يُعد عزت الطيري في مقدمة الشعراء «خفيفي الظ»ل، إذ تبدو خفة ظله واضحة في مسامراته وحكاياته، كما تبدو هذه الخفة أيضا في قصائده الساخرة، التي يلعب دور البطولة فيها قط أو كلب أو سواهما. الطيري الذي اختار أن يبقى ويستقر في نجع حمادي في أقاصي صعيد مصر، لم يمنعه بقاؤه هناك من أن يتجاوز حدود المكان، وأن يصل إلى عين وأذن القارئ في كل مكان، سواء في مصر أو في خارجها. وكم شارك في ندوات ومنتديات وفعاليات شعرية وإبداعية هنا وهناك.
هنا، وبمناسبة صدور أحدث دواوينه «قطة صالحة للحزن» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، نحاوره لنكشف عن جوانب من حياته لا يعرفها الكثيرون، ولنعرف أيضا علاقته بالشعر والحياة.
□ بداية من هو عزت الطيري ؟
■ عزت الطيري هو الطفل الكبير الذي أنهى حياته الوظيفية بعد 40 عاما من الكد على درجة المدير العام، ولم يتقاض من خدمته سوى ثلاثين ألفا من الجنيهات، يأخذ أضعافها عشر مرات، أقل عامل في الكهرباء أو مصلحة الهاتف والبرق، وما زال يشارك الأطفال طفولتهم، ويقص عليهم حكاياته التي لا توفرها لهم مواقع التيك توك ومسلسلات الكرتون المدبلجة، ويمتلك حديقة مكتظة بأشجار المانجو والتفاح، ولا يحرسها كما يحرس أصحاب الحدائق حدائقهم من الأطفال السارقين الطامعين في ثمرات قليلة يحملونها إلى أمهاتهم الفقيرات، بل يوفر لهم ويمنحهم فرصة السرقة كاملة.
□ ماذا يمثل لك الشعر وكيف ترى القصيدة في السنوات الأخيرة؟
■ الشعر هو واحة الأمان حين يسود الرعب والخوف، وهو الظل الظليل الأخضر ذو النسيم حين يحاصرني صهد الحياة، وهو الشاطئ الفاتن الذي أقضي على رماله، وبين قواقعه وصدفاته ونوارسه، أجمل لحظات عمري. أنا مخلوق من شعر، بل أنا كائن شعري أعيش الشعر وأعيش بالشعر، وأحوّل كل شيء حولي إلى قصائد، وأتعامل مع الكائنات من حولي كمخلوق يحس ويشعر ويبكي ويتألم، فتصبح الشجرة إنسانة تخاف من فأس الحطاب وتستعطفه، فمن ورائها فروع صغيرة وأغصان غضة تحتاج إلى رعايتها، فأربت على صدرها وأقول لها، إن الحطاب أصابه الوهن، وفأسه أصبحت ثالمة أصابها الصدأ. وأحذر الأسماك من غواية الدودة اللامعة البيضاء، ففي آخرها صنارة الصياد الماكر وشباكه، وأتوقع منها أن تستجيب لتحذيراتي. الشعر ليس بخير، بعد أن سقط الشعراء كبارا وصغارا في فك الجوائز العربية ، فانكب الشعراء يكتبون ما يروق للجان التحكيم والقائمين عليها، وما يطلبونه منهم فسادت القصائد العمودية بأسلوبها المدرسي، وابتعدت عن الخوض في السياسة والدين والجسد.. وقد يستجيب الشعراء لإغراءات المجلات التي تنشر شعر الحداثة، التي يرأسها حداثيون ويجلبون لها محررين من لبنان وبلاد الشام ودول المغرب، فامتلأت صفحاتهم وكتبهم بشعر أقرب إلى الشعر المترجم، فصار حافلا بالصور الغريبة والإيحاءات الجنسية، ولم نعد ندري هل هذا شعر، أم نثر أم تأصيل للأيروتيكية المختفية بين سطورهم؟ ولأن البعض دخل الشعر بلا موهبة حقيقية، استسهلوا كل شيء واستوردوا لنا مذاهب جديدة وأشكالا جديدة مثل قصائد الهايكو، وكأنهم يقلدون شعراء اليابان وحين كتبوها، كتبوها بسذاجة متناهية وتخلف كبير وتدن مبالغ فيه، مثل القطة على الشجرة: مواء أخضر.
□ ماذا أخذت من الشعر؟
■ أكون جاحدا إذا قلت إن الشعر لم يعطني شيئا، فقد أخذت منه السكري وضغط الدم المرتفع وفقر المناعة، الذي جعلني فريسة سهلة لكوفيد 19 الشهير بكورونا، فصرت بين يوم وليلة أشهر المصابين به.
أعطاني الشعر، وقد اكتشفت ذلك أخيرا كرها شديدا من قوم كنت أظنهم أصدقاء، فإذا بهم يحسدونني لأني حققت ما عجزوا عن تحقيقه، وأنا بعيد عن أضوائهم وأعراسهم ومهرجاناتهم ومؤتمراتهم التي يقيمونها في عاصمتهم، ووصولي بإبداعي إلى مكانة عالية، رغم أنني بلا شلة تطنطن لي وبلا حزب يتبناني، أو جماعة ترشحني للجوائز والمؤتمرات الخارجية. أعطاني الشعر أيضا حب الناس وتعاطفهم معي وانتظارهم لكل نص أكتبه، وخوفهم عليَّ أثناء محنتي المرضية التي غبت فيها عنهم، وفقدت معظم حواسي. الشعر أعطاني حب الناس لي واهتمامهم دون سابق معرفة، فجعلت قامتين نقديتين في مصر والعالم العربي يمنحان شعري فرصة العمر، ويفتحان لي نافذتين كبيرتين لأطل منهما على العالم، الأول هوعبد القادر القط في مجلة «إبداع» والثاني هو رجاء النقاش من خلال مجلة «الدوحة» في عصرها الذهبي، وجعلت شاعرا شابا هو الشاعر العراقي لؤي حقي، يدعونى وأنا دون الثلاثين لأمثل مصر في مهرجان الأمة الشعري للشعراء الشباب في بغداد، وجعلت شاعرا عربيا هو محمد الفيتوري، سألوه عن الشعر في مصر فقال عزت الطيري، ولا أنكر تشجيع الروائي جمال الغيطاني، حين قال للأديبة الصحافية بركسام رمضان، أقيمي حوارا مع عزت الطيري فأجرته على حلقتين ، وأوحت أشعاري إلى الناقد حامد أبو أحمد، أن يكتب مقالا عني في «أدب ونقد» جرّ عليه المشاكل وظلوا يحاربونه حتى مات كمدا. يسر لي الشعر أن أزور بلادا كنت أزورها في الأحلام، فحلمت أن أمشي على شاطئ دجلة فمشيت في زيارتي الوحيدة لبغداد، وحلمت أن أرى الفرات فرأيته في زيارتي لمدينة الرقة.
الشعر هو المغامرة
□ ما هى رؤيتك للشعر؟
■ ليس الشعر كما يراه البعض، وكما قال القدماء، كلاما جميلا موزونا مقفى، أو موزونا فقط أو غير موزون وتكفيه موسيقاه الداخلية، كما يقول شعراء النثر، الشعر في اعتقادي هو الحرام الحلال، وهو المغامرة التي لا تؤمن عواقبها، وهو تفجير اللغة دون تناثر شظاياها، بل الوصول بها إلى أقصى ما فيها من تجليات وهو ليس ترفيها للنفس ونفوس الآخرين أو تزجية لوقت الفراغ، بل هو الفراغ اللانهائي، الذي لا تحده سماء. الشعر ليس استعطافا للحبيبة والمثول تحت أقدام روعتها، أو صراخا في البرية، أو مناشدة للحكام لكي يرفقوا بالمحكومين، وليس أناشيد وطنية نغنيها وقت الأزمات، وليس اقتحام الواقع والالتحام به، كما كان يقول شعراء الخمسينيات، دع سمائي فسمائي محرقه.. واحذر الأرض فأرضي صاعقة ولا هو تهويمات وغموض مفتعل وتراكيب كيميائية كما كان يفعل السبعينيون، والشعر بعد ذلك هو خليط من ذلك كله ونقيض لكل ذلك كله. والشاعر الحقيقي هو من يكون مثقفا قبل الولوج إلى القصيدة، وأن يكون دارسا ومعاصرا للتاريخ والفلسفة وعلم النفس والموسيقى والفن التشكيلي وعلى دراية بجغرافيا الكون وأساطيره ومنحوتات معابده وكتاباته المسمارية، لكي يكتب القصيدة المغايرة والمخالفة للسائد. في الحقبة الأخيرة من مراحلي الشعرية التي بدأت في أول السبعينيات، لجأت إلى القصيدة القصيرة، أو قصيدة الومضة كما يقوم بتدليعها شعراء الحداثة التي تقول كل شيء في كلمات قليلة، وقد استدعي حادثة تاريخية، أو موقفا فلسفيا، أو تكون الومضة لوحة تشكيلية أو معزوفة موسيقية، وقد أحوّل المألوف إلى اللامألوف أو العكس، وأحيانا أكتب القصيدة المركبة من ناحية الموسيقى وتعدد الأصوات.. في اختصار القصيدة الجيدة عندي هي لغة جامحة وصور فريدة ومفارقة لا يتوقعها القارئ، وكما يسمونها كسر المتوقع، وتظل بعد ذلك الموسيقى.