس العربي”
دقيقة واحدة ولكنها تعدل وتلخص كل كفاح الشعب الفلسطيني الأعزل المسكين الصامد في أرضه منذ 1948 وإلى يوم الناس هذا ??