عصابة البرابرة والوزير
خليل قانصوعصابة البرابرة والوزير إنشغلت، وسائل الإعلام الفرنسيي في شهر شباط (فبراير) 2006 بعصابة، تطلق علي نفسها البرابرة ، يبدو أنها تكونت في إحدي الضواحي الباريسية، حيث يتجمع المنبوذون من الفرنسيين، لا سيما من ذوي الأصول الأجنبية، الإفريقية والمغاربية. واختصاصها، حسب تقارير الشرطة التي تناقلتها الصحف آنذاك، هو ابتزاز المال، وسرقة الهواتف المحمولة للإتجار بها، وتسوّق المخدرات. ومن المعلوم أن ظهور مثل هذه العصابة ليس غريباً، في الأوساط الفقيرة التي لا تشملها رعاية المجتمع، في مجال التربية والتأهيل والشراكة في الحقوق والواجبات، بمعني أن معدنها الفقر والبؤس والحرمان. وهذه إن طالت طائفة إثنية او دينية بعينها، فإنها تطرح في المقام الأول، مسألة الإنغلاق الفئوي والتجزئة في المجتمع. ما هي أسبابهما، هل هي ذاتية او أنها مفروضة فرضا، وفي هذه الحالة الأخيرة، تكون دلالة علي انعدام المساواة، وغطاء للهيمنة. إن ما أثار وسائل الإعلام، هو جريمة إرتكبها أفراد هذه العصابة، عندما تمكنوا بواسطة فتاة من استدراج مواطن فرنسي كان يعمل في دكان لبيع الهواتف المحمولة، ثم احتجزوه، وراحوا يطالبون ذويه بفدية مقابل إطلاق سراحه. ولكن المبادلة لم تحصل. وسبب تعثرها كما رجّحت الشرطة هو عدم مهنية الجناة. فهؤلاء إرتبكوا عندما أحسوا بأن رجال الأمن، ربما أمسكوا بخيوط القضية. وهذا ما دفع رئيـــس العصابة إلي الفرار إلي شاطئ العاج. بعد ذلك أقدم شــركاؤه عــلي قتل الرهينة وألقوا بها قرب محطة للقطارات.كان يمكن لهذه الجريمة أن تبقي ضمن إطار الأحداث التي ترتاع منها النفوس، والتي قد لا يمر شهر دون أن يقع حدث من نوعها، لو لم تكتشف بعض الأوساط السياسية أن الضحية ينتمي إلي عائلة تتبع الديانة اليهودية.فكانت مناسبة للتحريض وللإثارة، تلقفتها وسائل الإعلام كعادتها لإنعاش الحملة الدعائية المعروفة والتي لم تعد أهدافها خافية علي أحد. فأظهرت المجرمين، وزعيمهم الإفريقي علي وجه التحديد بصورة المُعادين للسامية . وأدلي حينها وزير داخلية فرنسا بدلوه، فادعي في كلمة له أمام البرلمان، أن مطبوعات مؤيدة للفلسطينيين وجدت في حوزة أعضاء هذه العصابة، أيحاء ً منه بأن للجريمة خصوصيتها من حيث التوصيف ومن حيث الدوافع التي قادت إلي ارتكابها. ولم يُستثن الدين بالطبع. فقد راجت في ذلك الوقت أنباء عن وثائق سلفية قيل انه عُثر عليها أثناء المداهمات. هكذا وضع الوزير الإجرام وفلسطين في كفة، بينما وضع أصدقاؤه، أنصارُ إسرائيل الضحية في كفة مقابلة.فبادرت الصحف إلي فتح صفحاتها أمام الأقلام التي كانت قد استنفدت، حتي الوحل مسألة الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية. ويوما بعد يوم، علي مدي شهر أو يزيد، بذل أصحاب هذه الأقلام، كل ما في وسعهم من جهد لاخراج نظريات، دعائية، إستبقت التحقيق والقضاء، في محاولة لحشر قضية فلسطين، والمعاداة للسامية، والإسلام، والجريمة، في جراب واحد. وبلغت هذه الحملة أوْجها في المظاهرتين اللتين ُنظِمتا تنديدا بعصابة البرابرة ، والتي شارك في إحداها رئيس الوزراء والوزراء جميعا، وفي مقدمتهم وزير الداخلية. لقد رفعت فيها الأعلام الإسرائيلية، واعتدي بالضرب علي أحد المارة الذي كان ملتفعا بحطة عربية حول العنق، أضف ألي إطلاق الكثير من الشعارات المنددة بالإرهاب، و بالإسلاميين الفاشستيين .كانت الرسالة من وراء هذه الحملة واضحة. إذ كان القصد منها الإشارة إلي أن عصابة البرابرة التي تكونت في الضواحي الباريسية، خطفت الشاب اليهودي، لأنها تشربت العداء للسامية في بيئة تلك الضواحي، حيث تُقرأ الوثائق السلفية، والأدبيات المؤيدة لكفاح شعب فلسطين ضد المستعمِرين الإسرائيليين. وهذا ينطوي ضمنيا علي اتهام الحركة الإحتجاجية التي شهدتها الضواحي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، أي قبل شهرين من وقوع الجريمة، بالمعاداة للسامية، وبالسلفية، وبالإرهاب. وينطوي أيضا علي القاء الشبهة علي من يريد التعبير عن احتجاجه ضد الجرائم الصهيونية في فلسطين. بمعني أن أي أنسان شريف يربأ بنفسه عن التواجد إلي جانب أفراد عصابة البرابرة . هكذا يستطيع من يرتكب الجريمة في فلسطين، أن يتظاهر ضد الجريمة في باريس. للمستعمِر وجهان. فالولايات المتحدة تسحق الإنسان في العراق من جهة، وتعيب علي بعض الحكومات إنتهاك حقوق الإنسان من جهة أخري. وبإستثناء المنظمات اليسارية التي أدانت الجريمة وأدانت في الوقت نفسه إستغلالها، تدافع الوزراء وممثلو الأحزاب السياسية إلي المشاركة في المظاهرة ضد عصابة البرابرة . ولكن حضور من هم في موقع المسؤولية لم يمنع الشعارات العدائية والثأرية التي رفعت ولا الإعتداءات التي وقعت علي المارة. فكأن كل سكان الضواحي وصموا في ذلك اليوم، بالإرهاب وبالجريمة وبالعداء للسامية وكأن عصابة البرابرة ضمتهم جميعا.ان وزير الداخلية الفرنسية السابق، ومعه كل الذين يدبجون المقالة تلو المقالة في وسائل الإعلام لاستخراج ما يدّعون أنه إرهاب سياسي وتدين ظلامي من جريمة يكاد لا يمر شهر دون أن يقع مثلها، تناسوا أن الجناة كأمثالهم من الخاطفين، طالبوا بفدية لقاء إطلاق سراح الرهينة، وتناسوا أيضا أن الشرطة وجهت إلي ذات العصابة التهمة بمحاولات إبتزاز عديدة استهدفت شخصيات، لا تنتمي بالضرورة إلي ديانة معينة، ناهيك عن أن أفرادها لم يكونوا كلهم أفارقة ومغاربة فقط. ولكن ما يكشف زيغ هذه الحملة، وانتهازيتها، يبقي بالتأكيد، الزعم بأن هؤلاء المجرمين الشذاذ، الذين اختلت عقولهم من بريق المدينة الغربية المُحرمة عليهم، يهتدون بفكرٍ ويؤمنون بعقيدة. وربما يكون وزير داخلية فرنسا الذي ادعي أن رجاله، عثروا علي وثائق فلسطينية في حوزة أفراد العصابة، لا يعرف عن فلسطين إلا ما يقوله أصدقاؤه والمستعمِرون الذين ينكلون بشعبها قتلا وإخلاءً. ولكنه كان سوف يفاجأ حتما، لو أرسل رجاله إلي منازل المفكرين التقدميين في فرنسا، ففي مكتباتهم وثائق كثيرة عن الطبيعة الإستعمارية العنصرية لإسرائيل. والحقيقة أن هذا الهياج الفكري، الذي ملأ الجرائد والمجلات، ليس إلا ّ تكرارا مملا، يستعر تارة بسبب الحجاب، وتارة أخري بسبب الرسوم. تختلف المناسبات، وتختلف الصياغات، ولكن الذين يكتبون هم ذاتهم في كل مرة، لا يأتون بجديد، وكأنهم يتبادلون الأدوار. وبالطبع، فإن في أجواء السياسة في فرنسا، ما يشبه الضوضاء التي تحجب الفقر والعطالة عن العمل والتمييز العنصري، وتمنع طرح هذه المشكلات للنقاش الجاد. أي بكلام آخر، وليس في هذا القول مبالغة، هناك قيود علي الفكر، واحتكار لوسائل التعبير، واختزال للأمور، وتبسيط لها.فهل يجوز للعقل مثلا، ان يسوّغ إلصاق فكر وقضية برئيس عصابة للسطو، لا قضية له، إلا قضية ذاته، يريد لنفسه مال الغير، إشباعا لرغباته ولشهواته. وهل يسمح العقل بأن تشمل الإدانة التي يستحقها رئيس العصابة هذا، كل أقربائه وجيرانه في الحي الذي يسكنه، وكل الملونين مثله؟لماذا يتغاضي الفكر في الغرب عن الإشارة إلي الفرق بين من هم في داخل الغيتو وبين من هم خارجه؟ لماذا تكون عنصرية هؤلاء محتملة ومقبولة، بينما عنصرية أولئك هي محرمة ومدانة؟ ألا يحق للمحاصرين في الغيتو الاّ يحبوا من يحاصرهم ومن لا يحبهم؟ من يتهددهم خطر الفقر، والتخلف والضياع والشذوذ والعنف والموت، سكان الغيتو أم الذين أدخلوهم إليه. أليس تضليلا، وظلما أن يوصم إفريقي بالعنصرية، ضد البيض الذين استعبدوا أجداده واستعمروا أرضه؟ أي منطق هذا الذي يوازي بين بهيمية المستعمِر وإنسانية المستعمَر؟لم ُيتهم Roger Cukierman، مسؤول المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا CRIF باللاسامية عندما قال لشارون من الواجب إنشاء وزارة للدعاية في إسرائيل، كما فعل غوبيلز في ألمانيا النازية، ولم ُيتهم بالعنصرية عندما قال، معلقا علي نتائج الإنتخابات الرئاسية الأخيرة والتي نال فيها الزعيم اليميني المتطرف في فرنسا نسبة عالية من الأصوات ما حققه Le Pen، سوف يدعو المسلمين إلي التفكير ولم يَمْثُل الرجلُ نفسُه أمام القضاء بسبب تصريحه التالي اننا نواجه خطرا فعليا. ثلاثة ملايين فرنسي، أعطوا أصواتهم Le Pen وخمسة ملايين من المهاجرين المغاربة يعلنون تضامنهم مع الفلسطينيين، نحن والإسرائيليون في مركب واحد. تضامننا معا يجب أن يكون كاملا . إنطلق السباق إلي قصر الإليزيه. ووزير الداخلية السابق في مقدمة المتنافسين. المهم هو ما سيقوله الفرنسيون وليس أبدا ما قاله، وما يقوله الوزير. ہ كاتب من لبنان يقيم في فرنسا8