أن يتكلم المرء في عجالة على كتابين صدرا في وقت واحد تقريباً، قبل نحو 55 عاماً، ليس بالأمر المألوف. لكن في أوضاع اليوم ما يدعو إلى قول شيء عن كتاب «عرب ويهود» لسامي الجندي (دار النهار، 1968) و«سقوط الجولان» لخليل مصطفى، الذي عُرِّف على غلاف الكتاب بأنه «ضابط استخبارات الجولان قبل الحرب» (ليس معروفاً اسم الناشر ولا تاريخ النشر، لكن الكتاب صادر قطعاً قبل عام 1970).
الجندي من الرعيل البعثي الثاني، كان وزير إعلام، ثم سفيراً في فرنسا، وهو كاتب مثقف، لطيف الأسلوب. الرجل سجن لبضعة أشهر في دمشق عام صدور الكتاب، وخرج من سوريا بعدها، ولعله اقترب من النظام الأردني لبعض الوقت. إذ أن كاتب مقدمة الكتاب هو «الحسين بن طلال» ملك الأردن وقتذاك ووالد الملك الحالي.
سامي الجندي وفيٌ لما ختم به مقدمة كتابه: «أني أرفض، مع ذلك، ورغم كل ما حدث [النكبة ثم النكسة]، أن أغمس ريشتي في محبرة الحقد. ومن هذا المنطلق سأعالج القضة الفلسطينية». هذا لا يعني بحال أنه كان محايداً في كتابه، فموقفه ثابت في نقض شرعية المشروع الصهيوني، لكنه يقوم بذلك بهدوء لافت ودون انفعال، كأنما لم يكن بعثياً يوماً.
مما يتكلم عليه الكتاب في صفحاته الأولى أصدقاء يهود دمشقيين للمؤلف اضطربت حياتهم وقت قيام إسرائيل، وتوزعت مواقفهم بين مقاتلة تحمل السلاح في صفوف جيش إسرائيل ضد الفلسطينيين، وبين منتحرة في دمشق، وبين من ذهب إلى فلسطين واعداً بأن يقطن قرية عربية، ولا يتكلم بالعبرية.
يوفر الجندي معلومات عن تاريخ اليهود في أوروبا، وعن ظهور الحركة الصهيونية تنمُّ على اطلاع مميز حتى بمقاييس اليوم. ويغطي الحرب العالمية الأولى والمعاهدات السرية بين البريطانيين والفرنسيين (والروس قبل ثورة أكتوبر 1917) ووعود الأولين المتناقضة للعرب واليهود والفرنسيين. كما يعرض لنضالات الفلسطينيين أثناء الانتداب البريطاني الذي كان أول مندوبيهم السامين، هربرت صموئيل من المسؤولين في الحركة الصهيونية. وبحس مرهف يقول الجندي أن العرب عانوا من «أزمة ضمير» وقت الحكم النازي واضطهاده لليهود، ورؤيتهم (العرب) بؤس من تمكنوا من اليهود من الهجرة إلى فلسطين. ومن جهة أخرى كان عرب فلسطين يخشون أن يطردهم هؤلاء القادمون من أرضهم. كان هذا «أكبر مأزق تعرض له العرب في تاريخهم». وينفي الكتاب الدعاية الصهيونية عن تعاطف العرب مع النازية، ممثلاً بالمفتى أمين الحسيني الذي يظهر في صفحاته رجلاً طموحاً ومغامراً في بداياته، ثم معادياً للمحتلين البريطانيين والصهيونيين العاملين في كنفهم. ويفسر الجندي الأمر بأن «العرب يحبون الألمان» وهم يعانون في توحيد بلادهم مثلما عانى الألمان، كما كانوا ضحايا معاهدات الصلح، فرساي تحديداً، مثل العرب. «أما المظالم التي لحقت باليهود فلم يؤيدها عربي واحد، لا بالقول ولا بالفعل» والذين «زعموا مثل هذا الزعم لم يستطيعوا دعمه بدليل». أما «الحركات الثورية في فلسطين فلم تكن غير محاولة للتشبث بالأرض. ولو جاء البلاد شعب آخر غير اليهود لما اختلف موقفهم».
أمريكا وبريطانيا وفرنسا قد ضمنت حدود إسرائيل (وهي ليست حدود قرار التقسيم عام 1947) في اتفاق ثلاثي عام 1951. هذه الدول الثلاث أعربت عن استعدادها لبيع السلاح للطرفين، العرب والإسرائيليين
صارت المعلومات عن بنية وعدد وعدة القوات الصهيونية معروفة على نطاق واسع اليوم، لكن لعلها لم تكن كذلك قبل أكثر من نصف قرن. الجندي يعرض معرفة طيبة في هذا الشأن، وفي شأن نشاط الصهيونيين في الغرب. يقول إن الصهيونية صورت نفسها للأمريكيين كحركة تحرر «شبيهة بحركة التحرر الأمريكية من انكلترا». كان تسلح العرب بالمقابل ضعيفاً ومحدوداً. الجيش السوري مثلاً كان كامل عديده 8460 جندياً.
ويعيد الجندي إلى النكبة ومفاعيلها الصادمة تدخل العسكريين في السياسة، واتهام السياسيين بالمسؤولية عن الهزيمة، والحضور الكبير لكلمة العار في «نفسية كل عربي». وينفي المؤلف الرواية الرسمية الإسرائيلية التي كانت مقبولة في الغرب بأن الفلسطينيين تركوا أرضهم بأوامر من القادة العرب، وهي السردية التي سيفندها المؤرخون الإسرائيليون الجدد لاحقاً.
يورد الجندي معلومة لا تبدو معلومة في ما يكتب عن الصراع العربي الإسرائيلي، وهي أن أمريكا وبريطانيا وفرنسا قد ضمنت حدود إسرائيل (وهي ليست حدود قرار التقسيم عام 1947) في اتفاق ثلاثي عام 1951. هذه الدول الثلاث أعربت عن استعدادها لبيع السلاح للطرفين، العرب والإسرائيليين، على ألا يستخدم ضد أحد الطرفين.
وعن اتفاقية التعويضات الألمانية لإسرائيل عام 1953، يقول الجندي كلاماً لا يزال سديداً: «التكفير عن الجريمة لا يكون بجريمة أخرى، ولا يجب أن يحل محل معسكر اعتقال في الأرض الألمانية معسكر لاجئين على الأرض العربية، وبحجة التكفير عن الخطايا».
صباح 5 حزيران 1967، قابل الجندي الذي كان سفيراً لسوريا في فرنسا وزير الخارجية الفرنسي، وسأله: « من بدأ بإطلاق النار؟» أجاب الوزير: «يزعم كل من الخصمين أن الأول هو البادئ». قبل أن يضيف: «لماذا سحب عبد الناصر قوات الأمم المتحدة؟» ما يشبه هذا «البرنامج» المراوغ جرى تشغيله في الشهور الأخيرة التالية لـ«طوفان الأقصى».
وبلغة مألوفة من جيله يقول الجندي: «المعركة في الحقيقة بين التطور وعدمه» لكنه يضيف: «بين الشعب العربي المستيقظ حديثاً وبين نخبة منتقاة من العالم أجمع». في النهاية، «القتال هو دائماً قتال الغد».
على عكس كتاب الجندي، كتاب خليل مصطفى مكتوب بغضب وبلغة اتهامية حادة. وخلاصة ما يريد المؤلف قوله هو أن «القوات الإسرائيلية قد دخلت الأرض السورية حسب مخطط تآمري أعد مسبقاً ووضعت مقدماته ونتائجه بعض السفارات، وأتم إكمال ملامحه وجوانبه في العواصم الغربية». مصطفى لا يقدم برهاناً مقنعاً على ما يقول، يستدل عليه من أشياء قالها بعبارات مرسلة: تسريح الجيش وإبداله بجيش غير اختصاصي، تدمير الاقتصاد في البلاد، عدم إعلان التعبئة العامة، تصنيف سكان البلاد إلى مواطنين من فئات متدرجة، سن الحرب الضارية وبكل الوسائل القذرة على عقيدة الأمة وإيمانها، خنق الحريات وملاحقة رجال الفكر، إشاعة الفوضى والانحلال في الأخلاق وتشجيع السفلة في الاجتراء على مقدسات الشعب ومعتقداته (يحيل هنا إلى مقالة إبراهيم خلاص في مجلة «جيش الشعب» قبل أسابيع من حرب حزيران، ويرد فيه ضرورة إحالة الله والدين إلى متحف التاريخ). المتهم في سردية مصطفى هو حزب البعث وفريق الشباطيين الحاكم وقتها: نور الدين الأتاسي وصلاح جديد وإبرهيم ماخوس ويوسف زعين وحافظ الأسد وأخوه رفعت وسليم حاطوم وأحمد المير وأحمد سويداني… من باب ذكر أسماء ترد في كتابه.
مصطفى يعطي الانطباع بأن جذر الهزيمة هو الخيانة، ضلوع من يحكمون البلاد في مؤامرة لمصلحة العدو. لكن في واقع الأمر هناك جذر مستمر للهزيمة هو ما حولها من حدث مضى وانقضى إلى بنية مستمرة: الغباء والركاكة وقلة الكفاءة والسطحية الفكرية والنفسية مما كان طابع الحكم البعثي وقتها واليوم، ومما هو استعداد قوي في مجتمعنا، رسخ منه التقييد السياسي المديد. بشار الأسد ليس عميلاً لإسرائيل. إنه أسوأ من ذلك بكثير: تافه وضحل وعديم الحس بالمسؤولية. حين ننظر اليوم، بعد 55 عاماً من كتاب مصطفى إلى من يديرون منطقة الشمال السوري، نقتنع أكثر أن الركاكة والرثاثة والتفاهة هي المشكلة، وليس بحال العمالة للعدو.
ومن المحزن أن مصطفى يحيل إلى «بروتوكولات حكماء صهيون» في قائمة مراجع كتابه. ليست المشكلة أنه لا يعرف أن هذا كتاب منحول ألفه ضابط في البوليس الروسي القيصري في مطلع القرن العشرين، المشكلة أن «الشبيه يجذب الشبيه» وأن منزع «ضابط استخبارات الجولان» الاتهامي والمؤمن بالمؤامرات يضعف أي تبصر نقدي عنده، فيجد في كتاب ضابط الشرطة القيصرية سنداً لأفكاره. لكن هذا نزع الصدقية عن كتابه بقدر كبير. وما يسوغ الاهتمام بهذه النقطة هو أن ما يشبه هذا التكوين الفكري النفسي، الغاضب والاتهامي والمشتبه بعملاء في كل مكان، لا يزال منتشراً في بيئات اجتماعية سورية تشبه تماماً تلك التي ينحدر منها مصطفى، ولا تزال مثله تشتبه في خيانة الجميع وتعجز عن مساءلة نفسها.
كاتب سوري