عشرة أعوام على البركان العربي: عمل غير منجز كشف هشاشة النظام الديكتاتوري وضعف نظام ما بعد الاستعمار

إبراهيم درويش
حجم الخط
0

مرت عشرة أعوام على انطلاقة ما عرف بالربيع العربي الذي جدد الآمال بعالم عربي وشرق أوسط جديد غير الذي تخيلته الولايات المتحدة وإسرائيل، وحاول الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز رسم ملامحه في كتاب شهير، أي عالم عربي تتسيده الولايات المتحدة ووكيلتها إسرائيل بالمنطقة.

ومن صور الفوران الشعبي والتغطية الحية من ميدان التحرير في القاهرة وقبلها تظاهرات شارع بورقيبة في تونس التي كانت تتويجا لمسيرة احتجاج على حرق الشاب محمد بوعزيزي بسبب إهانة كرامته وحرمانه من قوت عيشه، ظن الكثيرون أن أملا جديدا ولد ومعه عالم عربي محمل بالوعود والإمكانيات.

ولم تمض سنة إلا وتحولت صرخات “خبز، حرية، عدالة اجتماعية” إلى حطام وشتاء عربي قاس. فالثورات أسقطت أربعة ديكتاتوريين تسيدوا الرواية في أوطانهم لأكثر من قرن بينهم إن جمعنا عدد السنوات التي حكموا فيها بلدانا عربية مهمة. وولدت أجيال عربية لم تعرف من العالم إلا رئيسا واحدا ظل يجدل لها التاريخ وينسج لها الرواية بناء على هواه وهوى من معه.

وقد كتب الكثير عن الحلم العربي الضائع الذي بدأ في كانون الثاني/يناير 2011 بهروب زين العابدين بن علي من تونس، والهزات التي تبعت ذلك من سقوط حسني مبارك في مصر ومعمر القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن، فيما قرر بشار الأسد في سوريا سحق الثورة تحت جنازير الدبابة معتمدا على حلفائه في موسكو وطهران، أما حاكم البحرين فقد استعان بقوات من الخارج لسحق ثورة ميدان اللؤلؤة بالمنامة. وتمت استعادة الفصل المحزن في الكثير من التقارير والتحليلات التي قدمتها الصحف الأجنبية. وزار مراسل صحيفة “نيويورك تايمز” (23/1/2021) ميدان التحرير الذي فقد أصواته وتغيرت صورته وقال إن عبد الفتاح السيسي الذي لولا ثورة 25 يناير لم يكن أحد ليعرفه، تحرك سريعا لمحو ذاكرة الميدان وآثار الثورة. بل ويريد نقل العاصمة إلى أخرى في الصحراء، وما سيتبقى من ميدان التحرير أشباحه وساحة يتخذها المصممون كنقطة للتحدي. وكتب مارتن شولوف في “الغارديان” (25/1/2021) أن مركز الثورة بات اليوم مكانا مختلفا وكذا البلد، فقد تم تغيير صورة الميدان بمسلته الفرعونية المتجهة للسماء مذكرة باليقين الثابت. وتتحرك السيارات في الميدان بهدوء بعد خلوه من المحتجين، وأي محاولة لإثارة أشباح ميدان التحرير يتم قمعها بالقوة لدولة عسكرية حصنت نفسها في أعقاب الثورة.

لا تتعجلوا في الحكم

وهناك دراسات كثيرة حول الأسباب التي أنهت الحلم: عدم التنظيم والقيادة للمتظاهرين، النزاع بين التيارات الإسلامية والليبرالية، الجيش والدولة العميقة التي انتعشت بدعم الثورات المضادة التي مولتها دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات وما إلى ذلك.

ومع ذلك ظل الحلم العربي الجديد عملا غير منجز وقابلا للتخلق من جديد كما شاهدنا في عام 2019 عندما أسقطت التظاهرات حاكم السودان، عمر البشير والجزائر، عبد العزيز بوتفليقة، وحكومتي العراق ولبنان. وهو ما يعطي فكرة أن التعجل في الحكم على الانتفاضات والثورات الشعبية يقود أحيانا إلى نتائج غير صحيحة. فقد سئل رئيس الوزراء الصيني تشوان لاي في عام 1972 عن تأثير الثورة الفرنسية فأجاب “من الباكر الحديث عنها” وكان يقصد ثورة الطلاب الفرنسيين عام 1968 مما يذكرنا أن الأحداث العالمية العظمى تبدو مختلفة عن المنظور الوقتي.

والثورات العربية تذكرنا باستثنائيتها، وبعد عقد من انتفاضة المنطقة ضد الطغيان، تبدو الديكتاتورية أقوى من أي وقت مضى، وقد استنفذت السكان وصدمتهم. ومصر اليوم كما نقول صحيفة “الغارديان” (29/1/2021) تعيش مخاض أسوأ أزمة حقوق إنسان في تاريخها وقد تعمق الفقر وعاث فيروس كورونا الفساد في البلاد، رغم ما يدعيه الرئيس عبد الفتاح السيسي. والأكثر رعبا هو عدد القتلى الذين سقطوا في العالم العربي منذ اندلاع بركان الفورة الحماسية والملايين الذين تشردوا وهاجروا من بلدانهم التي مزقتها الحروب الأهلية. فقد حول بشار الأسد سوريا إلى مسلخ وانتعش ونما تنظيم الدولة الإسلامية الذي أعمل آلة القتل وسط الفوضى في العراق وسوريا وليبيا. وبعد عقد على رحيل القذافي لا تزال المعركة في ليبيا مستمرة، أما اليمن فقد تحولت الحرب الأهلية إلى حروب أهلية ونزاع بالوكالة. ولعب الربيع العربي دورا أبعد من المنطقة، وربما كان له أثر كما تقول “الغارديان” على قرار حكومة ببجين قمع المسلمين في إقليم تشنجيانغ وتغيير هويتهم. وأثر على النزاعات الشعبوية في أوروبا التي بدأت تلوح بخطر الإسلام والمهاجرين للتحكم بالمسلمين في أوروبا. والحالة الفرنسية ومحاولات إيمانويل ماكرون ضد ما أسماها “الإنعزالية الإسلامية” دليل واضح.

ومهما قيل عن طبيعة الثورات الشعبية العربية من غياب التنظيم وضعف القيادة وخلاف الأيديولوجيا فاللوم لا يقع في النهاية على الذين حلموا بغد عربي جميل، بل وعلى الحكام الذي قرروا سحقهم والقوى الأجنبية التي أدى تدخلها لزيادة الأوضاع سوءا. وانتهزت تركيا وروسيا والإمارات العربية المتحدة والسعودية الفرصة لتقوية تأثيرها، مما حول سكان المنطقة إلى قطع شطرنج في لعبة جيوسياسية.

وفي نهاية العام الماضي أجرت صحيفة “الغارديان” استطلاعا بين سكان دول عربية ووجد أن الربيع العربي زاد من مستويات الظلم الاجتماعي، لكن المشاركين في الثورات خارج الدول التي لم تنزلق إلى الحروب، لم يندموا على الاحتجاجات. وأكدت الثورات العربية أن بنى السلطة التي ورثتها الدول من الاستعمار لم تعد قادرة على مواجهة الانفجارات السكانية والمجتمعات الشابة التي بات تشعر بالاختناق من سيطرة نخبة فاسدة على الحكم وتبحث عن فرصة لها. مما أكد مرة ثانية كذب أسطورة أن الطغيان هو أساس للاستقرار وان المجتمعات العربية لا تصلح للديمقراطية. وهي مقولة صدقتها الدول الغربية وواصلت دعم نفس الأنظمة التي قتلت شعوبها وملأت السجون بعشرات الآلاف من دعاة الحرية أيا كانت هويتهم، إسلامية، علمانية، صحافيين ودعاة حقوق إنسان. وظل دونالد ترامب يتغزل بالسيسي “ديكتاتوري المفضل” ويدافع عن محمد بن سلمان ويؤكد أنه حماه بعد جريمة مقتل الصحافي جمال خاشقجي. ورفض ماكرون الربط بين صفقات السلاح وحقوق الإنسان في مصر. وبالغ في تكريم الديكتاتور الذي ارتكب أكبر مجزرة في تاريخ مصر الحديث بأعلى وسام للجمهورية الفرنسية.

هشاشة الديكتاتورية

نعرف إذا أن التاريخ لم يقل قولته في الربيع العربي بعد، لأن الصيرورة مستمرة، ولكن الدروس التي تعلمها الثوريون العرب عدم تكرار أخطاء الماضي. أما الطغاة فقد كان الدرس هو استمرار القمع ومنع أي صوت يطالب بالحرية. وكما قال الباحث تيموتي كالداس في “بلومبيرغ” (27/1/2021) فالديكتاتورية في العالم العربي قامت بتحصين نفسها في وقت واجهت فيه أنظمة الفشل أو الحرب الأهلية وانهارت اقتصاديات ونزح الملايين وفي عدد من الأطراف تتواصل النزاعات العنيفة أو تغذت نتيجة التدخل الخارجي الذي تتنافس فيه الدول الديكتاتورية. وأشار إلى أسطورة عدم صلاحية العرب للديمقراطية التي يروجها الديكتاتوريون ويصدقها الغرب دونما اهتمام بما يقال عن قمع للحرية وانتهاكات حقوق الإنسان. لكن العكس هو الصحيح، ذلك أن الطريقة الفوضوية وغير المتوقعة وغير المتكافئة التي تعاملت فيها الأنظمة مع الثورات وأدت لانهيارها مع المجتمعات التي حكمتها كشفت عن هشاشتها. مما يؤكد أنها مصدر للعنف والاضطراب وليس الاستقرار. ومن هنا فعودة الأنظمة الديكتاتورية يعني أنها قابلة للانهيار تحت وطأة العنف والاضطراب، خاصة عندما تحاول منع التحول الديمقراطي واللجوء للقوة المفرطة، كما فعل الأسد في سوريا. ولأن الحاكم الديكتاتوري يحاول بناء دولة ضعيفة ليبرر بقاءه فانهياره يعني ترك دولة فاشلة كما في ليبيا واليمن. أما في مصر فقد أعادت النخبة تجميع نفسها أثناء عملية الانتقال من الديكتاتورية وجيشت الرأي العام وشنت انقلابا عام 2013 ضد أول رئيس انتخب ديمقراطيا. واستطاعت النخبة هذه الحصول على دعم من ملكيات الخليج التي شعرت بالقلق من انتشار الثورات في كل أنحاء المنطقة.  إلا أن الديكتاتور يظل هشا ويخشى من أي حركة، كما فعل السيسي مع دعوة مقاول مصري سابق في أيلول/سبتمبر 2019 للتظاهر وبدأ بنشر أشرطة فيديو على صفحته في فيسبوك من منفاه الاختياري في إسبانيا متهما السيسي والمقربين منه بتبذير أموال الدولة على بناء قصور وفنادق لأنفسهم. ولم يستجب لدعوته في 19 أيلول/سبتمبر 2019 إلا عدة آلاف، لكنه كان كافيا لإثارة غضب الحكومة وبيانات من الرئاسة والبرلمان ووزارة الدفاع. وفي البداية أصر السيسي أن القصور هي جزء من الدولة الجديدة التي يقوم ببنائها. وبعد الاحتجاجات أصدر تصريحات تصالحية ووعد بإضافة أعداد جديدة من المصريين للدعم الحكومي. وفي نفس الوقت قامت الحكومة باعتقال الآلاف خشية أن تتوسع التظاهرات على طريقة 2011. كل هذا ردا على أشرطة فيديو نشرت على صفحة فيسبوك وآلاف من المتظاهرين الذين خرجوا في أنحاء من بلد يصل تعداده 100 مليون نسمة. ورد الحكومة لم تدفعه مصلحة الحفاظ على الاستقرار بقدر الخوف، ومعرفة أن الحكام الديكتاتوريين يسقطون سريعا. فالمظالم التي أخرجت المصريين إلى الشوارع عام 2011 و2019 يشترك فيها سكان المنطقة. ومن هنا فرفض الكثير من الأنظمة التخلي عن نماذج الحكم الديكتاتوري المترافق مع زيادة المتاعب الاقتصادية يعني دائما نهاية أخرى لديكتاتوري هش آخر في قابل السنين. ومصر مثال على هذا.

إلى متى سيظل يحارب شعبه

وفي هذا السياق تساءل الحقوقي عبد الرحمن منصور في مقال بمجلة “فورين بوليسي” (27/1/2021) عن حالة القمع في مصر ووصم كل معارض للنظام بالإرهابي. وقال إن السيسي يستطيع في الوقت الحاضر الاستفادة من موقع مصر في الشرق الأوسط – وكذلك المخاوف العالمية من الاضطرابات السياسية في المنطقة – لترسيخ دولته البوليسية. ومن شبه المؤكد أن تؤدي المزيد من الأزمات في الشرق الأوسط إلى اشتعال أزمة لاجئين أخرى في أوروبا، والتي يحرص قادة الاتحاد الأوروبي على تجنبها بأي ثمن تقريبا. ومن المفارقات أن سياسات السيسي قد تتسبب في حد ذاتها بإحداث مثل هذه الاضطرابات السياسية. نظرا لأن الرئيس يمنع أي نشاط سياسي حقيقي ويغلق المؤسسات الحقوقية ويقضي على المعارضين السياسيين. والأصوات الوحيدة التي تم قمعها هي أصوات المعارضة السلمية، وتلك الأصوات هي التي تمنح المصريين العاديين المحبطين الأمل في مستقبل ديمقراطي تسود فيه العدالة وحكم القانون. وأضاف أن استهداف المعارضين والناشطين يشوه محاولات الحكومة أن تؤخذ على محمل الجد في صراعها ضد التهديدات الحقيقية في منطقة لا تزال مضطربة بشدة – على الرغم من إظهار السيسي للقوة. وسيرفض المصريون العاديون الإجراءات الأمنية للحكومة، وستتعامل أجهزة الأمن الدولية باستخفاف مع قوائم الإرهابيين التي تنشرها القاهرة. إنها مسألة وقت فقط.

الإرث الأوروبي

لا يكفي القول أن الغرب خاصة الولايات المتحدة خيبت آمال دعاة الديمقراطية في العالم العربي، وتخلت عنهم خاصة عندما راقبت إدارة باراك أوباما السيسي وهو يقتل المعتصمين في ساحة رابعة ويعتقل المحتجين السلميين، ورفضت إدارته تصنيف الحركة التي قام بها الجيش ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي بالانقلاب، بل وعلينا النظر أبعد إلى بنية النظام السياسي الذي حاول الثوريون تفكيكه والذي يرى أتش إي هيلر في مجلة “بوليتكو” (25/1/2021) بأنه أوروبي، وصمم أثناء الاستعمار لسيادة نخبة أوروبية على شعوب مستضعفة. وظل النظام كما هو بعد رحيل المستعمرين. بالإضافة لهذا فالأنظمة الأوروبية هذه لم تصمم إلا لحكم قطاع سكاني محدود ولم يأخذ بعين الاعتبار النمو السكاني المتزايد وبشكل قوي، خاصة خلال العشرين عاما الماضية. ولأن الأنظمة الاستعمارية هذه صممت من أجل تركيز الثروة في يد طبقة معينة، فقد أدت إلى ثرائها وفقر الغالبية. ونتيجة لعدم المساواة والقمع باسم محاربة الإرهاب الذي تبنته الأنظمة الديكتاتورية فقد بدأت المجتمعات بالضغظ من أجل التغيير. وكان لهذه الأنظمة أن تسجل تاريخا لو استجابت ولو بقدر قليل للمطالب الشعبية، لكن قادتها قرروا السير في طريق آخر. وبناء عليه علينا ألا نلوم الثوريين على النتائج والاضطرابات اللاحقة، لأنهم لم يكونوا في موقع المسؤولية. ففي أنظمة ما بعد الاستعمار لم يكن أمام الديكتاتوريين إلا خيارين، الأول وهو التحول البطيء والبدء بمهمة بناء دولة مستقرة قادرة على البقاء في القرن الحادي والعشرين. أما الخيار الثاني فهو عدم التغير خوفا من مطالب الغالبية المتزايدة حصة كبيرة من الكعكة وبالتالي مواصلة القمع. والمشكلة أن هذا الخيار يؤجل المحتوم لكنه لا يوقفه. وفي غياب نظام دولي يحترم القانون ولا يكون دوله انتقائية فيما تريد دعمه من قوانين، تظل شعوب المنطقة موزعة بين قوى عالمية وإقليمية تتصارع على الإرادات الشعبية. وكما يحدث الآن فهناك صراع بين إيران والمحور الذي تمثله إسرائيل والدول التي طبعت. وصراع ثان بين الدول التي تريد الحفاظ على الوضع الراهن وشيطنة الإسلام السياسي وتلك الرافضة لهذا المحور. في النهاية انتهت التجمعات في الميادين وأمن الديكتاتوريون أنفسهم وهيمنت إسرائيل، وحققت شرقا أوسطا تخيله بيريز لكنها لم تقض بعد على الفوران الذي نراه مرة أخرى في تونس ولبنان، وبل وشاهدنه ينطلق ضد ديكتاتور روسيا وسط الصقيع. فإسرائيل لم تتصالح إلا مع أنظمة خائفة تخشى من خسارة الدعم الأمريكي لا مع الشعوب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية