عشرون عاما على خطاب الخداع لتبرير غزو العراق

في 5 فبراير 2003، اي قبل عشرين سنة، حضر وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك كولن باول، إلى قاعة مجلس الأمن الدولي ليقنع أعضاء المجلس الأربعة عشر الآخرين بضرورة تأييد الحرب على العراق، التي كانت تشهد لمساتها الأخيرة. قال يومها في جلسة المجلس، وعلى مسمع العالم حيث كانت تبث على الهواء مباشرة: «أيها السادة الزملاء، كل تصريح أدلي به اليوم مدعوم بمصادر، مصادر قوية. هذه ليست تأكيدات. ما نقدمه لكم هو حقائق واستنتاجات تستند إلى معلومات استخبارية قوية».
وعرض باول تسجيلات لمحادثات هاتفية بين مسؤولين عراقيين قال، إنها تدل على قيام العراق بتضليل وخداع مفتشي الأمم المتحدة. كما عرض باول صورا التقطتها الأقمار الصناعية قال، إنها تدل على أن العراقيين كانوا يمتلكون معلومات عن بعض زيارات المفتشين وأنهم قاموا بإجراء تغييرات أو تحركات استباقا لزيارة المفتشين لتلك المواقع. كما عرض أمام المجلس زجاجة صغيرة تحتوي على مادة كيميائية شديدة الخطورة تدعى الأنثراكس «أو الجمرة الخبيثة» وقال، إن العراق يملك كميات كبيرة منها. وأكد باول، الذي حضر الجلسة مصحوبا برئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) جورج تينيت، أن العراق يملك كميات ضخمة من المواد الكيميائية والبيولوجية لم يستطع المفتشون إثبات مصيرها، واتهم باول العراق بامتلاك وحدات متنقلة قادرة على صنع الأسلحة البيولوجية.
من التهم الملفقة الأخرى التي أوغل فيها باول تأكيده أن لديه معلومات مؤكدة بامتلاك بغداد علاقة مع شبكة «القاعدة» قائلا، إن العراق على صلة بأحد الأشخاص المعروفين فيها (الزرقاوي) وإنه يأوي بعض منتسبيها. ودعا باول مجلس الأمن إلى الاستجابة للتحدي الذي تفرضه المسألة العراقية قائلا، إن العراق فشل في الامتثال لقرار مجلس الأمن 1441 (2002) ولم يقم بنزع أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها، وإنه لا يستحق منحه فرصة أخرى.

كولن باول استخدم الأكاذيب وورط الجنود الأمريكيين في حرب ظالمة وخاسرة ومكلفة. لقد أساء خطابه لنفسه أولا وللشعب الأمريكي ثانيا وللحق والعدل كذلك

أخذ الكلمة بعد انتهاء كلمات أعضاء المجلس الممثل الدائم للعراق لدى الأمم المتحدة آنذاك، محمد الدوري، فنفى صحة كل ما قاله باول. وقال الدوري إن كل ذلك لا يعدو أن يكون محاولة أمريكية أخرى لتسويق الحرب، من دون امتلاك سبب شرعي أو سياسي أو أخلاقي لها. وأضاف الدوري أن الملف الذي سلمه العراق حول برامج تسلحه كان دقيقا وأمينا، وأن المفتشين أخذوا عينات من تراب العراق ومائه وهوائه ومصانعه وأماكن أخرى فيه، من دون أن تشير التحليلات إلى وجود آثار لأي عوامل كيميائية أو بيولوجية أو غيرها. وقال لو كانت للعراق علاقات مع شبكة القاعدة أو كان يؤمن بها أصلا لما خجل من الاعتراف بها. كان العناد والصلف والعنجهية تميّز تصرفات الولايات المتحدة وشريكتها اللئيمة بريطانيا، التي لم تعد «عظمى» وشنت الحرب يوم 17 مارس، ووقع العراق تحت الاحتلال الأمريكي. عين عليه حاكم أمريكي جاي غارنر أولا، ثم استبدل ببول بريمر، الذي كانت مهمته الأساسية تدمير العراق وتقسيمه طائفيا، وحلّ جيشه ونهب ثرواته، وتمكين العنصريين والفاسدين من التحكم في بلد الحضارة والثروة والعلم والمستقبل الواعد.

الندم بعد فوات الأوان

تلك كانت خطبة الخداع الأشهر في مقر الأمم المتحدة، التي ظلت علامة عار على جبين باول وجبين الدولة العظمى، التي بررت حربها غير القانونية بكذبة أسلحة الدمار الشامل. لقد اكتشف باول سريعا أنه خدع، وأنه وقع في الفخ لأنه كان الوجه الأكثر عقلانية ومقبولية من المجتمع الدولي، لكنه أثبت أنه «طرطور» في أيادي المحافظين الجدد. اكتشف باول أن الذي كتب الخطاب ليس «سي آي أيه»، بل ديك شيني، نائب الرئيس الذي كان هو ومجموعة المحافظين الجدد وراء تلك الحرب الظالمة، بتنظير خطير من الأكاديمي الصهيوني برنارد لويس وصديقه صامويل هنتنغتون، صاحب نظرية تصادم الحضارات. صحيح أن ذلك الخطاب لم يكن السبب في الحرب، بل اعتبر لحظة فاصلة، واعتبرت إدارة بوش أنها قدمت محاججة قانونية ومقنعة في مجلس الأمن تخولها الحرب، حتى لو أنها فشلت في استصدار قرار يشرعن الحرب مثلما عملت إدارة بوش الأب، عندما استصدرت القرار 678 بتاريخ 29 نوفمبر عام 1990 الذي، بغض النظر عن الموقف منه، أعطى إنذارا للعراق لمدة 45 يوما للانسحاب من الكويت، وإلا فكل الوسائل متاحة لإنهاء ذلك الاحتلال. بعد سنتين فقط، اكتشف باول الخداع والكذب والتلفيق الذي تضمنه الخطاب فقال: «إن هذا الخطاب سيظل وصمة تلطخ حياتي المهنية». وقال في مقابلة مع شبكة (ABC News) حول الخطاب: «أنا من قدمه إلى العالم نيابة عن الولايات المتحدة، وسيظل دائما جزءا من سجلي. كان مؤلمآ آنذاك. وإنه أمر مؤلم الآن» .كان الخطاب علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة، واهتزت صورة الولايات المتحدة عندما انكشفت كذبة أسلحة الدمار الشامل وعلى أيدي المختصين الأمريكيين أنفسهم (شارل دولفر وديفيد كاي وسكوت ريتر). لقد بعثت وكالة الاستخبارات الأمريكية 1200 محقق بعد احتلال العراق، عملوا لمدة 15 شهرا ولم يعثروا على أسلحة دمار شامل، وجاء تقريرهم للكونغرس خاليا من أي برهان على وجود أسلحة دمار شامل في العراق. وعندما انفضحت كذبة أسلحة الدمار الشامل، أعادت إدارة بوش النظر في سبب الغزو وقالت إنها تحمل في جعبتها «الديمقراطية» لتقدمها هدية للعراقيين. وكأن الديمقراطية حبة دواء تبلعها فتقوم في الصباح معافى من داء الديكتاتورية وحاملا لجينات الديمقراطية الأصيلة. وقد شاهدنا النموذج الديمقراطي الذي قدمه نوري المالكي وأمثاله. وشاهدنا الديمقراطية التي قدمها بول بريمر للشعب العراقي هدية عندما شكّل «مجلس الحكم العراقي» يوم 13 يوليو 2003 المكون من 25 مقعدا مقسمة طائفيا: 13 شيعة، 5 سنة، 5 أكراد، تركماني واحد ومسيحي واحد. قلت يومها لزميلي المتحدث الرسمي الآخر باسم الأمم المتحدة في العراق، وكنا نجلس في قاعة المؤتمرات في ما عرف بالمنطقة الخضراء، «هذه بداية حرب أهلية في العراق، نعرف الآن أولها ولا نعرف نهايتها». وقف يومها أكبر الأعضاء سنا وقال، إن من أولى قرارات المجلس اعتبار 9 أبريل (تاريخ سقوط بغداد) يوما وطنيا للعراق. بدأ من في القاعة، خاصة من الصحافيين تبادل النظرات المستهجنة. كيف يمكن لأحد أن يفكر بالاحتفال باحتلال بلاده؟
وتأملوا كم من المأسي تحمل العراق بسبب تلك الكذبة الكبيرة. وكم كانت تكاليف تلك الحرب الظالمة. كان كولن باول قد قال إن تجربته في فيتنام علمته أن أولئك الذين يشغلون مناصب في السلطة يجب ألا يسمح لهم أن يستخدموا الأكاذيب لتشكيل السياسة عندما تكون حياة الجنود الأمريكيين على المحك. لكن باول في ذلك استخدم الأكاذيب وورط الجنود الأمريكيين في حرب ظالمة وخاسرة ومكلفة. لقد أساء في هذا الخطاب لنفسه أولا وللشعب الأمريكي ثانيا وللحق والعدل كذلك. كان يمكن لباول أن يصبح أول رئيس أمريكي من أصل افريقي (قبل أوباما) لو لم يتورط في خطاب الخداع هذا لكنه أثبت أنه لعبة في أيدي الآخرين ومن السهل التحكم فيه وتسييره حسب أجنداتهم، ولذلك جنى على نفسه ومات (أكتوبر 2021) وهو يحمل هذا العار.
مرت عشرون سنة على تلك الحرب لكن الجرائم الكبرى لا تموت بالتقادم: لقد ارتكبت الولايات المتحدة جريمة العدوان أولا وجرائم حرب عديدة وجرائم ضد الإنسانية. وكلها تورد المسؤولين نحو المحكمة الجنائية الدولية. هذا لو فرضنا أننا نعيش في عالم ظالم منافق يكيل بمكيالين ولا يطبق القانون إلا على الضعفاء. لكن الخطابات الأمريكية وخطابات حلفائها حول لا شرعية غزو روسيا لأوكرانيا، تفتح الشهية لاستذكار الماضي القريب في العراق.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجيرسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عمر ج:

    شكرا ً السيد عبدالحميد
    لقد عشنا تلك الأيام الموءلمة وكيف تآمرت على العراق دول غربية عديدة وكذلك بعض الدول العربية بالاضافة الى العراقيين الفاسدين اما ليسرقوا ثروات العراق او ليتبوا مناصب لم يكنوا ليحصلوا عليها في الظروف الطبيعية.
    ومهما عملوا وخاصة التدمير الشامل لكل ما سعى العراق لبناءه سيعود العراق نصيرًا لفلسطين ولشعبنا الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال الصهيونى.

  2. يقول محفوظ- الجزائر:

    ….شكرا على المقال الثائر ضد الغطرسة والإنصياع للصهيونية العالمية….لأن تدمير العراق, بغض النظر عن “الحجج” الواهية التي إستخدمت وإستُبدلت من مرحلة إلى أخرى, كان هدف الكيان ومعه صهاينة العالم….بعد وضع مصر في جيب تل أبيب سنة 1977 وفرض الصهاينة على أمريكا رشوة لمن يقبل الرشوة- 1.300 مليار سنويا….بعدها تقرر أن الدور على العراق وحصل ما حصل….بعدها أتى الدور على سوريا وللأسف لم ينتبه النظام في دمشق ودمر سوريا شعبا وهيبتا ……وهذا كان هدف الصهاينة: لأنهم لا يستطيعون أن يكذبوا أكاذيب أخرى-مثل الحالة العراقية- لجر أمريكا وبريطانيا لتدمير سوريا بحرب خارجية….

  3. يقول محمد شهاب احمد:

    و بعد أيام سيمرّ عشرون عام على تلك التظاهرة العظيمة التي سار فيها أكثر من مليون من البشر في شوارع لندن يوم ١٥ شباط ٢٠٠٣ لإظهار الرفض الإنساني للحرب القادمة على العراق .
    ذلك لم يكن حبّاً للنظام و لكن خوفاً على العراق و العراقيين من عواقب العنف …
    مع شديد الأسف لم يستمع من ملأ قلبهم الحقد لصوت الإنسانية.
    في كل الأحوال ذبح العراق كان عملية تراكمية كان هناك دور للنظام فيها من خلال سياسته الطائشة.

  4. يقول منصور الكبير:

    المرجح أن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول كان على إطلاع على عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق لأنها صناعة قائمة بذاتها لا يمكن إخفائها تحتاج إلى إستيراد مواد كثيرة ،ما صرّح به وزير الخارجية الأمريكي عبارة عن صحوة ضمير ، تعبير عن ندم بعد خطاب الحرب في مجلس الأمن يكون قد أُجبر عليه من طرف الرئيس الأمريكي بوش الذي كان يحظى بدعم مجموعة الأنجيلية الصهيونية في أمريكا . و يبقى السؤال الموجه له هو لماذا لا ينخرط وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في عملية إخراج العراق من المحنة التي ألمّت بها ؟.

  5. يقول عصفور - امريكا:

    امريكا هي أكبر إمبراطورية الكذب في العالم ومدعومة من الصهاينة ، والقصد هو استهداف الثروات في العالم ، وهم لا يكيلون وزنا لأي كان لطالما غرسوا عملاءهم مسبقا قبل تنفيذ خططهم ضد كلا من لا يتبعهم ويكون مواليلا لهم او مديون ، يبقى مسلسل الكذب حي لا يموت ، اما بالنسبة للشعوب المظلومة في الوطن العربي لا تيأس من الطلم والقهر والاستبداد لطالما الأمل بعودة صلاح الدين وخالد ابن الوليد وعمر ابن الخطاب عاندون .

    1. يقول قلم حر في زمن مر:

      أحسنت أحسنت أحسنت ✅✅✅

  6. يقول جميلة:

    يقول الرئيس الاسبق جورج دبليو بوش في مذكراته الشخصية قرارات حاسمة ، في الوقت الذي أتذكر فيه هذه الخواطر بعد أعوام على تحرير القوات الامريكية للعراق ، أنا على قناعة تامة بان الاطاحة بصدام كانت قرارا صائبا ، الا أن بوش يؤكد ان احدا لم يشعر بالخيبة و الغضب مثلي عندما لم نعثر على اسلحة دمار شامل في العراق. و رفض بوش الثاني الاعتذار عن تدخله الوقائي في العراق فهو مازال يعتقد ان الاطاحة بحكم صدام كان امرا صحيحا ، و ان العراق اصبح أفضل اذا بات 25 مليون عراقي يمتلكون الان فرصة العيش بحرية حسب زعمه .لا نغالي في القول ان التدخل الأمريكي في العراق بدا بدليل الخطة الدفاعية الذي شكل الرحم الذي ولدت منه اولى دعوات غزو العراق و هو المهد الذي ولد فيه ما يعرف بعقيدة بوش و انتهى بقانون تحرير العراق عام 1998 . شكرا للكاتب على المقال.

  7. يقول امريكي فلسطيني:

    اتذكر جيدا انه قبل أيام من شن حرب على العراق، سرنا بمسيره مليونين باضخم شوارع واشنطن العاصمه باتجاه البيت الابيض ويومها هرب المسطول جورج بوش الابن من العاصمه! الجماهير الامريكيه رفعت اشارارات تحذر بوش وأعوانه الصهاينه من شن حرب على العراق لا سبب لها ولكن بوش شن هرب دمرت العراق وفرحت دولة الكيان الصهيوني لانه كان في جيب الموساد الذي كتب واخترع خطاب كولن بأول الكاذبه والخادعه!!!

    1. يقول قلم حر في زمن مر:

      صحيح جدا جدا فأمريكا وبنو صهيون وجهان لعملة واحدة وتاريخ طويل من الإجرام المنظم ضد الفلسطينيين الأبرياء العزل الصامدين في وجه ابرتهايد الصهيونية البغيضة التي تقتل أطفال فلسطين وتهدم منازلهم بغير وجه حق منذ 1948 وإلى يوم الناس هذا ✅

  8. يقول عمر علي:

    عندما سوءا جيمس بيكر وزير الخارجية السابق عن حرب العراق قال انها تتعلق بالوظائف اي الاقتصاد الاميركي والسيطرة على منابع النفط في ألعالم العربي.

  9. يقول جمال الناطور:

    هذه ليست اول كذه او تلاعب بمقدرات الشعوب وارواح الابرياء.

  10. يقول رشيد/بلجيكا:

    لولا الخبانه والعماله لانتصر الشرفاء في العراق وكانت هزيمة بوش ممكنه هل يمكن ان ننسى ستلينغراد العراق …الفلوجه التي قهرت بوش

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية