«عذراً.. لم نجدك» للبريطاني كين لوتش: بناء عوالم وشخصيات شديدة الواقعية

حجم الخط
1

■ في عالم السينما، يوجد نوعان من المخرجين الكبار: من ينوع في مجالات أفلامه، فيُخرج التاريخي والسيكولوجي والحربي والرومانسي والتشويقي وغيره، الأمثلة الأنسب لذلك هي ستانلي كوبريك ومارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا.
النوع الآخر هو أن يكون أن يكون صاحب مشروع فتحوم أفلامه بعمومها حول موضوع واحد أو مواضيع متقاربة، فتكون لها أجواؤها ومواضيعها وشخصياتها المتقاربة. الأمثلة من المخرجين الكبار على ذلك كثيرة، منهم ألفرد هيتشكوك وفيدريكو فيلليني ولوي بونويل وآخرون كثر، فمعظم أهم المخرجين يبنون عالماً من خلال أفلامهم، عالماً واحداً تتلاءم فيه أفلامهم، من بين هؤلاء البريطاني كين لوتش الذي نزل فيلمه الأخير إلى الصالات الفرنسية مؤخراً، بعدما شارك في الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي.


في عموم أفلامه، شكّل لوتش مواضيع متقاربة وعالما واحدا فيها، هي في بريطانيا، في أزمنة مختلفة لكنها عموماً راهنة، راهنة لسنة إنتاج الفيلم، وشخصياتها (وهنا الميزة في أفلامه) من الطبقات الفقيرة والمهاجرين، العمال والموظفين والمستغلين من النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في بريطانيا (والعالم طبعاً)، والحكاية في أفلامه هي كذلك حكاية هؤلاء ومعاناتهم مع تلك الأنظمة.
في فيلمه الأخير، «عذراً، لم نجدك» (Sorry We Missed You)، ما يمكن ترجمة عنوانه كذلك بـ «عذراً، أتينا ولم نجدك»، فهي عبارة مطبوعة على بطاقة يتركها عمال التوصيل (الديليفيري) لأصحاب طرود لم يكونوا في بيوتهم، في الفيلم الأخير للوتش، يكمل صاحب «أنا، دانييل بلايك» (فيلمه السابق الذي نال السعفة الذهبية في مهرجان كان 2016) بناء عالمه على شخصياته وحكاياتهم، بشكل واقعي جداً (فنياً وسردياً)، بحكايات نعيشها أو يعيشها من نعرفه، بدون مبالغات تعود عليها المشاهد في السينما، من حصول قتل هنا وإطلاق نار هناك (مهما كانت المواضيع) أو أعمال خارقة وصدفٍ من تلك التي لا تحصل إلا على الشاشة، فيخرج المشاهد من الصالة وعالمها الخيالي إلى مدينته وشوارعها وبيته وكل عالمه الحقيقي.


يصور الفيلم حكاية عامل توصيل للطرود، والصعوبات التي تواجــــهه أثناء أداء عمــــله وتداخل ذلك مع حياته الخاصـــة، كل ذلك ضمن حــــالة الاستغلال التي يعيشها خاضعاً للنظام الرأسمالي في بريطانيا.
لا يستند لوتش في عموم أفلامه، وهذا الأخير تحديداً، إلى تلك «الميزة» (حيث المصادفات الخارقة) السينمائية، بل يصور لنا عالمنا ذاته، شخصياتنا ذاتها، بحالات ليست غريبة ولا «لا تُصدق»، وبدون صدف لا معقولة، بل بحالاتنا نحن، كأن الفيلم وثائقي، من هذا الجانب، في مدى واقعيته، لكن لوتش، وضمن الموضوع الوثائقي، قدم حكاية مبنية بشكل محكم، وشخصيات تتطور بشكل مقنع، وتصوير – في هذا الفيلم – كاد أن يظهر كصور كاميرا منزلية، فيزيد من واقعية مضمون ما نشاهده، ليأتي متكاملاً، شكلاً ومضموناً.
الفيلم مؤلم لحكايته ومآسي شخصياتها، للنظام الاجتماعي والاقتصادي الرأسمالي في بريطانيا (والعالم) الذي يحول الناس، الفقراء تحديداً، إلى ماكينات عمل، بدون أي مراعاة لحالات إنسانية أو ظروف معينة أو طارئة، كأننا في مشاهد تعذيب بدون رحمة، وما يزيدها سوءاً هي الواقعية التامة لذلك، وبقاؤنا في هذا العالم فور خروجنا من الصالة، بخلاف ما تعوده أحدنا من السينما وحكاياتها.
تَماهي المُشاهد مع الشخصيات في الفيلم يأتي طبيعياً، ومن المَشاهد الأولى، ولا حاجة بقدرة كبيرة على الإقناع لدى كين لوتش، فالشخصيات حقيقية بذاتها، ولا تحتاج تطوراً، ومدة زمنية كي يدخل المُشاهد في مزاجها وعالمها ومحيطها ونفسيتها. هذا ما يجعل الشخصيات تشد المُشاهد إلى جانبها باكراً جداً، كأننا نعرفها مسبقاً، من حياتنا الواقعية وكأنهم أشخاص نعرفهم، وكذلك من أفلام لوتش السابقة (لنتذكر أنه صاحب مشروع واحد في عموم أفلامه) لمن تابع المخرج قبل هذا الفيلم، فنفسيات الشخصيات وطبيعة المحيط لدى لوتش هي عملية تراكمية، هي سيرورة تُواصل فيها الشخصياتُ في أفلام جديدة ما بدأته وواصلته شخصيات سابقة لها في أفلام سابقة، مراكمةً عليها القهر الاجتماعي والغبن والظلم، الذي تتعرض له طبقة كاملة من الناس، وبشكل مستمر، من الأفلام السابقة حتى الجديدة، كأن أحدها يكمل معاناة الآخر، ولا تنتهي المعاناة بانتهاء الفيلم، فالنهايات السعيدة، أو الحاسمة وإن كانت حزينة، بعيدة عن هذا الفيلم الذي صرح لوتش بأنه سيكون فيلمه الأخير (في مهرجان كان) لكنه لا يختم به معاناة جميع شخصياته (في جميع أفلامه) فتبدو النهاية في هذا الفيلم مستقطعة من منتصفه، من منتصف المعاناة التي لن تنتهي، طالما بقي العالم مقسماً إلى مستغِلين ومستغَلين، إلى طبقة تغنى على «القيمة المضافة» التي تخرج من كدح الفقراء في أعمالهم.
ينتهي الفيلم من حيث بدأ، فلا يريد لوتش لمشروعه أن ينتهي بنهاية «سينمائية»، وهو يصور الواقع بكل قسوته. ترك لوتش النهاية في فيلمه لتتغير لا في الخيالات المُسقطَة على الشاشة البيضاء الكبيرة، بل للواقع الذي يعيش فيه الفقراء ضمن حلقة مفرغة، تبدأ حيث تنتهي، تماماً كحالة شخصيات لوتش في فيلمه هذا.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد المملكة المغربية:

    اضع بعض الكلمات بلغة الفن دائما ادا سمح لنا المنبر المتميز عن غيره من المنابر مخكئ من ظن بأن السينما انحيازية مخطئ من ظن بأن السينما عمياء لاتبصر السينما فاتحة قلبها لكل الصور السينمائية المرتبطة بالحدث بالقضية وغيرهما لكنها تميز بين هده وتلك السمينة والضعيفة الهادفة والثي لاتهدف لشيء السينما اليوم اكثر هما فالقضايا جد كثيرة منها ماهو من صنع الزمن ومنها ماهو من صنع العقلية البشرية الضعيفة والسينما تعمل جاهدة من اجل الحلول وتكون اكثر حيوية ونشاطا ادا وجدت المخرج المحنك الدي يرسم بحدر من اجل ان تنال نظرته الأعجاب من من كلا الجانبيين السينما والمشاهد لصورة السينمائية لااطيل تحية للكاتب المحترم فنحن نقرأ شرحه لكل الصور الثي شاهدها عبر الشاشة الصغيرة والكبيرة كدالك ونعتدر ادا كان هناك خطأ لم نشعر به

إشترك في قائمتنا البريدية