عزلة الأشياء الضائعة… النص الذي واجه الموت

«لم أكن أكتب كنت أقرضُ أوجاعي»هكذا كتبت إيلين سيكسو الكاتبة الفرنسية عندما تحدثت عن الوجع الذي عايشته مع والـــــدتها طوال فترة مرضها حتى وفاتها، «ماتت أومير» كان هذا عنوان كتابها الذي نقلـــت فيه تجربتها الذاتية مع الموت فانطلقت بها من الخاص لتلامس العام.
يكشف الكاتب ألمه للعلن فيراوغ الموت واضعا قسوة الكتابة مقابل قسوة الحياة، جاعلا لتلك الأنا المحطمة القدرة على المقاومة ومواصلة السير وسط العاصفة. على غرار أيلين سيكسو صدرت لناقد لونيس بنعلي «عزلة الأشياء الضائعة… القصة المريبة لمصرع موراكامي» عن الجزائر.
تدور أحداث الرواية في مصح عقلي بين زاهر أدهم وطبيبه النفساني، مريض نفسي أراد الانتقام لموت والده عن طريق قتل الكاتب الياباني هاروكي موراكامي، كيف لبطل القصة الخيالي أن يقتل كاتبا حقيقيا؟ انطلاقا من هذه المفارقة نستطيع فهم المزج بين ما هو واقعي وخيالي في القصة، فمحاولة القتل هنا هي في الحقيقة قتل مجازي قام به البطل، لاعتقاده أن لموراكامي علاقة بموت والده، وازداد يقينه بعد أن وجد تلك الرسالة التي تركها له ميمون، كلاهما يفقد عزيزا بينما كانا يقرآن «الغابة النرويجية». «هل أنت كاتب لعين؟ أنا أسأل عن علاقة موت أبي بروايتك «الغابة النرويجية» أنت مجرد روائي مجرم».

أخذنا لونيس بنعلي عبر هذه الهلوسات إلى منطقة اللاعودة، حيث لا نستطيع التراجع لفهم إن كنا على أرض الواقع، أو أننا تائهون داخـــل مخيلة كاتب تاخم عقله الجنون.

مجموعة أسئلة توجه بها زاهر لصاحب كافكا على الشاطئ في شكل رسالة أرسلها طالبا منه اللقاء لمحاكمته على موت والده، يأخذنا لونيس بنعلي عبر هذه الهلوسات إلى منطقة اللاعودة، حيث لا نستطيع التراجع لفهم إن كنا على أرض الواقع، أو أننا تائهون داخـــل مخيلة كاتب تاخم عقله الجنون، تتطور الأحداث داخل غابة الجبل الأزرق حيث يلتقي البطل بموراكامي فيستغرب من هيئته التي تشبه هيئة عجوز محدودب الظهر، ثم يصادف أم صديقه ميمون وفتاة ترتدي ثوبا أزرق ثبت في النهاية أنها الموت، وأخيرا يلتقي البطل بوالده الذي ساعده على تضميد جرح معصمه ودفعه إلى مغادرة الغابة، مازال الأب يقوم بدور الحامي والمرشد، وهكذا تتغير العلاقة من علاقة عمودية إلى علاقة أفقية فيتبدد ذلك الصمت بين الطرفين.
ليس بالهين أن تقف في مواجهة الموت فبعد أن يرحل عنك أقرب المقربــــين تشــعر وكأنك تقف على أرض متحركة لا تعرف متى تغـــوص قدمـــاك وتبتلعك رمالها، لهذا توجب عليك الصمود حتى النهاية والعــــزم على البداية من جديد، «في كـــل يوم نتغير قليلا، والشخص الذي كنــــاه البارحة قد مـــات. إذن لماذا نقول إننا نخاف من الموت، طالـــما أنه يأتيـــنا كل يوم ويمسنا طوال الـــوقت». هكذا تحدث جون أبدايك عن الكتابة والموت.
يستطيع المطلع على روايتي موراكامي ولونيس بنعلي أن يلحظ التشابه بين موضوع النصين، فكلاهما اتخذ من ثيمة الموت المحور الأساسي الذي تدور حوله أحداث الشخصيات، فتتداعى حياة أبطال كلا الروايتين وتغيب الحدود الفاصلة بين الخيال والواقع والوعي واللاوعي، ويتماهى الكاتبان أيضا في اختيار إطار مكاني مشترك ألا وهو المصح النفسي ثم الغابة حيث تقع أحداث كلا الروايتين. من الواضح أن لونيس بنعلي أراد أن يبلغنا أن الموت يمثل جزءا من حياتنا وليس نقيضها، وأن عملية الكتابة ما هي إلا طريقة لتًخفيف من حدة الألم والخروج بنا من ثقل وطأته علينا، فهي الوسيلة لتليين ما لا يطاق من الواقع حتى لو كان عن طريق إيهام أنفسنا المتعمد.

٭ كاتبة تونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مصعب:

    مقال جد رائع .. لغة سليمة وجميلة .
    كنت قد انطلقت سابقا في قراءة العمل ثم توقفت عند الصفحة 40.
    هذا المقال دفعني إلى مكتبتي لأحمل العنوان مجددا وأقرأه كاملا.
    تحياتي

  2. يقول Bassam hachem:

    عصفوري الصدفة
    يوم حافل في المغرب العربي ..
    قرات اليوم مصادفة عن الناقد الجزائري لونيس بن علي ولأني لا اعرف ىشيء عنه
    قررت البحث في الشبكة عن اي معلومات عنه .. حتى وصلت إلى كتابه هذا الذي انوي قراءته
    لك خالص الشكر على هذه الإضاءة
    التي اغنت معارفي أكثر عن الناقد الجزائري
    وعرفتني اليك أيضاً .. فربحت عصفورين
    بصدفة واحدة ..
    دمت بكل خير وعافية سيدتي ..

إشترك في قائمتنا البريدية