يستمدُ النشاطُ المعرفي زخمه من أشكلة المفاهيم والمُعطيات الفكرية والظواهر الثقافية، وكون القراءة نواةً في بناء العقل الجدلي، لذلك فمن الطبيعي أنَّ يكونَ السؤالُ بشأنِ الكتاب والعناوين المكونة للمكتبات وأنواع القراء جزءاً من أجندة المشائين في غابة هذا العالم المُمتد على جغرافية الرفوف، والأدراج.
يتخيلُ للمتابع أنَّ المكتبات قد تعاني من تضخمِ المحتوى وندرة القراء، لأنَّ مهنة القراءة، حسب رأي الكاتب المغربي، أصعبُ وأشقُ من مهنة الكتابةِ لذا فمن المتوقع أن نشهدَ عزوفاً عن القراءة مقابل تصاعدِ عددِ الكُتاب والمؤلفين.
على أي حال فهذا مجردُ توقعُ أو فرضية ربما تثيرُ نقاشاً وسطَ صفوة من المُغرمين بالقراءة النوعية. ومن المعلوم إنَّ الوسائط الجديدة تزاحمُ الكتبَ في العصر الراهن. الأمر الذي يضعُ مصير المكتبات أمام تحدٍ أكبر بقدر ما يحركُ الحنين إلى الأجواء التي تَتَصدرُ فيها الكتبُ المشهدَ. ولا تنفصلُ فيها المكتبةُ عن التصميم المكاني.
وما يؤكدُ على وجود إرادة لصيانة المكتبة وعدم تعويضها بما يختزنُ مئات العناوين في كمشة يدٍ، هو التحول إلى الكتابة عن الكتابة، وبرز العديدُ من الأسماء في هذا المجال، لعلَّ الكاتبَ الأرجنتينى ألبرتو مانغويل هو الأشهر من بين هؤلاء. ومن جانبه يتناولُ محمد آيت حنا في كتابه الموسوم بـ»مكتباتهم» دوافع القراءة وشكل المكتبةِ وتوافد الإصدارات إلى أحضانها. مشيراً في هذا السياق إلى آراء المشاهير الذين طابتْ لهم الإقامة في جنة المكتبة، دون أن يكونَ ذلك هروباً من العالم .
المتاهة
يعودُ حنَّا إلى الجذور باحثاً عن جينات القراءة في سلالة العائلة، فيبدو صعباً الاهتداء إلى القارئ الأول في شجرة الأجداد من الأب والأم، فأينما يولي الوجهَ تداهمه رائحة الأرض، لأنَّ الجميعَ كانوا فلاحين، لكن يتناهى إليه بأنَّ أسلاف أمه قد نشأَ بينهم من تلقى الدراسة الدينية، وقد سمع عن وجود مكتبة في تاريخ العائلة لكن عناوينها قد اندثرت. ومن هنا تبدأُ رحلة محمد آيت حنا في المتاهة، إذ كانت الكتبُ حاضرةً في أرومة العائلة غير أنَّ هذه النفائس لم تستقر في الخزائن لذلك بعثرتها عاديات الدهر. واللافتُ في هذه الومضة السيرية أنَّ المؤلف يعلنُ صراحةً بأنَّه تمنى لو كانَ وارثاً للمال بدلاً من الكُتب.
هل يُفهمُ من فحوى كلامه أن تجربة الواقع لا بُدَّ أن تسيق الشغف باقتناء الكتب والاعتكاف على القراءة، أو ينبئ بأن جرثومة المبدأ النفعي قد تسربت إلى تلافيف عقل القارئ؟ على أي الحال فإنَّ المُغرم بِمُفاجآت المتاهة ينبشُ في طبقات البيوت إلى أن يتمَّ تشكيل مكتبةٍ قوامها ما تناثرَ في تربة الآخرين، وفي الواقع أنَّ المؤلف يسرُ بالمديونية للغير من عتبة العنوان. يذكرُ الكاتبُ بقدر الكوكب الذي احتضن الإنسان وملحقاته، ويبدو نَّ الكتبَ بموازاة البشر تزحفُ باسطةً هيمنتها على مزيدٍ من المساحات. والحال هذه يجبُ التفكيرُ في مصير المكتبات في عالمٍ ستتفاقمُ فيه أزمة السكن. هنا يتوقعُ المؤلفُ أنَّ الكتابَ كما هو المتعارف عليه ورقياً هو إلى زوالٍ حسب افتراضه لشكل المستقبل وتحدياته. إذ يتعودُ الأحفادُ على القراءة من خلال حوامل أخرى، وربما يصعبُ عليهم فكَّ الأحرف الراقدة في الحوامل الورقية تماماً كما يشقُ علينا إدراك مغزى الرسوم التي طبعها أسلافنا على جدران الكهوف.
إذن لا تختفي مهنة القراءة، بل تحلُ المكتبات المحمولة في أقراص مدمجة مكان مشهد رص الكتبِ في الهياكل الخشبية، ويرى المؤلف أنَّ قانون الانتخاب الطبيعي ينطبقُ على الكتب أيضاً، إذ تُعدم العناوين كلها ويتم الاحتفاظ بنسخة جيدة الطبع من كل كتاب. ولا يفوضُ نفسه باختيار ما يكونُ مناسباً للأجيال القادمة من العناوين، أو سن المعايير المُتبعة في عملية تحديد المُنتخبات. بالطبع كل ما وردَ آنفاً عن مستقبل الكتب ليس إلا افتراضاً لا يمكنُ البت بصحته من عدمها. يواصلُ محمدُ آيت حنا الحفر في موضوعه الأثير، لافتاً إلى رؤية العديد من الشعراء والمفكرين بشأن المكتبة، فبنظر فالتر بنيامين، المكتبةَ ليست فضاءً لحفظ الكتب حسب، إنما هي سيرورة لا نقع على بدايتها. وما يشدُ الانتباه هو كلامُ محمد آيت حنا عن الطابع الخصوصي في إنشاء المكتبة، والانخراط في عالمها فهذه العملية لن تكون إلا شأناً فردياً. إنَّ إضافة العناوين إلى مكتبة موروثة لا تعدُ سداً للثغرات في هيكليتها، أو استكمالاً لغير المُكتمل، بقدر ما يكونُ تدشيناً لبداية جديدة. كما أنَّ تراكم الكتب والإدمان على جمعها لا يضفي هوية إلى المكتبة ولا تميزاً لصاحبها بل يستمدُ هذا الفضاء تميزه من محتوياته التي تكشف عن التذوق في الاختيار فكان فالتر بنيامين قد أبدى رغبةً باقتناء كتب الأطفال والمجانين.
يتطرق المؤلفُ إلى عراك القارئ مع كل من الوفرة والندرة. وموقفه من تحديات كلتا الحالتين ذاهباً إلى أنَّ الندرة أهونُ، لأنَّ الوفرة تهوي بالحواس نحو الخمول. إلى هنا يفتحُ آيت حنا القوسَ على سؤالٍ قد يكونُ بسيطاً في الظاهر، لكنه لافتٌ للانتباه إلى ظاهرة تضخمَ صُناع الكتب وغياب القارئ. ماذا يكونُ عليه المشهدُ لو صار الجميعُ كُتاباً؟
الأفضلية
ما برحَ الجدلُ يدورُ حول ثنائية القارئ والمؤلف، وشكل العلاقة بين الطرفين، ويدلي كثيرُ من الكتُاب بآراءٍ تنمُ عن عدم الاهتمام بما يقولهُ القارئ، لأنَّ ما يهمهُ بالدرجة الأولى هو حظوته التي يتمتعُ بها لدى النخبة. وفي الواقع أن تلصصَ الكاتب على آراء جمهور القراء، واستراقه السمع لكلامهم يخالفُ ما يُعلنهُ من برجه العاجي. لن تكونَ الأفضلية في برنامج محمد آيت حنا إلا للقارئ فهو المحرك للركود الكامن في طيات الصفحات. إذن فالكلمة للقارئ، لأنَّ الأخير يقومُ بانتشال النص من حصار الصمت. ومن الظواهر التي تغطيها حلقات الكتاب شراءُ القراء مقابل الأموال راح، والكلام على عهدة محمد آيت حنَّا، عددٌ من الكُتاب ضحية لأحابيل هذه المناورات التسويقية. وتقعُ ضمن متابعة المؤلف لأروقة المكتبة على نبوءة الكاتب الأرجنتيني خيولو كورتثار عن استنزاف الورق وإبادة أشجار الغابات، جراء تضاعف عدد الكُتاب. تتضمنُ هذه السردية قصصاً فرعية منها ما يستعيدهُ الكاتبُ عن سيرة مُتخيلة لابن سينا، حيثُ يتسللُ الأخير بصحبة شقيقه إلى مغارة المكتبة التي ستنغلقُ على من يتأخر ولا يخرجُ قبل نهاية المهلة المُتاحة. لا توازي متعة إحصاء الكتب التي قرأناها سوى تذكر جغرافية مكتبات حظينا بالاندساس بين ممراتها، هنا تلوحُ في ذهني ذكرى ارتيادي لمكتبات دمشق بعضها كانت بطابقين وعندما أسالُ عن عنوان حتى لو لم يكنْ متوفراً ما يُخيب صاحب المكتبة أملي إذ يعدني بأنَّه سيطلبه من مكانٍ آخر.
من مواصفات المكتبات بما فيها المكتبة الشخصية، حسب رأي حنَّا، التبدل ومتعة الاكتشاف والمُفاجأة علماً بأنَّه لا يوجدُ مهندس سوانا قد تكفلَ ببناء زاويته التي تمتدُ مع شروعها على المزيد من العناوين. ما يخلف الشعور بالاختناق بالنسبة لمحمد آيت حنا هو الازدحام في المكتبة، وغياب الفراغ في تكوينها. وكان الشاعر السويدي ترونسترومر شغوفاً بمكتبة واقفة في الفراغ لأنَّ ما يشاهده ينبئ بالاستعداد لاستقبال مزيد من الكتب.
ونحن بصدد الحديث عن المكتبة قد يخطرُ على البال سؤالُ، هل هناك عمر محدد للقراءة؟ إذا كان المرءُ لا يمكنهُ أن يتابعَ القراءة عندما يبلغُ من العمرِ عتيا، لماذا يجمعُ الكتب بالاستمرار؟ يرى محمد آيت حنا أن رؤية المكتبة وحدها وإمكان لمس الكتب من حين لآخر يخلفان في النفس لذةً، ما يعني أنَّ المداخل إلى عالم الكتب متعددة إذ يكفيك أحياناً تأمل محتويات المكتبة أو تصفح العناوين النادرة، أو إعادة ترتيب الكتب لالتذاذ بروح المكان. ما يثيرُ الاستغراب هو قسوة آيت حنا في رأيه عن الكتب التي تغادرُ المكتبة في عرفه ما يخسرُ جدارة البقاء ضمن كتبك المفضلة، لا يحقُ له الارتحال إلى جغرافية مكتبة أخرى .
نشأة القارئ
لا يولدُ الإنسانُ قارئاً، وقد لا يدينُ إلى المؤسسة أو الأسرة أو المدرسة في اختياره المُصاحبة للكتب، واتخاذه المكتبة معبداً للفكر. يقول سارتر إنَّه قد تعلمَّ القراءة من خلال تقليبه لصفحات كتاب «بلا عائلةٍ» لإكتور مالو. إذن القراءة انزياح عن السياق المألوف وتثوير للمناخ الراكد، ربما يوجدُ من لا يوافقُ آيت حنَّا في قوله إنَّ القراءة ما هي إلا نمط للوجود، ولا يكتسبُ المرءُ مرتبةً شرفيةً بانخراطه في هذا المضمار لكن هذا الرأي يعبرُ عن ضرورة التواضع في الاشتغال المعرفي. والأهمُ مما يجبُ أن لا يغيبُ في أجندة القارئ هو الإدراك لصنفين من الكتب أحدهما يوهمك ولو للحظة بأنَّه أصبحَ بديلاً لغيره، ويملأنا حد تعذر قراءة أي كتاب آخر بعده، فيما الآخر يفرغك من التراكمات الناجمة من القراءات، ويسحبُ الأوهام الناشئة من التماهي مع العناوين التي أخذت بتلابيب العقل والقلب. صفوة القول عن مضامين كتاب محمد آيت حنا أنَّه تمكن من أن يحول فعل القراءة إلى مفهوم إشكالي تتوالدُ في إطاره سلسلة من الأسئلة الجوهرية. يتخيل بورخيس الجنة في شكل المكتبة، لكن قد يكون في الجنة ما يشغلنا عن الكتب لذلك من الأفضل أن لا يبدأُ من الآن التصارعُ على الكتب بين أصحاب الجنة وأهل النار.
كاتب عراقي