عشرون عاما من التصدي الخجول للإرهاب

كانت الذكرى العشرون لحوادث 11 سبتمبر الإرهابية مناسبة لإعادة فتح ملفات عديدة: أيديولوجية وسياسية واستراتيجية. وقد طرحت تحليلات وتفسيرات كثيرة لما حدث آنذاك، والتطورات التي أعقبتها خصوصا الدور الأمريكي في المنطقة ومع دول غرب آسيا.
الأمر المؤكد الذي يتفق عليه أغلب المحللين أن ظاهرة الإرهاب وأسبابها وأساليب التصدي لها ما تزال لغزا، وأنها لم تنته بالتدخل الأمريكي العسكري الذي أسقط حكومة طالبان الأولى، وأن العالم لم يأمن بعد على نفسه من الإرهاب. وزاد الأمر تعقيدا بروز مصدر إرهاب محلي آخر في بعض الدول الغربية من خلال مجموعات اليمين المتطرف التي حصدت أعمالها أرواح الكثيرين كذلك. فمن نيوزيلاندا إلى سريلانكا وروما وباريس ولندن وبرمنغهام استمر سقوط ظاهرة العنف العبثي الذي تمارسه المجموعات الإرهابية المختلفة. هذه المرة لم تعد الظاهرة محصورة بما اصطلح الغربيون على تسميته «الإرهاب الإسلامي» بل أصبح ممارسة تلجأ اليها مجموعات التطرف على تعدد انتماءاتها الأيديولوجية والدينية. وبالتالي أصبح التعاطي معها أكثر تعقيدا وأوسع مدى.
الأمر المؤكد أن السياسات الغربية لم تساهم في احتواء الظاهرة، بل ربما كرّستها وشجعتها بالتدخلات السياسية والعسكرية في بلدان العالمين العربي والإسلامي، تلك التدخلات التي دفعت أشخاصا مثل أسامة بن لادن لاستهداف أمريكا علنا بشكل مباشر. وساهم فيها كذلك استمرار الغرب في التغاضي عما يحدث لشعوب المنطقة، ابتداء بالاحتلال، مرورا بالاستبداد، وصولا للاستغلال والتهميش والتمزيق المفتعل بين مكوناتها المجتمعية والدينية. وثمة بعد آخر يتصل بالظروف التي يخلقها ذلك التدخل. فمن المؤكد أن التدخل السوفياتي في أفغانستان في الثمانينيات ساهم في توفير الأرضية لتعمق الغضب لدى قطاعات شبابية واسعة وأدى «انتصار» المجاهدين إلى تحول ذلك الغضب إلى مشروع سياسي أيديولوجي وجد في الإرهاب سلاحه المفضّل. وبرغم إقحام دين الإسلام في هذا الصراع السياسي، فقد تبرأ علماء الإسلام من استخدام العنف خارج القانون، والقتل العبثي الذي تمارسه المجموعات الإرهابية وإزهاق أرواح البشر تعسفا. وبدلا من تسجيل ذلك للإسلام وعلمائه، استمر استهدافه كدين وتعمقت ظاهرة الإسلاموفوبيا، وازدادت ظاهرة التنميط التي تركزت في اللاشعور بربط الإسلام بالعنف والإرهاب.
بعد عشرين عاما من تفجيرات واشنطن ونيويورك وتدمير بُرجَي التجارة العالمي وقتل حوالي 3000 من الأمريكيين، ما يزال السجال حول الإرهاب يتصف بالعقم والسطحية ويتعرض للاستغلال والتوجيه السياسي. وثمة أبعاد ساهمت في ذلك:
أولها: فشل العالم في الاتفاق على تعريف واضح ومحدد لهذه الظاهرة، الأمر الذي دفع الغربيين للشعور بحقهم في استهدافها بطريقتهم وضمن تعريفاتهم. وفي المفهوم الغربي لا يعتبر قتل الآلاف من المدنيين في الحروب التي شنت على المنطقة إرهابا بل «خسائر ملازمة». ولا توصف جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين وهدم منازلهم وقتل أطفالهم ونسائهم ضمن دائرة الإرهاب، بل بـ «الدفاع عن النفس». كما يتم التغاضي عن سياسات الأنظمة الصديقة للغرب التي كثيرا ما حصدت أرواح الأبرياء. ولذلك بقي المفهوم مطاطا وقابلا للتفسير والتأويل.

تبرأ علماء الإسلام من استخدام العنف خارج القانون، والقتل العبثي الذي تمارسه المجموعات الإرهابية وإزهاق أرواح البشر تعسفا

ثانيها: أن التصدي للظاهرة انحصر بشكل كبير بالوسائل العسكرية التي أثبتت فشلها في اقتلاع الظاهرة، وإن ساهمت في التخفيف من ظواهرها. فبعد عشرين عاما على إسقاط حكومة طالبان في أفغانستان بسبب رفضها تسليم قيادات تنظيم القاعدة في إثر تفجيرات 11 سبتمبر، ها هي الولايات المتحدة تنسحب من أفغانستان لتعود طالبان إلى الحكم. صحيح أن تنظيم القاعدة تم تدميره في السنوات الأولى بعد اجتياح أفغانستان وقتل زعيمه أسامة بن لادن في 2011، ولكن شبح الإرهاب لم يختف من الأفق الدولي. وهنا ارتكب الغربيون خطأ استراتيجيا فادحا أصبح يلاحقهم اليوم. فقد سعوا لإعادة توجيه تنظيم «القاعدة» بعيدا عن استهداف الغرب بعد أن فصلوا قياداته المحاصرة في جبال «تورا بورا» وتلاعبوا بجسده الموزع في كل مكان. فأحدثوا تشطيرا للتنظيم وشجعوا قيام مجموعات بعناوين مذهبية وطائفية أدخلت المنطقة في دهليز مظلم لم تخرج منه إلا بعد سقوط آلاف الضحايا من الأبرياء. كان ذلك الأسلوب قذرا جدا ساهم في تمزيق صفوف الأمة وأبعدها عن قضاياها المحورية كالإصلاح السياسي وقضية فلسطين ووحدة الصف. وبمرور الوقت استنفدت هذه السياسة أغراضها، وأصبحت اليوم تلاحق الغرب مجددا.
فتنظيم «داعش» الذي انشق عن القاعدة أصبح مصدر تهديد أمني للغرب بعد أن انقشعت أجواء الاحتقان المذهبي الذي كان مدعوما من قوى الثورة المضادة. وهنا يتأكد أحد جوانب فشل السياسة الغربية في التصدي لظاهرة الإرهاب.
ثالثها: أن الغرب مني بفشل سياسي ذريع تتضح معالمه يوما بعد آخر. هذا الفشل تمثل بأمور عديدة: أولا: تخلخل التوازن الاستراتيجي في العالم لغير صالحه، وعودة روسيا إلى الساحة الدولية بقوة، وصعود دور الصين كمصدر قوي لتهديد المصالح الغربية: ثانيا: انتقال الأزمة إلى العلاقات بين أمريكا وبريطانيا، خصوصا بعد قرار الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، الانسحاب من أفغانستان بدون استشارة حلفائه وعلى رأسهم بريطانيا. هذا يعني أن التحالف الذي تشكل بعد حوادث 11 سبتمبر أصبح مفككا برغم اتفاق الجميع على أن الإرهاب ما يزال مصدر تهديد غير قليل. ثالثا: أن الاطراف الفاعلة في ذلك التحالف أصبحت محاصرة بسياساتها. فأمريكا تميل نحو الانعزال والانسحاب نحو الداخل ضمن سياسة «أمريكا أولا». وبريطانيا تشعر بخذلان الحليف الأمريكي الاقوى، وتضطر لاعادة النظر في توسيع حضورها الدولي. يضاف إلى ذلك تصاعد الحساسية مع الاتحاد الاوروبي بعد «بريكسيت» وبدء نزاعات متواصلة سياسية واقتصادية مع بروكسيل. رابعا: أن شبح الإرهاب ما يزال يطارد العالم، وتؤكد تصريحات المسؤولين الغربيين خصوصا البريطانيين حالة الاضطراب النفسي والذهني والهلع من عودة مجموعات العنف إلى أفغانستان التي يشعر بعض قادتها خصوصا الذي كان لهم دور في الثمانينيات ضمن «المجاهدين» أنهم هزموا «القوتين العظميين» وحققوا بذلك ما كان تنظيم القاعدة يتطلع إليه.
رابعها: الأمر الواضح في السياسة الغربية التي تصدت لظاهرة الإرهاب أنها وجهت له ضربات موجعة، ولكنها لم تقتلعه تماما. ومن أسباب هذا العجز خطأ التقييم الغربي للظاهرة وأسبابها، وإصرارها خطأ على ربط الإرهاب بالإسلام واعتباره ظاهرة شاذة بدون الاعتراف بوجود أسباب ودوافع موضوعية. كان الحريّ بالغربيين أن يستوعبوا الأسباب التي تدفع شبابا في مقتبل العمر للتضحية بأرواحهم بكل بساطة. ومن هذه الأسباب غياب الحرية والعدالة وهيمنة الاستبداد على المنطقة، وشعور الكثيرين بالإحباط بسبب السياسات الغربية وأنماط الحكم المفروض عليها بالقوة.
ومن المؤكد أن وجود الاحتلال من بين الدوافع المهمة للتطرف والعنف. الغرب لا يكتفي بالمواقف السلبية إزاء ما تواجهه الشعوب من اضطهاد، بل يعلن مواقفه الداعمة للانظمة الديكتاتورية بصراحة ووضوح. ولا يكتفي بالسكوت على الاحتلال بل يلزم نفسه بضمان تفوق «إسرائيل» على العرب عسكريا وسياسيا.
لقد كانت حوادث 11 سبتمبر فظيعة جدّا، وكان الأجدر بالعالم وهو يستذكرها بعد عشرين عاما أن يقف متجردا مع نفسه ليقوم بجرد حساباته خلال الفترة الماضية من أجل تقييم ردود الفعل لأكبر عمل إرهابي في العصر الحديث.

كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ميساء:

    هههههههه بل عشرون عاما من صناعة الإرهاب

    1. يقول محمد شهاب أحمد:

      أحسنتِ!

      العنوان لم يكن موفق….
      غزو أفغانستان و العراق جاء ضمن ذلك التصدّي الخجول!

إشترك في قائمتنا البريدية