عزلة نتنياهو وعزلة الأسد

حجم الخط
0

بعد الطلب الذي تقدم به المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان لإصدار مذكرة توقيف بحق بنيامين نتنياهو (ووزير دفاعه يوآف غالانت) اشتد طوق العزلة حول عنق رئيس الحكومة الإسرائيلية، حتى لو استنكرت واشنطن ذلك. حتى فرنسا، وهي من الدول الغربية دائمة العضوية في مجلس الأمن، دافعت، في تعليقها على هذا الخبر، عن استقلالية المحكمة واحترام قراراتها، في حين جاء النقد من كل من بريطانيا وألمانيا أكثر اعتدالاً من هجوم الرئيس الأمريكي جون بايدن الحاد على القرار.
أما بشار الأسد فقد ظهرت عزلته الخانقة في اجتماع القمة العربية في صورة صمت من المرجح أنه أرغم عليه شرطاً لحضور القمة. فهو ليس بالشخص الذي يلزم الصمت في مناسبات كهذه، بل عادةً ما يطلق العنان لنفسه في الكلام الفارغ الذي لا يتجاوز المزايدات الرخيصة والتفلسف التافه وتوبيخ القادة العرب و«تثقيفهم» بما تيسر من «مخزونه». يبدو أن بعض القادة العرب قد «نصحوه فأقنعوه» بأن صمته قد يكون أكثر بلاغة من كلامه!
أما نتنياهو الذي أطلق حرباً وحشية على قطاع غزة لإنقاذ مستقبله السياسي أكثر مما للأهداف المعلنة من الحرب التي فشل فشلاً ذريعاً في تحقيقها، وتزداد احتمالات فشله كلما أوغل في إجرامه، مراكماً بذلك أدلة إضافية كل يوم على مسؤوليته عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي شكلت سبباً لطلب المدعي العام. ومن المحتمل أن يشكل قرار كل من إسبانيا وإيرلندا والنرويج الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة سابقة تليها قرارات مماثلة من دول أخرى بما يمهد الطريق، دبلوماسياً، لتبني المجتمع الدولي حل الدولتين الذي سيكون من المتعذر على واشنطن رفضه. ولا تقتصر عزلة نتنياهو على النطاق الدولي، بل كذلك تشتد عزلته الداخلية كلما انخفضت فرص إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس بسبب تعنته في المفاوضات معها بشأنهم، وكلما ارتفعت أعداد القتلى والجرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي في غزة أو في شمال إسرائيل. حتى داخل حكومته أخذت تبرز أصوات اعتراض لا يمكن لنتنياهو تجاهلها.

قرار إسبانيا وإيرلندا والنرويج الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة سابقة تليها قرارات مماثلة من دول أخرى بما يمهد الطريق، دبلوماسياً، لتبني المجتمع الدولي حل الدولتين

ويقصد بالعزلة السياسية، عموماً، انفراد دولة، من خلال مواقف حكومتها، بالخروج على إجماع أو رأي غالب في المجتمع الدولي، وهذا ينطبق على كل من إسرائيل ونظام الأسد بدرجات وصور مختلفة، ولا يقتصر عليهما بطبيعة الحال. فالإدارة الأمريكية، مثلاً، وجدت نفسها معزولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة حين صوتت، مع بضع دول بينها إسرائيل، ضد قرار الأخيرة بشأن الاعتراف الكامل بدولة فلسطينية مستقلة، في الوقت الذي تشهد الجامعات والشوارع في المدن الأمريكية مظاهرات كبيرة تنديداً بالمجزرة الإسرائيلية المتواصلة في قطاع غزة وتضامناً مع الشعب الفلسطيني. كذلك استخدام روسيا والصين المتكرر لحق النقض في مجلس الأمن كلما تعلق الأمر بمشروع قرار موجه ضد جرائم نظام الأسد في سوريا قد وضعهما في عزلة سياسية عن التوجه العام في المجتمع الدولي. ومثلهما واشنطن التي صوتت، قبل أشهر، ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، قبل أن تضطر للموافقة على مشروع قرار آخر أدخلت عليه تعديلات تخفف منه.
وتختلف الدول في درجات تقبلها للعزلة السياسية وإن كانت تسعى عموماً للإفلات منها بسبب تداعياتها على صورتها وعلاقاتها الدولية. فليس ثمة دولة في العالم ليست في حاجة إلى شبكة أمان من العلاقات الجيدة مع الدول الأخرى، فقد تكون في أشد الحاجة إليها في الملمات، حاجتها إلى علاقات اقتصادية وتجارية وتكنولوجية وثقافية وعسكرية، وإلى حلفاء في الحروب أو الأزمات الداخلية أو الكوارث الطبيعية. ولعل دولة إسرائيل هي الأشد حاجة بين دول العالم إلى حلفاء وأصدقاء وحتى محايدين، بالنظر إلى تاريخها الذي هو تاريخ حروب مع جيرانها ومع الفلسطينيين، ويشعر بالنفور من سياساتها حتى أكثر حلفائها وفاءً، ويضطرون لممارسة الضغوط عليها بين الحين والآخر بسبب تطرفها وخروجها المستمر على قواعد القانون والأعراف الدولية، ورفضها لقرارات مجلس الأمن، وإفشالها للتسويات السلمية التي جاءت دائماً لإنقاذها من نفسها. لذلك نراها لا تعلن مسؤوليتها عن كثير من أعمالها العدوانية ضد الدول المجاورة، بما في ذلك إيران البعيدة عن حدودها، لكي لا تلاحقها الاتهامات بخرق القانون الدولي في المحافل الدولية.
وثمة أنظمة أيديولوجية تكاد ترحب بالعزلة الدولية في وسائل إعلامها وفي خطابات زعمائها، وإن كانت في الحقيقة تعاني بشدة من تلك العزلة بسبب تبعاتها الاقتصادية والسياسية التي يمكن أن تكون مؤلمة جداً. فهذه الأنظمة تبيع عزلتها لجمهورها المفترض في الداخل على أنها فضيلة «بسبب مواقفها المبدئية المشرفة» حسب زعمها. هذا ما حاول إعلام النظام السوري أن يقوم به مثلاً في أعقاب القمة العربية في المنامة، حين برر التزام الأسد الصمت في القمة العربية الأخيرة في المنامة بأنه لم يشعر في حاجة لتكرار «مواقفه الثابتة»! وكأن الأمر يتعلق بمنتدى فكري لإبداء الرأي وتسجيل المواقف وليس اجتماعاً سياسياً تصدر عنه بيانات وقرارات ومبادرات تهم الدول العربية بمجموعها وكل دولة منها، بصرف النظر عن الرأي في هزالة ما يمكن أن تنتجه القمم العربية، فهذا موضوع آخر. ولكن إذا جاز لنا تقييم صمت الأسد في قمة المنامة، يمكننا اعتباره إنجازاً يسجل له، بل هو الإنجاز الأول والوحيد منذ وراثته حكم سوريا عن أبيه قبل 24 عاماً. هو إنجاز لأنه كلما تحدث، في الاجتماعات السياسية أو على وسائل الإعلام تسبب في كوارث بعضها لا يقتصر على الجانب اللفظي، ولا تقتصر آثارها على محكوميه، بل يتأذى منها نظامه أيضاً.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية