امرأة وثلاثة رجال يجلسون ليلاً في إحدى حانات نيويورك، هم أبطال لوحة «صقور الليل» Nighthawks للرسام الأمريكي إدوارد هوبر. وهم أيضاً أبطال قصيدة «عصر القلق» The Age of Anxiety للشاعر الإنكليزي الأمريكي ويستن هيو أودن. القصيدة الطويلة التي تروي قصة هؤلاء الأبطال، واللقاء الأول في الحانة النيويوركية، والتعارف وكل ما يحدث لهم ويتناقشون حوله، خلال سهرة امتدت حتى الصباح. وتعبر عن كل ذلك موسيقياً سيمفونية عصر القلق، أو السيمفونية الثانية للموسيقار الأمريكي ليونارد برنشتاين، الذي قام بتحويل القصيدة إلى موسيقى جاءت في قالب سيمفوني مفعم بتأثيرات الجاز.
الشاعر والرسام
رسم إدوارد هوبر لوحته الشهيرة عام 1942، وبدأ ويستن هيو أودن في كتابة قصيدته عام 1944، ونُشرت طبعتها الأولى سنة 1947. وعلى الرغم من ذلك لا يمكن الجزم بأن أودن استلهم قصيدته من لوحة هوبر، فهناك بعض الأمور المشتركة بينهما، والتشابهات في عالم كل منهما الفني. وكما أن نيويورك حاضرة بقوة في معظم لوحات هوبر، فإنها حاضرة وبالقوة نفسها أيضاً في مجموعة من قصائد أودن. وكما يعبر هوبر بالرسم عن عزلة الفرد وشعوره بالوحدة، وضياعه في زمانه ومكانه وعصره ومدينته، كذلك يفعل أودن ويعبر بالكلمات المنظومة عن أدق مشاعر الوحدة وأعقدها. وعن العيش تحت وطأة الخوف والقلق في حياة قاسية يُفسدها كل كاره للحق والخير والجمال. أما المؤكد فهو أن الموسيقار الأمريكي ليونارد برنشتاين، اعتمد على لوحة هوبر، وكانت من مصادر إلهامه الكبيرة في تأليف افتتاحية السيمفونية، وإدخاله موسيقياً إلى عالم القصيدة، ونفوس هؤلاء الأبطال الأربعة.
الحقبة الوضيعة الكاذبة
يُعد ويستن هيو أودن من أهم شعراء القرن العشرين، وقد يكون الاسم الأهم بعد ت. إس. إليوت. وبين ميلاده عام 1907 وموته عام 1973 عاش أودن في فترة زمنية ممتلئة بالحروب والتغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية العنيفة. وكان يصف فترة الحروب تلك بالحقبة الوضيعة الكاذبة. غادر أودن إنكلترا عام 1939 وانتقل من يورك إلى نيويورك، وبعد سنوات قليلة حصل على الجنسية الأمريكية، فهو على العكس من إليوت كان إنكليزيا وصار أمريكياً، بينما كان إليوت أمريكياً ثم صار إنكليزياً، وأصبح محل نزاع بين البلدين. وفي هذا العام الذي انتقل فيه أودن إلى أمريكا، ألّف واحدة من قصائده الأكثر جمالاً وانتشاراً وتأثيراً، هي قصيدة «الأول من سبتمبر 1939» ويشير هذا التاريخ إلى غزو قوات هتلر النازية لبولندا، ومقدمات الحرب العالمية الثانية. تتشابه هذه القصيدة إلى حد ما مع قصيدة عصر القلق، فهي تتخذ من حانات نيويورك فضاءً لها، حيث يجلس أودن في إحدى هذه الحانات تحديداً في شارع 52، تحت وطأة القلق والشعور بالخوف من المجهول المنتظر، بينما تتساقط عليه الأخبار السيئة كقطرات الأذى.
يتميز أودن بقريحته الشعرية اللماحة وذهنه المتوقد، وتكمن براعته وفرادته في قوة الأسلوب ومتانة التراكيب، بالإضافة إلى المعاني المبتكرة، وموسيقية الكلمات وكبر مراميه الفلسفية، فقصائده هي أغنيات فكرية في أغلبها، إذا أمكن وصفها على هذا النحو. وهناك ما يجمع بين أودن وبرنشتاين أيضاً، إلى جانب «عصر القلق» التي ربطتهما كقصيدة وسيمفونية. فهما يشتركان في بعض المواهب الفنية والنقدية، حيث كان كل منهما مبدعاً وناقداً، ومعلماً له دوره في الشرح والإفهام، فأودن كان يُدرّس الأدب ومن المختصين بتفسير شكسبير، وكتاباته النقدية بشكل عام رائعة ومفيدة. ويُعد برنشتاين من أعظم شُراح الموسيقى في العالم، وأسلوبه فن في ذاته، وهو مرجع مهم لأي دارس للموسيقى.
في قصيدة «عصر القلق» يجلس أبطال أودن الأربعة، روزيتا وأمبل وميلان وكوانت، في حانة نيويوركية، لا يعرف أحد منهم الآخر، يحيط بهم القلق والخوف من كل جانب.
الحب في عصر القلق
في قصيدة «عصر القلق» يجلس أبطال أودن الأربعة، روزيتا وأمبل وميلان وكوانت، في حانة نيويوركية، لا يعرف أحد منهم الآخر، يحيط بهم القلق والخوف من كل جانب. وتجتاح أنفسهم موجات الغضب والتوتر، وفقدان اليقين في عالم أصابه الجنون، يمتلئ بالشر والكذب ورائحة الموت المنبعثة في الهواء. وسط كل هذا الرعب وتلك الفظاعة، يبحث أودن دائماً عن التواصل الإنساني وعن الحب أيضاً، فهو القائل «يجب أن نحب بعضنا بعضاً، أو نموت». فالكراهية لم تكن هي نقيض الحب عند أودن، وإنما كان الموت هو النقيض. والمعادلة لديه لم تكن إما الحب أو الكراهية، بل كانت إما الحب أو الموت. لأن الحب هو الحياة، والكراهية هي الموت، وهي نوع من أنواع القتل يمارسه من لا يقدر على تنفيذ القتل الفعلي. لم يكن أودن رومانسياً حالماً لا يدرك حقيقة البشر والعالم الذي يعيش فيه، لكنه اختار الحب بحرية واعية ومسؤولية كاملة. وكان يرغب في أن يكون هو «المحب الأكبر» دائماً، وفي أمريكا التقى أودن بحب حياته الذي استمر لأكثر من ثلاثين عاماً. وفي قصيدة عصر القلق يبحث أودن عن الحب أيضاً، ويجعله ممكناً أو محتمل الحدوث على الأقل، فبعد أن يتعارف الأبطال الأربعة ويحين موعد إغلاق الحانة، تدعوهم روزيتا لإكمال السهرة في شقتها. ويتبادلون الأحاديث والحوارات، ويستمع كل منهم إلى مونولوغات الآخر الفردية. وبعد أن يذهب ميلان وكوانت وتودعهما روزيتا عند المصعد، تعود إلى شقتها، وتتبادل مع أمبل بعض عهود الحب أو تصوراتهما حول الحب، الذي هو دعم لانهائي وغير مشروط في جميع الأوقات.
القلق الموسيقي
قام الموسيقار الأمريكي ليونارد برنشتاين، بتحويل قصيدة عصر القلق إلى موسيقى سنة 1949، وعلى الرغم من وضعها في قالب السيمفونية، إلا أنها تمتزج بشدة مع موسيقى الجاز، وقد وازن برنشتاين بمهارة بين الخط الكلاسيكي وخط الجاز في مؤلفه الموسيقي. فمن الصعب أن ينفي أحد عن هذا العمل صفة السيمفونية، أو أن يعتبرها مقطوعة جاز خالصة. وبعيداً عن انحياز برنشتاين لموسيقى الجاز واعترافه الكبير بها، بل دفاعه عنها أحياناً، وهو الكلاسيكي الكبير، إلا أن توظيفه للجاز في سيمفونية عصر القلق تحديداً، يبدو للسامع كضرورة فنية، كانت هي الأجدر في التعبير عن أجواء القصيدة، وفضائها المكاني الذي هو نيويورك أو مانهاتن. على العكس من قصيدة أودن الطويلة، جاءت سيمفونية برنشتاين قصيرة نسبياً، أو ليست من السيمفونيات الطويلة التي تزيد مدتها عن الساعة. فعزفها يستغرق 40 دقيقة تقريباً، أما الأوركستراسيون الذي أعده برنشتاين فهو لافت للغاية، وضخم إلى حد ما، يعتمد على البيانو بشكل أساسي، وهو يمثل موسيقى الجاز في هذا العمل. ثم الأوركسترا المكونة من الهوائيات الخشبية (الفلوت، البيكولو، الأوبوا، الكورنيه الإنكليزي، الكلارينيت، الباصون، الكونترباصون). والوتريات المكونة من (الكمان، الفيولا، التشيللو، الكونترباص، الهارب). والهوائيات النحاسية كالبوق الفرنسي والترومبيت والترومبون. كما وظف برنشتاين آلات التوبا والشيليستا والبيانينو في أجزاء قليلة من العمل.
قام الموسيقار الأمريكي ليونارد برنشتاين، بتحويل قصيدة عصر القلق إلى موسيقى سنة 1949، وعلى الرغم من وضعها في قالب السيمفونية، إلا أنها تمتزج بشدة مع موسيقى الجاز، وقد وازن برنشتاين بمهارة بين الخط الكلاسيكي وخط الجاز في مؤلفه الموسيقي.
تنقسم السيمفونية إلى ستة أقسام كالقصيدة، وتحمل عناوين الأقسام ذاتها، وهي، المقدمة، والأعمار السبعة، التي ترتبط على الأرجح بقصيدة بالعنوان نفسه لشكسبير. والمراحل السبع، واللحن الحزين، والحفلة التنكرية، والخاتمة. تبدأ السيمفونية بأصوات الكلارينيت الخافتة، ونغمات ضعيفة حزينة تنتهي إلى الفتور، هذه المقدمة الافتتاحية تصور المشهد الأول في الحانة، حيث يجلس أبطال القصيدة وحدهم، ويحيط بهم الليل والصمت والفراغ. وعبّر برنشتاين عن ذلك بانفراد الكلارينيت بينما جميع الآلات صامتة من حوله. ثم يدخل الكونترباص والفلوت والأوبوا، وربما مثلت كل آلة من هذه الآلات شخصية من شخصيات القصيدة. ومع دخول البيانو يبدأ قسم الأعمار السبعة، ويبدأ الجاز أيضاً، وفي الجزء الأول من السيمفونية بشكل عام، يُظهر برنشتاين معاني القصيدة، من خلال الفردية الطاغية على الموسيقى، بعد ذلك يدخل الهارب بذبذبات متسارعة، تلحق بها الوتريات مجتمعة، ويوحي صوت التشيللو تحديداً بالاضطراب والقلق، الذي يمهد للدخول العنيف للهوائيات النحاسية. كما وظف برنشتاين الكمان من أجل التعبير عن اللحظات الأشد حزناً. وعندما تشترك الأوركسترا بأكملها في العزف، يكون الوقع السيمفوني أقوى، أما لحظات الجاز الصريحة فتتمثل في انفرادات البيانو وعزفه المتقطع ونغماته القصيرة. كما يستخدم في التعبير عن الجزء الخاص بالحفلة والرقص، وعندما تفشل محاولات الفرح المصطنع وسط أجواء الحرب والخوف والقلق، تتصاعد الموسيقى بتوتر بالغ وتظل آخذة في الارتفاع بذروات متتالية.
تصف القصيدة أيضاً مظاهر الحرب والقصف، والدمار الذي يصنعه الإنسان، والأحاديث المطولة التي توضع على لسان الشخصيات، هي من منظور أودن بالطبع. وقد توحي القصيدة بأن الشخصيات الأربعة هي نفس واحدة، انقسمت إلى أربعة عناصر، واغترب كل عنصر عن الآخر. ومحاولات التواصل والالتئام بينهم أو بين بعض منهم، هي في حقيقة الأمر محاولة التئام النفس الواحدة، ولملمة شتاتها مرة أخرى، كما تتطرق القصيدة إلى معضلة الحفاظ على الإيمان، وإضفاء المعنى على الحياة. وتتحدث الشخصيات أيضاً عن الذين يدمرون العالم بدلاً من أن يغيروه، وعن الموت الذي ينثرونه في كل مكان، وعن احتياج هذا العالم إلى الراحة بعد أن يتطهر من كل آثامه وأدرانه. ويتساءل أحدهم، هل يحب المرء هذا العالم حقاً إلى درجة أن يكترث لأمره ونهايته. في شقة روزيتا يدور الجزء الأكبر من قصيدة «عصر القلق» وفيها يحاول الأبطال تجاهل أخبار الحرب التي تحاصرهم، ويسعون إلى اصطناع فرح مزيف يتمثل في الرقص، وكان الشاعر أودن يرى أن من الحلول التي يمكن بها مواجهة هذه الحياة، أن يرقص المرء حتى النهاية، أن يرقص حتى يسقط ساكناً إلى الأبد.
كاتبة مصرية
يحضرني و انا اقرأ هذا المقال الممتع وجه الشاعر الغرناطي فريدريكو غارثيا لوركا و نيويوركياته و الباعث على
–
حضوره ليس الا ذلك الشعور المضطرب الذي تبثه نيويورك في قلب فناني بداية القرن الماضي فيبدو انها
–
كانت مخيبة لآمالهم فكما في صقور الليل او عصر القلق قصيدة و لحنا او قصائد ديوان لوركا شاعر في نيويورك
–
استقر الانطباع عنها انها مدينة الضياع و القلق و اظن ان فكرة مزج الموسيقار ليونارد برنشتاين الموسيقى الكلاسيكية
–
بالجاز لهو عين التعبير عن القلق لاعتبار ان الجاز فن ولده وجع العنصر النيويوركي الافريقي تحياتي
تحياتي أخي خليل. شكرا لك على التذكير بلوركا وعلى تعليقك الرائع كالعادة. صحيح هذا الشعور موجود لدى أكثر من شاعر وفنان، حتى عمر الشريف قال أن نيويورك مدينة شرسة، أو ربما كان يقصد أمريكا كلها لا أذكر تحديدا، وقال أنه لذلك فضل العيش في فرنسا. لوحات هوبر عبرت عن كل هذا بمهارة فائقة. أما مزيج الجاز والكلاسيك فقد أتى أصيلا ومتماسكا، عندما تسمعه تقول لا غنى عن الجاز هنا فعلا.
شكرا لك يا دكتورة مروة على المعلومات الثقافية الفنية التي تقديمن في مقالات شيقة بأسلوب بديع.
شكرا جزيلا أستاذ هيثم. تحياتي لحضرتك. سعدت باطلاعك على مقالة موزار، وبحديثك عن فيينا وحضور موزار الدائم بموسيقاه في الأماكن العامة هناك.